|
د. علي جمعة "مفتي مصر" |
رفض مطلق، أو قبول مطلق أو انتقاء عشوائي.. تلك أوجه التعامل الحالية مع التراث كما يرى أ.د. علي جمعة مفتي الديار المصرية، مؤكدًا أنها جميعا قاصرة عن إعطاء صورة حقيقية لهذا التراث.
جاء ذلك خلال الدورة التدريبية التي أقامها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع معهد الدراسات المعرفية بالقاهرة، تحت عنوان "في المنهجية الإسلامية" في الفترة من 7: 14/2/2009 بفندق "فلامنكو" بالعاصمة المصرية القاهرة.
وقد أنشئ المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1981 في الولايات المتحدة الأمريكية، ليبدأ منذ ذلك الوقت أعماله في خدمة الفكر الإسلامي والمعرفة الإسلامية، وقد نشر المعهد عام 1982 خطة تفصيلية تمثل دليل العمل في ميدان إسلامية المعرفة وخدمة الفكر الإسلامي ليستعين بها المفكرون وطلاب العلم والمعرفة الإسلامية، وقد تم نشر الطبعة الأولى منها تحت اسم "islamization of knowledge" ، عام ( 1402هـ - 1982م ) ، وقد ترجمت إلى العربية عام (1404 هـ - 1984م) تحت عنوان "إسلامية المعرفة".
ضوابط للتراث
وتركزت الورقة التي قدمها مفتي مصر حول "المصادر الأساسية للمنهجية الإسلامية"، وقد طرح من خلالها عدة مصادر هي: الوحي والتراث والوجود، وبرغم الإشكاليات والاختلافات التي دارت حول مدى اعتبارية هذه المصادر لمناهج البحث أشار جمعة إلى عدة ضوابط يمكن طرحها فيما يتعلق باستخدام هذه المصادر.
ففيما يتعلق بالقرآن أكد أن هناك عدة معالم أساسية ينبغي الالتزام بها في التعامل مع القرآن كمصدر للبحث منها أن هذا القرآن كتاب هداية يمثل المرجعية العليا التي يطمئن العقل والقلب إليها، لكي يأخذ عنها ويستنبط منها عناصر تحرُّكه الذهني والنفسي والسلوكي، مشيرا إلى وجود ضوابط لفهم القرآن منها: الكتاب نفسه، السنة الشارحة له، اللغة، الإجماع، المقاصد الشرعية.
وفيما يتعلق بالتعامل مع التراث أكد في إجابته على تساؤل كيف نتعامل مع التراث؟ على عدة ضوابط ضرورية لهذا التعامل وهي:
أولا: ضرورة وضع مصادر للحكم بها على التراث، الوحي (الكتاب والسنة)، الوجود (الكون والإنسان والحياة)، بحيث لا يكتسب التراث قداسة بعيدا عن تلك المصادر.
ثانيا: التعامل المنهجي الذي نبتعد فيه عن القبول المطلق أو الرفض المطلق أو الانتقاء العشوائي، وأيضا التعامل التكاملي في جوانبه النصية والفكرية والعرفانية، وكذلك في مصادره التي تعالج نواحيه المختلفة وأزمنته المختلفة وعلومه المختلفة.
محاور وأوراق
دورة "المنهجية الإسلامية" كما يؤكد أ.د عبد الحميد أحمد أبو سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، جاءت ضمن العديد من الحلقات الدراسية التي عقدها المعهد بهدف إكساب المتدربين بعض المهارات العقلية والعملية في مجالات التفكير والبحث والسلوك، بمرجعية إسلامية تتكامل فيها توجيهات الوحي وأحكامه الشرعية مع المعرفة في المجالات الإنسانية والاجتماعية والطبيعية.
وقد تضمنت الدورة محاور جاءت في ثلاثة أقسام: الأول: مفاهيم ومبادئ المنهجية الإسلامية، والثاني: مصادر ومناهج البحث، والثالث: تناول النماذج التفسيرية وأدوات البحث من منظور إسلامي.
ففي المحور الأول قدم د. عبد الحميد أبو سليمان بحثا بعنوان "الرؤية الكلية الإسلامية" أكد فيه ضرورة استعادة "أصالة الرؤية الكونية الحضارية" كما أسماها، مشيرا إلى أن هذه الرؤية قد تشوهت بقدر كبير.
وعزا أبو سليمان هذا التشوه إلى أربعة عوامل أساسية هي:
- انهيار الخلافة الراشدة واستتباعها بالملك الأموي العضوض.
- الآثار والنتائج الأساسية السلبية للفتوحات الإسلامية، والتي أدت بحسب أبو سليمان إلى تأثير المجتمع المسلم بعقائد وفلسفات هذه المجتمعات، ولا سيما صورية منطق الفكر الإغريقي وأسطورة عقائده وفلسفته.
- الأزمة الواهية الزائفة التي ابتدعتها المعتزلة والفرق الكلامية حول "تعارض العقل والنقل" في الإسلام.. وما جره من انقسامات فرعية أثرت بالسلب على تلك الرؤية الكلية.
