بتـــــاريخ : 9/11/2010 8:20:33 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1219 0


    رفيق عبد السلام: الوسطية مفهوم يتحرك على أرض مأزومة

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : مصطفى عاشور | المصدر : www.islamonline.net

    كلمات مفتاحية  :

     



    Image
    د. رفيق عبد السلام أثناء الحوار

    هل أصبحت كلمة وسطية مثل جحر كبير تختفي فيه قوى كثيرة كل بحسب حساباته ورهاناته الخاصة، ولذلك يجب الحرص اليوم على إقامة الحد الفاصل بين الوسطية وبين التحلل.. وكلما زادت مساحة عطاءات المفهوم، زادت محاولات الاختطاف والتشويه، فما تم مع الوسطية تم مع غيرها.

    هكذا انطلقت إضاءات الباحث الدكتور رفيق عبد السلام -المحاضر بجامعة وستمنستر والباحث بمركز الجزيرة للدراسات- حول الوسطية التي لا تفهم إلا في ضوء الإسلام الذي غير من معنى الديني بأن صيّره دنيويا وغير من معنى الدنيوي بأن جعل له أعماقا روحية. فالعديد من الحقائق في هذا الدرس المعرفي الذي يقدمه رفيق عبد السلام تستحق النظر وتوضح حقيقة هي اتساع المساحة الدلالية للوسطية.. ولهذا السبب اتسع الجدل.

    حقيقة متعالية

     

    * ما هي الدلالات الحضارية والاجتماعية والسياسية للوسطية داخل الاجتماع الإسلامي العام..؟

    - الوسطية تعني في بعد من أبعادها الأساسية الابتعاد عن الشطط والغلو سواء في النظر أو السلوك لدى الأفراد والجماعات والهيئات، بما يستجيب لمقتضيات الفطرة السوية ومتطلبات الاجتماع السياسي السليم.

    والوسط يعني في إحدى دلالاته الابتعاد عن المواقف الطرفية التي تنأى بصاحبها يمنة أو يسرة، وهو إلى جانب ذلك يدل على العدل؛ إذ يقال فلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم.

     أما إذا تناولنا الوسطية بدلالتها الاجتماعية والسياسية العامة فهي تحيل إلى الهوية المؤسسة للأمة الإسلامية الموصوفة في القرآن الكريم بالأمة الوسط، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة/143، ووسطية الأمة، وكذا خيريتها، مقترنة بإرادة الشهادة على الناس والتواصل مع الآخرين وليس بالانكفاء والانعزال وإدارة الظهر للعالم.

    الإسلام في جوهره دين وسطي لا بمعنى أنه يأخذ الأمور من أوسطها بحساب رياضي بسيط، ولكن بمعنى أنه يتزين بفضائل الاعتدال والسماحة في التفكير وسعة النظر، وفي السلوك والعمل، وكذا الابتعاد عن الغلو والتطرف والشطط المهلك للأفراد والجماعات.

    الإسلام دين وسط وأمته الحاملة للرسالة هي أمة وسط؛ لأنه يستجيب لنداء الفطرة وأصالة الكينونة الإنسانية، وهذا ما يمنح هذا الدين جدارة خاتمية الأديان والهيمنة عليها، وما منح أمته مشروعية الشهادة على العالم بميزان القسط والعدل.

    لقد جاء الإسلام مناديا بالعودة إلى صفاء الحنفية الإبراهيمية، ومجاوزة الخلل الذي أصاب اليهودية بتحول الدين التوحيدي إلى دين قومي حصري في خدمة شعب الله المختار، حيث يحزن الله بحزنه ويفرح بفرحه، أو لك أن تقول هنا المبالغة في دهرنة الدين وتحويله إلى مجرد وعاء للتعبير عن مصالح ومطامح فئوية حصرية، كما جاء الإسلام لتجاوز الشطط الذي حل بالمسيحية بسبب الجنوح نحو الرهبنة المتعالية ومطلق الصفاء الروحي على حساب مطالب الحياة الدنيوية، وإن كان ذلك لم يحل دون إخضاع المسيحية لرهانات دنيوية وسياسية واسعة.

