بتـــــاريخ : 9/11/2010 8:06:45 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1604 0


    حداثة الصراع والنفي وتأسيس عنف الدولة الحديثة

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : د. مازن النجار | المصدر : www.islamonline.net

    كلمات مفتاحية  :

     



    Image
    د. مازن النجار

    في فبراير/شباط 2003، نشر المفكر الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري في "الأهرام" مقالا بعنوان: "الحداثة ورائحة البارود"؛ تعرّض فيه للسياق الحداثي الأوروبي، والسمات العنفية الغالبة -بامتياز- على التاريخ الأوروبي الحديث، والتجربة الغربية الحداثية بمجملها.

    لم تكن مصادفة أن يكون القرن التاسع عشر -الذي شهد ذروة تجلي الحداثة في مركز العقل الأوروبي والعالمية الأوروبية المهيمنة- هو أيضا قرن الاستعمار ومشروعات الغرب الإمبريالية التي اجتاحت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وليس هناك من ريب في وجود علاقة جدلية، تفاعلية وتبادلية، بين فكر وروح وفلسفة الحداثة وبين توجه أوروبا الأصيل نحو العنف والنهب والاجتياح؛ فهذا التوجه ينتج ويشكّل فكرا صراعيا ونفيا وعنفا ضد الحضارة والطبيعة والآخر الأوروبي وغير الأوروبي، وقد تمثل ذلك في أفكار القرن التاسع عشر أيضا: الداروينية الصراعية (البقاء للأصلح)، والنتشوية (البقاء للأقوى)، وعبء الرجل الأبيض في استعمار شعوب العالم والارتقاء بها، وشرعية السيطرة بالاكتشاف الجغرافي، وفكرة التقدم والاستهلاك اللانهائي، والمنحنى التاريخي الصاعد، واستبدال الفلسفة بالنبوة بعد ترذيلها والجحود بها.

    من ناحية أخرى، قدمت هذه المنظومة الفكرية حداثة "غير ربانية"، بحسب البروفيسور سيد حسين نصر؛ مما يفسر العنف الأوروبي البالغ حد الإبادة تجاه الحضارات والموارد الطبيعة، والمنظومات البيئية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية الهشة، والشعوب ذات الثقافات المسالمة، وكافة التكوينات التاريخية والحضارية المركبة والقديمة خارج النسق الأوروبي.

    بيد أنه لا يمكن تناول العنف الحداثي الأوروبي منهجيادون التعرض لسيرورة وطبيعة الدولة الحديثة، والتعرف في أدبيات الاجتماع والتاريخ السياسي بالدولة القومية، فجوهرها هو التماهي بين الأمة والدولة، وتصبح الدولة هي إطار الأمة والتعبير الأسمى عنها، ويتجسد ذلك بسيطرة الدولة على إقليمها (أرضها وحدودها)، واحتكارها لوسائل القوة والعنف، وهيمنتها على مختلف مناشط الحياة والاجتماع والاقتصاد، ويؤدي ذلك -منطقيا- إلى تقويض استقلال الجماعات الأهلية التقليدية، الدينية والإثنية والثقافية، وإضعاف أو اندثار المؤسسات الوسيطة بين الفرد والمجتمعمن جهةوالدولةمن جهة أخرى، وإخضاع التقسيمات المناطقية والجهوية ذات الشخصية المتميزة أو الحكم الذاتي لإدارة الدولة المركزية، وقمع التشكيلات غير المتماهية مع الحكم المركزي.

    وكلما زادت حداثة الدولة ازداد عنفها وقمعها وبطشها بالآخر، وإلغاؤها لهويته وخصوصياته الثقافية والإنسانية والاجتماعية، فعلى سبيل المثال -وفي سياق المقارنة بين السياسات الكولونيالية الفرنسية في الجزائر زمن الإمبراطور نابوليون الثالث ومثيلاتها في ظل الجمهورية الفرنسية- وجد مؤرخون فرنسيون وجزائريون أن عنف الجمهورية الفرنسية ضد الشعب الجزائري غير مسبوق وبما لا يقاس؛ فقد اختارت حكومة نابليون الثالث جنرالا فرنسيا معتنقا للإسلام ليكون حاكما للجزائر؛ فقام بصياغة سياسة احتلال "متسامحة" نسبيا مع السكان، وأصدر كتابا يدعم الخصوصيات الدينية واللغوية والثقافية للجزائريين المسلمين في ظل الإمبراطورية، وحاول جهده رفع المظالم عنهم وإنصافهم؛ تفاديا لاستفزازهم ودفعهم إلى الثورة، وتحقيقا للاستقرار، وهو هدف الإمبراطورية.