- تسلط الجانب السياسي القبلي والشعوبي _كما يسميه أبو سليمان_ على مقاليد الأمة..
وقد اعتبر أن هذه العوامل ما زالت تسيطر على العقل والواقع الإسلامي وتجذرت فيه، مما أدى إلى تشويه تلك الرؤية الكونية القرآنية الحضارية، مشيرا إلى أهم عناصرها، وهي: التوحيد، الاستخلاف، العدل والاعتدال، الحرية، المسئولية، الغائبية، الأخلاقية، الشمولية، الشورى، السلام، الإصلاح والإعمار، الجمال.
الباراديم الإسلامي.. هل من جديد؟
"النموذج التفسيري" أو "النموذج الإشاري" أو "النموذج المعرفي" ثلاثة مفاهيم رأى الحضور في الدورة أنها مترادفة على الرغم من تبني البعض واحدًا منها دون الآخر، إلا أنها تعني في النهاية تلك الرؤية المتماسكة التي ترسخت في آذاننا وأعيننا بحيث لا نرى الواقع إلا من خلالها، وتتحكم في فهمنا للأشخاص والأحداث، وتفسيرنا للوقائع والظواهر.
وقد حاولت دورة "المنهجية الإسلامية" تقديم "نماذج تفسيرية" يمكن من خلالها إيجاد أدوات منهجية لتفسير الظواهر وحل المشكلات في ميادين العلم المختلفة، وقد تباينت رؤى هذه النماذج ما بين الاعتماد على القرآن كمصدر أصيل تفسيري، وما بين التراث، وعلم المقاصد الشرعية.
ومن أبرز الأوراق التي قُدمت في هذا المحور ورقة أ.د سيف الدين عبد الفتاح حول "المنهجية وأدواتها من منظور إسلامي"، حيث قدم مدخلا مقاصديا من أجل صياغة الأدوات المنهجية، وأكد أن مدخل المقاصد الشرعية يمثل نموذجًا معرفيًّا متكاملاً، بما يشير إليه المدخل من رؤية كلية وعمليات منهجية، وتكمن إمكانية هذا النموذج المقاصدي -الذي قدمه- في تأسيس أدوات منهجية في دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، تمتلك رؤية في التأصيل وإمكانية في التفعيل وتجليات في التشغيل.
أما أ.د عبد الرحمن النقيب فقد أشار في النموذج التفسيري للتربية إلى ضرورة تأصيل المفاهيم التربوية؛ لأنها في الإسلام تتسع وتكون أكثر ثراءً عن نظيرها في المفهوم الغربي، كما أنها ترتبط بالخالق وفق نموذج معرفي كوني توحيدي، وأكد أن غياب تلك الدلالات من العقل التربوي هو المسئول عن كثير من مشكلات التربية والتعليم في عالمنا العربي-الإسلامي، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعداد كوادر إسلامية في ميدان تمتلك المنهجية الإسلامية.
أما في ميدان الاقتصاد فقد نبه أ.د رفعت العوضي إلى وجود صعوبات تتعلق ببناء نموذج تفسيري للاقتصاد الإسلامي؛ ولذلك اقترح أن يتضمن هذا البناء تحديد الأساسيات المعرفية التي يقوم عليها النموذج التفسيري الإسلامي، والتأسيس النظري في النتاج العلمي في التراث الإسلامي المتعلق بميدان الاقتصاد (الثروة والمال)، ثم بعد ذلك اختبار للنموذج الإسلامي من خلال موضوعين هما العدل والإعمار.
وفي ميدان علم الاجتماع أوضح أ.د علي ليلة عجز النظرية الاجتماعية الغربية على تفسير الواقع الحالي؛ لأنها قامت في الأساس على تقديم نموذج تفسيري لمجتمعات صغيرة، بالإضافة إلى ضعف الاتفاق حول مفاهيم النظرية الاجتماعية الغربية، كما أن دور الدين في بناء النظرية أمر ثابت في المفهوم الغربي أكده ماكس فيبر وغيره.
وطرح ليلة اقتراحاته لبناء نموذج نظري كمدخل لبناء النظرية الاجتماعية الإسلامية، والتي تتضمن ثلاثة اعتبارات:
الأول: الاستناد إلى الوثائق الإسلامية القرآن والسنة (الوحي)، والثاني: الاستناد كذلك إلى مضامين تلك الوثائق في التفصيلات الدقيقة التي ترتبط بحياة والبشر، أما الثالث فيشمل الإسهامات المباشرة للعلماء المسلمين في هذا الميدان ولاسيما "ابن خلدون" الذي قدم نظرية اجتماعية تظهر فيها الروح الإسلامية بأوضح ما يكون.
كما أشار د. علي ليلة إلى فوضى العلاقات السببية في النظرية الغربية، بينما السببية في التفسير الإسلامي يمكن تحديدها في ثلاثة مستويات الأول: السببية الكلية ومصدرها الله، الثاني: السببية الإنسانية ومصدرها الإنسان، وحريته الممنوحة من الله.. والمستوى الثالث وهي السببية المادية ومصدرها نواميس الكون والمادة.
|