    الإسلام في جوهره دين توحيدي ليس بمعنى أنه ينفي تعدد الآلهة والأرباب فحسب بل هو إلى جانب ذلك توحيدي في نظرته للوجود والذات الإنسانية، رؤيته للديني والدنيوي، لصلة الروحي بالحسي، الفردي بالجماعي.

    بل إن الإسلام غير من معنى الديني بأن صيّره دنيويا وغير من معنى الدنيوي بأن جعل له أعماقا روحية وأبعادا غيبية.. فكل ما هو ديني وعلى نحو ما يبن ذلك فيلسوف الإسلام الكبير محمد إقبال هو دين وحقيقة روحية متعالية إذا نظرت إليه من زاوية، وهو حقيقة دنيوية ومتعينة إذا نظرت إليه من زاوية أخرى.

    لقد جعل الإسلام من أكثر التعبيرات الدنيوية والحسية مثل الممارسة الجنسية ضربا من العبادة والقربى إلى الله إذا مورست في إطار العلاقة الزوجية السليمة، وجعل من أكثر أشكال العبادة والتبتل حضورا في العالم وشهادة على الخلائق.

    الإسلام دين ينشد النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة بمواجهة الباطل والحمل عليه باتخاذ أدوات السلطة الدنيوية، ولا ينشد الخلاص الزهدي والروحي من خلال الهروب إلى العالم الآخر، ولعل التعبير البليغ التي قدمها المفكر أبو يعرب المرزوقي تلخص في هذه المعادلة: "القوة من دون حق عمياء والحقيقة من دون قوة عرجاء".

    عطاءات المفهوم

     

    * كلما زادت مساحة عطاءات المفهوم، زادت محاولات الاختطاف والتشويه، وهو ما تم مع الوسطية ومع غيرها.. فكيف نفهم حالة الاجتياح التي مورست ضد الوسطية؟

    - كل المفاهيم الكبرى تتعرض بشكل أو بآخر لعمليات توظيف وتشويه وانتحال سواء كان ذلك بشكل واعٍ أو غير واعٍ، ومن هذه الجهة أو تلك، بما يخدم أغراضها وأهواءها، وهذا ليس حالة خاصة بمفهوم الوسطية.

    المفاهيم وحتى العقائد حينما تتحول من بطون الكتب والمدونات وتغدو تيارات اجتماعية وسياسية بلحمها وعظمها تتحرك على الأرض تتجاذبها الأهواء والمصالح وضغوطات الواقع، فينضب بين أتباعها، وبطول الأمد، معين القيم الموجهة والأفكار الملهمة، وتتحول إلى مجرد أشكال باهتة، وأدوات ذرائعية لتبرير الراهن، ويزداد الأمر تعقيدا حينما تتم مأسسة الأفكار والمثل داخل جهاز حصري، سواء كان ذلك دولة أو تنظيما، فيغلب عندها منطق الجهاز على رحابة الفكرة، ويحل إجلال الأشخاص على تعظيم المبادئ والمثل.

    إن ما يعطي مشروعية الإصلاح في الإسلام هو مثل هذا التباعد بين نداء المثل وضغوطات الواقع، وبين تطلعات الأجيال المؤسسة والأجيال اللاحقة، بما أن الحقيقة الدينية تذوي في النفوس ويتراخى أثرها في حياة الأفراد والجماعات والأمم بتقادم الأجيال، وطغيان سلطان الموروث والعادة، وغلبة الأهواء والمصالح؛ لذا كان من اللازم أن تترى فيهم دورات الإصلاح والتجديد تعيد ربط الدين بنبض القلوب، ووصل ما انقطع من مثله بوتيرة الحياة المتقلبة.

