|
د. عبد الجبار الرفاعي والمفكر السوري برهان غليون |
يؤكد المفكر السوري والأستاذ في جامعة السوربون العريقة الدكتور "برهان غليون" في الجزء الثاني من حواره أن أصل العنف هو التأويل الخاطئ للنص الديني، وأن هذا التأويل يرتبط في الأساس بالسياق والظروف التي تحيط بعملية قراءة ذلك النص، وبالتالي فالنصوص وحدها غير قادرة على إنتاج العنف أو التطرف، ومن ثم فانتشال الإنسان من حفرة السقوط الأخلاقي التي هبط إليها يحتاج إلى ثورة ثقافية ودينية, تعيد للإنسان ثقته بنفسه, وتساعده على بناء شخصيته الحرة والمستقلة، وتزوده بمعارف وقيم وسلوكيات ومبادئ تعيده إلى إنسانيته التي لا تروضها إلا الثقافة، ولذا فلا توجد حلول سهلة أو أحادية لهذه الإشكالية.
نص الحوار
الحاجة إلى العنف
* ينبغي ان نميز بين مستويين للإسلام، المستوى الأول هو الوحي والنص، والمستوى الثاني هو التمثلات التاريخية. لاشك ان الحديث ليس عن إسلام الرسالة، إسلام النص، وإسلام الوحي، وانما الحديث عن إسلام التاريخ، عن التجربة والتمثلات التاريخية والاجتماعية والسياسية للإسلام. وان هذه التجربة والتمثلات لا تخلو من الصراعات، ولا تخلو من الكثير من الألغام والمشاكل التي تراكمت على طول التاريخ.
ما حصل في العصر الحديث، ان الجماعات الأصولية استطاعت ان تقرأ التراث قراءة إرهابية، وتعيد تأويل الدين بطريقة عنيفة، وتعمل على تعبئة الجمهور باتجاه مناهضة كل ما هو غربي. صحيح ان الموقف من الآخر فيه تمييز بين الآخر الأمريكي، والغربي، والآخر الآسيوي، والآخر الإفريقي، لكن الموقف الداخلي الذي حصل فيه شحن وتجييش هائل له أثر حاسم في تفجر العنف والانتقال به الى المجال الدولي؛ يعني لو لم يكن هنالك استعداد لما تفجرت الظاهرة بهذا الشكل.
المسلمون الآسيويون وغيرهم من الأقليات والجماعات الأخرى الموجودة في البلدان الأوروبية، أو أمريكا، أكثرهم مندمجون في هذه المجتمعات،ولا يكفرون الجميع, مثلما تفعل الجماعات السلفية التكفيرية. وأود ان أشير الى اني لا أتهم التراث أو الدين كدين بإنتاج العنف، لان روح الدين وجوهره هو التراحم والسلام والمحبة، ولكن تلك الجماعات تكرس قراءة عنيفة للدين، وتقرأ التراث قراءة فاشية.
- بالضبط، حاجة الأفراد إلى العنف هي التي ولَّدَت تأويلا عنيفا للإسلام, وهذا التأويل صار بمثابة الدين. لا يكمن الحل في إدانة التأويل الجديد والخاطئ للدين فحسب، ولكن بالذهاب في ما وراء الدين نفسه والتأويلات الدينية، أي بحل المشاكل السياسية والاجتماعية والقانونية والثقافية التي تدفع إلى العنف, وإلى التأويل العنيف للدين. ليس هناك تناقض ولكن تكامل بين العملين. البقاء في إطار الإدانة الفقهية أو الدينية لا يوقف العنف. لكن الحديث عن الأسباب الفعلية، القائمة في واقع حياة الناس, وشروط وجودهم المأساوية, لا ينبغي أيضا أن يغيب عنا أهمية إدانة العنف وتفكيك خطابه وتأويلاته الخاطئة. فهما ضروريان لحماية الإسلام نفسه والمسلمين من خطر الانخراط الموسع في العنف والتماهي معه، وكذلك في منع العنف من إضفاء شرعية دينية على نفسه، وتحويل الإسلام إلى أيديولوجية عنف تبرر إعادة إنتاجه.