    لكن عندما جاءت الجمهورية الفرنسية (الحداثية) انتهجت سياسات قمع عنصري وإلغاء ثقافي ولغوي وحضاري، وأسفرت فرنسا عن وجهها الاستعماري الصريح آنذاك، وبدأت مشروعات الاستيطان التي فتحت السبيل لنقل كتلة سكانية أوروبية غربية إلى الجزائر لتكوّن البنية التحتية الأساسية للمشروع الإمبريالي الاستيطاني هناك، حتى بعد خضوع فرنسا للاحتلال النازي المذل في الحرب العالمية الثانية، واشتراك عشرات آلاف الجزائريين في الدفاع عنها، وإزالة عار الاحتلال عن ترابها، كافأت فرنسا الجزائريين بمجزرة قتل فيها خمسون ألفا من المتظاهرين الذين خرجوا عشية انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، مطالبين بحقهم في الحرية والاستقلال، واقتضى تحقيق هذا الحلم حرب استقلال دامت ثمان سنوات، وسقط فيها مليون ونصف المليون شهيد.

    أدى تراكم القدرة الضخمة للدولة القومية في الغرب على تركيز القوة وتطوير أدوات العنف والسيطرة -من مدافع وأساطيل وسكك حديد وتلغراف- إلى اتساع نطاق المشروع الاستعماري والهيمنة الإمبريالية على العالم.. دفع ذلك الدول الأخرى غير الأوروبية -كالدولة العثمانية واليابان لاحقا- للسعي نحو حيازة أدوات القوة المكافئة لقوة الدول الإمبريالية باستعارة نماذج التفكير والتنظيم والتعليم والإدارة الأوروبية؛ مما ساعد على تعميم نموذج الدولة الحديثة.. دولة السيطرة الشاملة، في مختلف أنحاء العالم.

    كان نظام الدولة الغربية الحديثة دائما، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل، النموذج المستلهم لبناء الدولة الحديثة في كلالبلادالعربية والإسلامية؛ رغم الإشكاليات التي تنطوي عليها فرضياته الأساسية الكامنة، من رؤية معرفية علمانية، وسياق تاريخي إمبريالي عنفي، واقتصاد سياسي قائم على فائض النهب، فهيدولة مركزية مسيطرة.. دولة تتماهى فيها الأمة، وهيوحدهاالمؤهلةلمنح حق المواطنة..دولة تحتكر وسائل العنف، وهي مصدر التشريع والشرعية..ما يتفاوتهو عمقتجذر ودرجةواستقرار نظام السيطرة المرتبط هو الآخر بمستوياتالصراع والإجماع الداخليين.

    منذ حوالي 15 عاما قام عالم وأستاذ السياسة المرموق بجامعة ديوك الأمريكية، الدكتور بروس لورنس، بدراسة حركات العنف في إندونيسيا وأرخبيل الملايو، فوجد أن الدولة الحديثة، بامتلاكها وسائل وأدوات ومؤسسات العنف، ونزوعها نحو ممارسته لتأكيد ذاتها وسيطرتها، هي المؤسس الحقيقي للعنف في ذلك الإقليم البعيد من العالم، وهي حالة تنسحب على أقاليم وشعوب أخرى تعاني من تغول الدولة الحداثية، واختزالها لكيان الأمة والجماعة والنسيج الاجتماعي والثقافي ومختلف التقاليد المستقرة.

    تقليديا، لم تكترث مؤسسة العلماء-حارسة الشريعة والناطق باسم الدين- كثيرابالدولة؛ نظرا لأن سلطة الدولة وسيطرتها كانت محدودة المجال، ولكن حركة التحديث الواسعة التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلاميةولدتدولة هائلة النفوذ، تمتد سيطرتها من القانون والتشريع والأمن إلى الاقتصاد والتعليم والثقافة والإعلام، بذلك أصبحت الدولة عاملا حاسما في تحديد هوية المجتمع، وتحولت بالتالي إلى مجال للصراع بينهاوبينالتوجهات الأخرى.

    المخاض الطويل المؤلم، والمعاناة التاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة، والافتراق الأيديولوجي والسياسي الواسع،والتوترات بل الحروب الإثنية والدينية والطائفية والقبلية والجهوية،والسيطرة والتحكم والسيادة المفروضةبالعنفوالقمع،وفقدان الثقة بالدولة، وعدم الاكتراث بمؤسساتها وقوانينها، بل وبمصيرها ككل،واستحالةقيام نظام تداولي سلمي على الحكم؛ كل هذه مؤشرات صارخة على زواج مأزوم بين الأمة والدولة الحداثية، وإخفاق الأخيرة في تحقيق وعود التنمية والاستقلال والرفاهية، وفكرة التقدم، وصيانة الهوية، وإقامة العدل. لكن الأسوأ الذي نخشاه هو أن يستفحل عنف الدولة، ثم ينفجر عنفا أهليا لا يبقي دولة ولا مؤسسات ولا راية ولا أملاولا حلما!


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()