    ولكن يبدو لي أن ما يعصم فكرة الوسطية اليوم، مثلما عصم الإسلام بالأمس واليوم من آفة التحريف والتوظيف جانبين اثنين:

    أولا: أنه لا توجد كنيسة حصرية في الإسلام يمكنها أن تستولي على الدين أو تحرف معانيه على النحو الذي ترغب فيه أو يعن لها، بل إن معاني الإسلام وقيمه تظل مبثوثة في عقول الناس وصدورهم، مثلما هي مسطورة فيما يتلونه من كتاب الله بين أيديهم بلا واسطة أو وصاية أو إدعاء عصمة من أحد، بما يجعل السواد الأعظم من المسلمين قادرين على تمييز الخيط الأبيض من الأسود، وما يدخل في دائرة الوسطية المحمودة وما يدخل في دائرة الإفراط أو التفريط، وما هو أصيل ومحمود من الوسطية وما هو توظيف وانتحال وتلاعب بهذا المفهوم.

    ثانيا: أن رموز تيار الوسطية ومنظريها الرئيسيين وعلى رأسهم الشيخ العلامة يوسف القرضاوي ما زالت بوصلتهم سليمة في ضبط هذا المفهوم والذب عن حدوده من آفتي الإفراط والتفريط، أي وضع الخطوط الفاصلة بين مدرسة الوسطية وتيارات التشدد والغلو من جهة، وكذا تيارات التفلت والتحايل التي تريد أن تستخدم عنوان الوسطية لخدمة أغراضها وأهوائها الخاصة من جهة أخرى؛ ولذلك ليس غريبا أن تجد الكثير من السهام تصوب اليوم للشيخ القرضاوي ومدرسة الاعتدال والوسطية من مواقع كثيرة، مثلما وجهت من قبل للشيخ المرحوم محمد الغزالي.

     

    * لكن التبرم من الاتساع الدلالي للوسطية جعل المفهوم يتحرك على أرض مأزومة.. لماذا ينظر البعض إلى الوسطية وكأنها مصطلح سيئ السمعة؟

     

     دكتور رفيق عبد السلام

    - كلمة الوسطية سيئة السمعة أولا عند من يكرهون الاعتدال والاتزان في الفكر والممارسة ويجنحون نحو التشدد أو التطرف لما اعتراهم ويعتريهم من تشوه في النفوس والعقول، أما البعض الآخر، وقد يكون محقا من بعض الوجوه، فقد بات يتبرم من كلمة وسطية لما خالطها من توظيف وتبرير لأوضاع منحرفة من قبيل ركوب مركب الاحتلال وحتى التعاون معه تحت دعوى الاعتدال والوسطية، فضلا عن دخول بعض الحكومات بأجندتها وحساباتها، وبأموالها ورجالاتها على الخط تحت دعاوى نشر الوسطية وثقافة الوسطية.

    فعلا لقد أصبحت كلمة وسطية مثل جحر كبير تختفي فيه قوى كثيرة كل بحسب حساباته ورهاناته الخاصة؛ ولذلك يجب الحرص اليوم على إقامة الحد الفاصل بين الوسطية وبين التحلل، بقدر الحرص على تمييزها عن تيارات التشدد والتطرف، حتى لا تتحول الوسطية إلى ذريعة لتمرير كل شيء وتسويغ كل موقف وتبرير كل حال.

    وعلى الجهة الأخرى ترى بعض المجموعات والنخب في الوسطية عقبة كأداء أمام التحايل على الدين واستخدامه بحسب أهوائها تحت دعاوى التجديد والإصلاح وما شابه ذلك، والبعض الآخر يكره الوسطية والوسطيين؛ لأنهم يزلزلون مواقعه ويفككون أسلحته مقابل تيار التطرف الذي يسهل له الأمور ويمهد له أرض المعركة بوعي أو من دون وعي.