لا يمكن للعنف أن يستمر فقط إذا بقي عملا ماديا مفتقرا للشرعية، حتى يتجدد ينبغي أن يعيد إنتاج نفسه في الوعي, في الايدولوجيا, كفعل مشروع ومحبذ أو مطلوب.
لكن أعود فأقول لا ينبغي أن نفكر، كما نفعل منذ سنوات طويلة، بأن أصل العنف هو هذا التأويل الخاطئ أو أنه ثمرة الأيديولوجية الإسلامية. بالعكس, الايدولوجيا هي تبرير للعنف, يكمله ويدعمه لكن لا ينتجه. لماذا اعتبر هذه الملاحظة مهمة؟ لأنه لن يجدي نقد إيديولوجيا العنف فقط لوقف العنف, إذا لم نستكمل ذلك, بتغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المنتجة للعنف.
والدليل أن معظم الدول العربية التي لجأت إلى سلاح التكفير وإدانة التأويلات الخاطئة للإسلام، ووظفت من أجل ذلك مشايخ ومثقفين كبار لإرشاد الناس وهدايتهم، لم تحصل على نتيجة، بالرغم من أن الحركات المتطرفة كانت لا تزال حركات شعبية بعيدة عن العنف.
عقود طويلة ونحن نسمع هؤلاء ونقرأ لهم. لم يؤثر هذا على من يتبنى العنف, لان أصل الموضوع وجوهره لا يتعلق بالدين وإنما بشيء آخر. والمتطرفون لا يستمعون إلى خطاب النقد والتصويب, لأنهم يعيشون خارج الخطاب أصلا، دينيا كان أم غير ديني، وما يحركهم أقوى من الخطاب والإيمان الديني. وهو قائم خارج نطاق التأويل. هم يتأولون لأنهم يريدون غطاءا لممارسة العنف, لا تطبيقا لشعائر الدين، ولا بحثا عن التقوى والورع الروحي. وانسداد الآفاق يجعلهم يشعرون أنه لا خيار آخر أمامهم سوى العنف..لقد وضعوا في مكان يحتاج إلى إيديولوجيا العنف.
لذلك من الخطأ أن نركز كباحثين اجتماعيين على مسألة النصيحة الدينية والتأويل الصحيح، هذه مهمة رجال الدين وواجبهم الرئيسي. لكن نحن مهمتنا الذهاب إلى ما وراء ذلك، والبحث عما لا يمكن لرجال الدين أنفسهم، ولا لمن ينصتون إليهم أن يتأولوه، أقصد الشروط المجتمعية الاقتصادية والسياسية والثقافية لظهور التأويلات والأفكار وتكوين سلوك الأفراد.
لا أعتقد مثلا انه يمكن السيطرة على العنف الفلسطيني وإنهائه إن لم يعط الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه. هناك دولة وحكومات ونظم تنتهك حقوق الجماعات والأفراد وتستهتر بمصالحهم، تستعمر أرض بعضهم, وتحرم آخرين من حرياتهم وحقوقهم الطبيعية, وتجرح كرامتهم كل يوم، وهناك بالمقابل بشر تعاني من خرق القانون, ومن الاضطهاد والقهر الواقعين عليها يوميا. هذا هو الأصل الأول للعنف والعنف المضاد في الشرق الأوسط. ولا يمكن تجاوزه من دون إزالة عوامل إنتاجه وتحسين شروط حياة الناس وحفظ حقوقهم ومصالحهم.