    نحن نعلم أن بعض القوى الكارهة للمشروع الإسلامي تريد أن تدير رحى الدولة على أجسام وأرواح خصومها بحجة مواجهة التطرف، وهي تجد فعلا في جماعات العنف الأهوج وتيارات التشدد من الغفلة وحتى السذاجة السياسية ما يبرر ذلك، وقديما قيل يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه، بيد أن هذه القوى تواجه بعقبة من تيارات الوسطية المتسلحة بحسن التقدير ورجاحة البصر البصيرة بما يحول دون بلوغ مراميها وتحقيق أهدافها، وهذا هو مبرر حملها الشديد على التيارات الوسطية.

    الوسطية استحقاق

     

    * في الرؤية القرآنية ربط بين الوسطية والشهادة على الناس، والفقهاء قديما حولوا ربما لسياقات تاريخية رؤية العالم إلى مدارات وخطوط للقتال العاجل أو الآجل.. ألم يئن للذين فقهوا تأصيل الشهادة بعيدًا عن عبء الموروث لصالح رحابة النص؟

    - في السياق القرآني يوجد ربط بن الوسطية والشهادة على الناس؛ لأن الوسطية هي في أصلها سبب وعلة الشهادة على الخلق، ومن يفقد خصلة الوسطية والاتزان يفتقد مبرر الشهادة والقوامة على الناس من حوله.

    الأمة الإسلامية فعلا هي أمة الخير والخيرية، بيد أنها ليست تحديدا جوهريا ثابتا ولا تنال أحقيتها لرفعة عرقية أو جينية بل هي تنال مثل هذه الرفعة بمقدار حمل مسئولية الرسالة الكونية والامتداد العالمي، وخيرتها تظل مشروطة بتحمل مسئوليتها الكونية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {‏كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}‏ ‏(‏‏(‏آل عمران‏:‏ 110‏)‏‏)‏.

    إنها أمة مفتوحة ومشرعة الأبواب والجنبات لمن يريد أن يدخل في طائلتها وتحت ظلالها، وليست نحلة منغلقة على نفسها، الأمة جعلت في أصلها التكويني للخروج إلى العالمين، أو بتعريف بعض فقهاء الشافعية أمة دعوة ممتدة إلى ما حولها من أمة الاستجابة.

    لذلك يبدو لي أن فكرة تشطير العالم إلى دار إسلام ودار حرب لا تستقيم أصلا مع معاني الكونية المفتوحة والجامعة التي نادى بها الإسلام ولا مع وحدة المصير البشري، وربما يعود ذلك إلى تأثير الفقه الروماني الذي كان يقوم على تقسيم العالم إلى أمة الرومان وجموع البرابرة من حولها، وربما يعود أيضا لطبيعة العلاقات الدولية التي كانت تقوم على حد السيف والعدوان، وقد انعس ذلك بشكل أو بآخر في الفقه السياسي الإسلامي التقليدي تقسيما للدور والأديان، ومهما كانت أسباب ذلك فإن هذا المفهوم لم يعد له من مقومات الاستمرار أصلا، وأغلب مفكري الإسلام اليوم ينحون هذا المنحى.

    إن من علامات الإعجاز فعلا في هذا الدين أن خاطب عرب الجزيرة العربية في صحاريهم وفيافيهم بنداء العالمية والكونية في وقت كان العرب متمركزين حول حدود القبيلة وسل السيوف في وجوه بعضهم ولا يفقهون شيئا مما يجري حولهم، بله ما يجري في العالم، خاطبهم بنداء يا أيها الناس، ويا أيها الذين آمنوا، ولم ينادهم باسم القبائل أو العشائر والبطون.

    إنه لا يمكن القيام بواجب الشهادة على الناس ونحن نتحدث بلغة الطوائف والمذاهب والعشائر، أو بالجنوح نحو الغلو والتطرف والتعسير؛ لأن النفوس السوية تأنف عادة الانسياق نحو المواقف الطرفية وتميل تلقائيا نحو الاعتدال والاتزان الوسطي، أي إلى من يستجيب لدواعي الفطرة السليمة والحاجات الأصيلة عندهم، قد تجتمع قلة من الأفراد، وتحمل نفسها حملا على التعسير وتضييق رحمة الله، ولكن مثل هذا التوجه لا يوحد الجماعات ولا يبني الأمم، بله جمع البشرية قاطبة.