لقد ذكرت في آخر مقال كتبته: أننا لا نستطيع تجاوز الأزمة التي نعيشها إلا ببذل جهدين متوازيين:
الأول: عودة كثيفة للعمل التثقيفي والفكري والتربوي للشعب وللرأي العام. وهذا ما افتقرنا إليه في الفترة الماضية, لأننا سلّمنا أسلحتنا واستسلمنا مقتنعين كمثقفين أن الشعب جاهل ومستعد للالتحاق بالحركات الإسلامية المتطرفة، وليس هناك أي قدرة على مقاومة هذا الاتجاه أو تبديله بالوسائل الفكرية والسياسية. فقبلنا بما اقترحته الأنظمة الفاسدة من الحلول الأمنية, واعتقدنا أنها أهون الشرور.
والحال إن هذا النوع من الحلول هو الذي طور المشكلة وفاقمها، وحول التطرف الإسلامي السياسي إلى عنف، وأنتج حركات الإرهاب السياسي، كصدى مباشر لسياسة الإرهاب الرسمي التي مورست في كل مكان.
الثاني: فصل مسائل الأمن العربي عن الأمن الغربي والأطلسي، وتمييزه كأمن وطني عن سياسات التبعية والالتحاق. فمن دون تغيير العلاقة القائمة الآن بين المنطقة ككل وبين التحالف الغربي, لصالح علاقة مختلفة قائمة على الندية والاحترام, والمساواة, والاحتكام إلى القانون, أي رفض قاعدة الكيل بمكيالين, ومراعاة مصالح الشعوب, من دون ذلك لن نستطيع ان نتقدم في إيجاد مخرج من الأزمة.
واذا استمر الغربيون في فرض مصالحهم بالقوة, لن نستطيع، مهما فعلنا على المستوى الثقافي، نحن كمثقفين، ان نضبط العنف المتولد عن تفاقم التناقضات والتوترات وردود الفعل اللاعقلانية والمتفجرة, الناجمة عن الظلم والخديعة والإذلال. ولو تنازل الغربيون وغيروا نمط العلاقة الوصائية وشبه الاستعمارية التي يقيمونها مع مجتمعاتنا, من دون ان نقوم نحن بالجهد الضروري أيضا لتثقيف الرأي العام, فلن نخرج من المأزق أيضا.
إذن هناك جهدان متوازيان يجب ان يتحققا: عملية تثقيف, وعودة إلى العمل الثقافي والفكري والديني. يعني التجديد الديني في داخل المجتمعات العربية والرأي العام العربي. وبموازاة ذلك إقناع الحلفاء الغربيين, اقصد القوى الديمقراطية, والقوى المؤمنة بالقانون الدولي, والتضامن الإنساني, بضرورة الضغط على حكوماتها لتغيير السياسة الشرق أوسطية, التي لا ينكر احد في الغرب أنها خلال العشرين سنة الماضية كانت سياسة عدوانية من الطراز الأول, في فلسطين, وفي العراق, وفي الصومال, وفي السودان, وفي أفغانستان. وبقدر ما كانت عدوانية قائمة فقط على استخدام القوة وإظهار التفوق العسكري, فجرت ينابيع العنف المقابل في منطقتنا. لذلك أقول إننا لا ينبغي ان ندخل في مناخ جلد الذات, ونقول: وحدنا المسؤولون عن ما يصيبنا, لأننا لم نفسر الإسلام التفسير التسامحي الصحيح, وأننا خُنا مبادئ الإسلام.
لقد كان التفسير المسيطر على المسلمين في بداية القرن الماضي وخلال أكثر من نصف قرن تفسيرا تسامحيا, وعقلانيا. وهذا ما عبرت عنه حركات الإصلاح في الإسلام جميعا، بشيعته وسنته، على حد سواء. وهذا التفسير هو الذي سمح بانتشار أفكار الدستور, والمواطنة, والقانون, وتبنيها من قبل المسلمين، رجال دين ومؤمنين عاديين.
هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نتابع مسألة التجديد الديني، وبالأحرى إصلاح المنظومة الدينية بأكملها، وعلى رأسها السلطة الدينية وممثليها الرسميين. ولعل من أكثر التحديات المطروحة في هذا المجال, انهيار السلطة الدينية التي فقدت في المجتمعات العربية اليوم وحدتها وانسجامها، وأصبحت غير قادرة على أن تلهم المسلمين أو أن تزودهم برؤية متسقة وموحدة للإسلام.