    بل أقول إن جماعات التشدد والتطرف غالبا ما تنهشها الصراعات الداخلية، ويأكل بعضها بعضا مثل النار الموقدة التي تأتي على الأخضر واليابس، فأهل التشدد والتطرف يتقنون الحذف والقضم، ولا يحسنون الجمع وتوليف العقول والقلوب.

    الإلحاق والتوبيخ

     

    * هل تستقيم الشهادة التي تم حصرها في القراءات النقدية لحركة الآخر، بتوهم أن الشهادة هي إلحاق الاكتشافات العلمية للقرآن أو توبيخ أي محاولة ربما لا تنسجم مع رؤيتنا.. بين تلك الثنائية كيف تتحرر الشهادة، وتنجز نفسها فعلا ومنهجا خلقه القرآن؟

    - إن الوسطية مرتبطة بمعنى الشهادة على الناس والشهادة لا يمكن تحقيقها إلا بمعرفة أحوال الأمم وأوضاع العالم من حولنا، وحمل هموم الإنسانية والتفاعل مع أشواقها وحاجاتها وليس في الانعزال والاستسلام للوساوس والمخاوف، ومن لا دراية له بأحوال العالم وأوضاع الأمم، ولا إرادة له في الفهم والتواص لا يمتلك مقومات الشهادة على الخلق.

    إن إحدى وجوه القصور الكبرى التي تطبع فكرنا الإسلامي اليوم تتمثل في الانحسار داخل حدود محلية بالغة الضيق وكأنه يناجي نفسه ولا يخاطب غيره، هذا إلى جانب غلبة الحيطة والحذر وطغيان الشعور بتهديد الهوية؛ إذ يخيل للكثير أن بيضة الإسلام مهددة في الصميم، ومن ثم لا مناص إلا في التحصّن خلف قلاع المحافظة والجمود، والإعراض عن كل جديد ومفيد بحجة حماية الهوية من والانفراط والتحلل.

    يجب أن نطرد هذه الوساوس من رؤوسنا ونقتنع بأن الإسلام بخير وعافية وهو بات اليوم أصلب عودًا مما كان عليه في القرون المنصرمة، بل إن الإسلام وعلى نحو ما تسجل ذلك تقارير الغربيين قبل غيرهم هو من أكثر الديانات انتشارا في العالم، وتقدم في مواقع وقارات من العالم ما كان له حضور فيها أصلا في زمن سيادته وعزه، برغم تصرم أوضاع المسلمين وضعفهم في مجالات القوة والاقتدار العسكري اليوم، ولعله من حكم الله في الكون أن يجعل للضعيف بأسا وقوة.

    صحيح أن الرقعة الإسلامية ما زالت تدور فيها رحى حروب الأمريكان الساخنة والباردة من العراق إلى أفغانستان، ومن فلسطين والصومال وغيره، ومع ذلك هذا لن يغير كثيرا من وجهة التاريخ واتجاه المستقبل.

     الحقيقة أن الهيمنة الغربية مهما صاحبها من مظاهر جبروت القوة تتجه في خطها البياني نحو التراجع التدريجي مثلما يتحسس عالم الإسلام طريقه نحو الصحو والنهوض، وإذ تجمعت الشروط التاريخية لنهوض أمة من الأمم فلن يحول دونها كثرة الشد والضغط ومحاولات التعويق والخنق، وإذا ظهرت أمارات الهرم على أمة من الأمم فلن ينفعها مزيد التمحّض للقوة العارية وتكشير الأنياب على نحو ما يرشدنا بذلك العلامة ابن خلدون.

    صحيح أن الغرب اليوم ليس في وضع المتهالك المترنح، وكذلك أوضاع العالم الإسلامي ليست على ما يرام، بل كثيرا ما تبعث على الضيق وحتى اليأس، ولكن نحن نتحدث هنا عن وجهة عامة وروح غالبة يمكن التقاطها خلف ما يجري على السطح الخارجي وما يمور به من أحداث.

    لقد ضمرت الطاقة الدافعة للحداثة الغربية بسبب ما أتى عليها من مطارق النقد الجذري التي هزت جذورها من القواعد، كما تبددت الكثير من المبشرات الكبرى لهذه الحداثة في جلب مزيد من الرخاء والتقدم ونشر الحرية، ومن المفترض أن يكون الفكر الإسلامي اليوم أكثر توازنا وسعة أفق في هضم الحداثة والهيمنة عليها باتجاه تصويب أخطائها وتخليقها بروح الإسلام ضمن أفق العالمية والكونية.

    فعلا لم تعد هذه الحداثة الغربية التي أتتنا محمولة على ظهور الدبابات والبوارج الحربية تثير فينا اليوم مظاهر البهتة والخوف أو حتى الانبهار والانسحاق على نحو ما كان عليه الأمر مع أجدادنا المفجوعين بهول الاجتياحات الغربية في مطلع القرن التاسع عشر مثلا، بيد أن النخب الإسلامية ما زالت مضطربة في أمرها، وغير واثقة من نفسها في الخروج إلى العالمين والشهادة على الخلق.

    ولعلنا اليوم في أمس الحاجة إلى تجديد الثقة في النفس، وقدح زناد الفكر والاجتهاد الحي في قضايا ديننا وعصرنا، بعيدا عن آفتي التقليد الجامد والاستنساخ البليد للأجداد وللآخرين، وفتح دروب جديدة في الفكر والعمل.

    الوسطية المقاطعة

     

    * هل ترون في تقاطع الوسطية مع بعض مفردات المشروعات الغربية في المنطقة وخاصة المشروع الأمريكي مدعاة للتخلي عن بعض مقولاتها ومواقفها؟

    - لا أرى في الجوهر تقاطعا بين المشاريع الغربية في المنطقة ومشروع الوسطية وإن بدا شيء من ذلك في ظاهر الأمر، بل إن الفكر الوسطي يمثل العقبة الرئيسية أمام امتداد المشروعات الغربية التوسعية في المنطقة؛ لأنه الأقدر على فهم آليات السيطرة بوجهيها الصلب والناعم، وكذا مواجهة التحديات التي يفرضها العصر بروح تأسيسية وبنائية تستطيع التقاط حاجات الواقع وسلم الأولويات، بدل النزوعات العدمية التي تطبع تيارات التشدد والتطرف التي لا تستطيع أن تذهب بعيدا عما يطفو على السطح من أعراض مضللة.

    قد يخيل لهذه الجماعات أن القيام ببعض العمليات العنفية الطائشة هنا أو هناك، وإهدار دم الأبرياء في هذه العاصمة الغربية أو تلك، جدير بأن يقلب الأمور رأسا على عقب ويغير توازنات القوة التي استقرت لقرون متتالية، ولا تفهم أن مسار نهوض الأمم خط طويل المدى ويستغرق أجيالا متتالية مثلما تستغرق حالة تراجع الأمم أجيالا وأزمانا طويلة، بل إن هذه التيارات العنفية عند التحقيق يتبين أنها ليست إلا عرضا من أعراض التأزم التي يعانيها الاجتماع السياسي الحديث، وهي أشبه ما يكون بالإجابات المشوهة والخاطئة على أوضاع مأزومة في أصلها، أي هي استسلام لنوازع العاطفة وتنفيس مشاعر الغضب والنقمة منها إلى تحكيم العقل وحسن تقدير مآلات الأمور.

    أنا مقتنع بأن ديناميكية الواقع أصلب وأمتن بكثير من المخططات الباردة والإستراتيجيات الكبرى التي تسطر في المكاتب، وهذا ما يجعل من القوى الاجتماعية والسياسية الوسطية قادرة على الالتفاف على المشاريع الغربية وتصريفها في الوجهة التي لا يتوقعها ولا يرغب فيها صانعو السياسات الغربيين أنفسهم.