وهذا جزء من التدمير الذي أصاب النظم المدنية والثقافية الحاملة للاجتماع العربي كما ذكرت. فليس من المؤكد أن شيخ الأزهر يحظى اليوم بالصدقية نفسها التي كان يتمتع بها من سبقه في النصف الأول من القرن العشرين. ولا ندري من هو الموجه الفعلي للمسلمين اليوم في مجال دينهم، وإلى من يتجهون لتكوين وعيهم الديني وضبط مواقفهم واختياراتهم. وبدل التجديد يعيش المسلمون، بسبب تفكك السلطة الدينية وانهيارها، حالة من الفوضى الروحية والانقسام في الرأي الديني لا يختلف كثيرا عن الفوضى والانقسام الذين يعيشونهما في المجالات الأخرى, ويحرمانهم من الحد الأدنى من التفاهم والتعاون, ووحدة الموقف والاتجاه.
وتخدم هذه الفوضى بالدرجة الأولى تيارات الإسلام السياسي والحركي الذي لا يهمه الدين بقدر ما تهمه السلطة. ولا شك أن استخدام السلطات السياسية لرجال الدين أو للعديد منهم, كأدوات لتعزيز سلطات لا شعبية، وإضفاء الشرعية على سياساتها، لا يساعد على تكوين مثل هذه المرجعية الدينية. وهكذا أصبح الدين سببا في تنامي الخلاف, بدل أن يشكل أساسا للوحدة والاتحاد والتجانس والانسجام.
وما ينطبق على الدين ينطبق على الثقافة العربية بأكملها. بل لا ندري في ما إذا كان من المشروع الحديث عن وجود ثقافة واحدة وفاعلة بالفعل. هناك بالتأكيد تراث عربي عظيم نعيش عليه، لكن الثقافة بما تعنيه من طرح للأسئلة المصيرية, وسعي للتفكير فيها, وبلورة إجابات لها، لا تعيش من دون حرية. بينما يشكل قتل الحرية وتحريم الناس من التفكير الحر والاختيار، في ميدان الدين والدولة والمجتمع معا، السمة الرئيسية للحياة العربية الراهنة. ويشارك في التآمر على الحرية النخب الرسمية التي تريد أن تؤبد حكمها بحرمان الشعوب من أي مقدرة على المشاركة السياسية، ومعظم النخب الأهلية التي ترى في حرية الفرد واستقلاله تهديدا لنظم سيطرتها التقليدية.
باختصار، إن التدمير المنهجي لنظم الحياة المدنية الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية في البلدان العربية, هو الذي يفسر الفوضى الفكرية والسياسية والاقتصادية التي نعيشها، وضياع الفرد العربي وإحباطه ونزوعه إلى العنف الموجه إلى نفسه وإلى الغير معا.
العنف الرمزي
* هل يقتصر العنف على استخدام القوة، أو انه يتجاوز ذلك الى هتك الكرامة، والتشهير، والاهانات. كما يمكن ان يكون العنف الرمزي له آثار قاسية ، سواء كان مصدر العنف الغرب، أو السلطات داخل مجتمعاتنا؟
- معك حق مئة بالمائة. لا يقتصر العنف على استخدام القوة. فهناك أشكال لا تقل حدة وحطا للكرامة الإنسانية، ربما كانت العنصرية، بما تتضمنه من معاملة تمييزية وتحقير للشعوب والجماعات، أحد أهم أشكاله السياسية والفكرية. ولا شك أن الشعوب العربية تتعرض إلى معاملة عنصرية، عبر التصريحات والمطبوعات والأفلام التي تصدر, هنا وهناك، لإظهار العرب أو المسلمين بمظهر شرير, وسيء, ولا أخلاقي.