    خذ مثلا مشروع الإصلاحات والدمقرطة الذي روجت له الإدارة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وجعلته عنوانا لحروبها المفتوحة في المنطقة، فقد تمكنت القوى الإسلامية والوطنية في مصر وفلسطين ولبنان مثلا من التقاط مشروع الإصلاحات الأمريكي، وأعادت توجيهه في وجهة أخرى غير تلك التي خطط لها، فكان نتيجة ذلك أن اضطر الأمريكان إلى ابتلاع غصتهم وإغلاق ملفات الإصلاح جملة، ومنه العودة إلى المربع الأول الذي ألفوه جدا، أي العودة إلى أسس سياستهم التقليدية في المنطقة والقائمة على ضمان الأمن والاستقرار وحماية إسرائيل وضمان تدفق النفط على أي اعتبار آخر.

    المشاريع السياسية لا تحكمها الاعتبارات النظرية فقط بل إن للحامل السياسي والاجتماعي النصيب الأوفر في تحديد مساراتها ووجهتها العامة، ويبدو لي اليوم أن مشكلة الغربيين تعود أساسا إلى كون القوى التي يعولون عليها ويثقون فيها ضعيفة الامتداد مهتزة الشرعية والأركان بما يجعلها عاجزة من أن تكون رافعات حقيقية لهم على أرض الواقع.

    وأخلص من كل ذلك إلى القول بأن الوسطية ليست موقفا ضعيفا ومهتزا كما يحلو للبعض أن يصورها بل هي موقف صلب بمضاء العزم وقوة الإرادة المصحوبة بإبصار العقل بحيث يثبت الإنسان في المواقف والمواقع التي تتطلب ثباتا، ويتخلق بالمرونة والملاينة والسماحة وسعة الصدر في المواقع التي تقتضي ذلك.

    إن الأوضاع المتفجرة التي يمور بها عالم الإسلام اليوم كثيرا ما تكون مشوهة للوعي ومربكة للفعل، بل تدفع دفعا نحو افتقاد التوازن والدخول في متاهات الفوضى تنفيسا للعواطف وتصريفا للأهواء بدل تحكيم تحكم ميزان العقل والحكمة، ولك أن تقول هنا تشويه بنيات النفوس ومكامن الوعي، خصوصا عند قطاعات الشباب، الأمر الذي يفرض أعباء كبيرة على الفكر الوسطي في مواجهة هذه الضغوطات والتشبث بروح الوسطية والاعتدال وسط هذه الأمواج العاتية ومناطق الضغط الكثيرة والمتأتية من كل حدب وصوب.

    وسطيون ولكن..

     

    * هل الوسطية موقف ورؤية واحدة؟ أم من الممكن أن تكون هناك وسطيات داخل الرؤية الإسلامية؟

    - يجب أن نحكم على الأمور بمآلاتها على الأرض، وليس بما يدعيه هذا الشخص أو ذاك، أو بما تقوله هذه الجهة أو تلك عن نفسها وعن غيرها.

    كثيرا ما يميل الأفراد والجماعات إلى تخير الموقع الأمثل لهم سواء كان ذلك بحق أو على سبيل التوهم، كأن يضع نفسه في موقع الوسطي ويدمغ الآخرين بالتطرف، بيد أن الذي يمتلك جدارة إطلاق الحكم وتصنيف الرجال والجماعات هو الضمير الجمعي للناس ومدى قبولهم أو إعراضهم لما يطرح عليهم من أفكار، وهذا هو أحد المعاني المتضمنة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلالة).

    التطرف ليس موقعا ثابت الخطوط ومحدد العناوين دائما وكذا هو الأمر بالنسبة للوسطية والوسطيين، بل هما يأخذان وجوها وتعبيرات مختلفة، بل إن التطرف والتشدد يمكن أن يتسرب إلى هيئات وجماعات كثيرة بما في ذلك المعروفة بالاعتدال، ولذلك لا بد من امتلاك الحصانة الفكرية السياسية الكافية التي تحول دون امتداد هذه الآفة، خاصة في ظل هذه الظروف المأزومة في العالم الإسلامي والتي تدفع دفعا باتجاه فقدان خصلتي الاعتدال والتوازن.

    من الوسطية والاعتدال أن توضع الأشياء في مواضعها وتعمل الوسائل بحسب الأوضاع والأحوال والحاجات، وبهذا المعنى أقول يجب أن يكون الإنسان سلفيا إذا قصد بالسلفية هنا التشبث بالأصول والثوابت وإعمال النظر الحر والاجتهاد المتبصر في النصوص بعيدا عن آفة تقليد الأولين والآخرين وبعيدا عن الجداليات الكلامية الغيبية، ويجب أن يكون المرء إخوانيا إذا قصد بذلك مدرسة البنا الداعية إلى إحياء بواعث العمل ومحفزات النهوض الحضاري الشامل، ويجب أن يكون جهاديا حينما يواجه غائلة العدوان والاجتياح الظالم لتحرير الأرض وحماية العرض، أما من هو المتشدد فهو إجمالا من يعجز عن تأسيس الوفاقات العامة، وينهك الجسم الإسلامي بمزيد من الصراعات والتمزقات.

     

    * هل للوسطية ملامح وسمات ومعايير من الممكن رصدها وقياس مدى الانحراف أو الاقتراب منها؟

    - إن مقياس الحكم على الوسطي من عدمه لا يقوم على صنع قالب جاهز، ولا باصطناع مسطرة تقيس الأحجام والأشكال بالسننتمترات والملليميترات، بل الوسطية هي روح وثقافة عامة ووجهة في التفكير وتقليب الأمور مثلما هو أمر التطرف والتشدد، ومع ذلك أقول إن هنالك جملة من المؤشرات أو العلامات الدالة يمكن أن يقاس المرء أو الجماعات والهيئات العامة على ضوئها قربا أو نأيا عن الوسطية، من ذلك:

    -إن الوسطي هو الذي يوازن بين الخير والشر، وبين مقادير الحق والباطل، وبين المصالح والمفاسد ليرجح بينها، ويدفع باتجاه تغليب كفة الأولى على الثانية، فالوسطي بحق هو الذي يتحلى بروح النسبية والقدرة على إبصار تعدد الألوان والأشكال والتقاط التفاصيل والابتعاد عن الإطلاق في الفكر والعمل.
    -الوسطي هو الذي يوازن بين الثوابت والمتغيرات، فلا يرى الأمور بعين النسبية السائبة المطلقة ولا بعين محنطة وجامدة، أي الوسطي فعلا هو الذي يدرك الحاجة إلى التطور والتجدد، بقدر الحاجة إلى الاعتصام بالثوابت التي هي أساس حماية النوع الإنساني وتحصين الكرامة الإنسانية.
    -الوسطي هو الذي يقوم على جبر الكسور ورأب التصدعات، بدل تعميق الصراعات والمنازعات، وهو الذي يرتب سلم الأولويات فيغلب الأهم على المهم، أي يغلب الإنساني على الخصوصي، والأمة على الطائفة والمذهب، والأوطان على الأحزاب والجماعات.
    -الوسطي هو الذي يتحلى بالوعي التاريخي الثاقب، بحيث تكون عينه الأولى على النصوص والأخرى على الواقع، من موقع الاقتناع بأن حاجة المسلم في تمعن النصوص توازي حاجته إلى تحسس الأرض التي يقف عليه وفهم الواقع وموازين القوة التي يتحرك ضمنها.

    إن أوضاع العالم الإسلامي المتفجرة اليوم وما يطحنه من أزمات داخلية وخارجية تستدعي ضرورة التحلي بهذه الخصال التي ذكرناها أعلاه قطعا لدابر الفتنة والتطرف وإشاعة لثقافة السماحة والتعدد بين المسلمين.


     


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()