هناك حرب ثقافية يشنها قطاع يميني متطرف من الرأي العام الغربي على المسلمين, تحت شعار الحرب على الإرهاب أو كبح جماح النزوعات الهيمنية الإسلامية. وهو ما يدفع إلى تعميق شعور المسلمين بأنهم مستهدفون, وموضوع اضطهاد وقهر. وتساهم هذه المواقف العنصرية بدورها في تغذية قوى التطرف داخل البلدان العربية, وتضفي شرعية أكبر على قوى الإرهاب, وتعزز لديها روح المواجهة والعداء بدل إضعافها.
تتعرض مجتمعاتنا اليوم لكل أشكال العنف، المادي واللامادي، الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني، الداخلي والخارجي. وتشهد أكثر من أي مجتمعات أخرى ظواهر الحرب والقتل والاغتيال السياسي والفكري، وقمع الرأي الآخر، وتقييد الحريات الفردية والجماعية، ومحو الشخصية، وردع الأفراد للحصول على إذعانهم وخضوعهم الأعمى لصاحب السلطة والمال. ينتشر العنف فيها في المنزل بين أعضاء الأسرة، وفي الشارع حيث تندلع الصدامات والمنازعات لأدنى شعور بالإساءة، وفي المكاتب والمصانع والمتاجر والدوائر الحكومية، ويجسده أفضل تجسيد التضخم السرطاني لأجهزة الأمن والمخابرات, وتعدد السجون والمعتقلات، وتنامي ظاهرة الميليشيات الطائفية والإثنية، وتوطن النزاعات الأهلية في أكثر من مكان.
* في مجتمعاتنا التي تتوطن فيها الأنظمة الشمولية، تتفشى السجون وأقبية التعذيب، ويزجها الدكتاتور باستمرار في حروب، مثلما حصل في العراق، عادة ما تسود لغة عنيفة، يعني اللغة تضج بمفردات خشنة فظة، أحيانا الألفاظ والمقولات المستخدمة في وصف الأشياء الجميلة يعبر عنها تعبيرات قاسية، كما نلاحظ في العراق، يعبر الناس عن الفتاة الجميلة بأنها: رهيبة، تقتل، كارثة... وحتى الإيقاع الصوتي نبرته حادة. ..إلا توجد علاقة جدلية بين عنف اللغة والعنف البشري بشكل عام؟
- نعم بالتأكيد. سأروي لك حادثة حصلت لي في إحدى البلدان العربية. كان الناس يتزاحمون في إحدى الدوائر الرسمية للحصول على وثيقة عادية، كشهادة ميلاد أو بطاقة شخصية. يدوس الكبير على رجل الصغير من دون أن ينتبه حتى إلى ما يفعله. وكان الموظف ينادي على الحضور بالأسماء ليعطيهم وثيقتهم. وعندما يتأخر بعضهم قليلا بسبب عجزه عن اختراق الازدحام والتقدم لاستلام الوثيقة، سرعان ما تتغير لغة الموظف فيصرخ فيه: أين أنت يا حمار أو يا حيوان، ثم يرمي بها من فوق رؤوس المتحلقين حوله.
هذا مثال لمجتمع فقد كل أشكال التربية, وانهارت فيه أبسط القيم الإنسانية وأعظمها معا، أعني الاحترام. لقد أصبح العنف اسلوب التعامل الرئيسي بين الافراد, الذين يسعى كل منهم إلى تخويف الآخر وتهديده بالعنف. أصبحت لغتنا نفسها تنتج العنف وتضج بالعنف.
* حتى لغة الجسد أيضا لا تخلو من عنف، العيون جائعة، شرهة، النظرات حادة، عدوانية، حركات الأيدي وتعبيرات الوجه قاسية، كأنما عملية افتراس، تسود الروح الذئبية.
- تكاد القاعدة أن تكون اليوم في مجتمعاتنا كما ذكرت قاعدة الغابة. وقاعدة الغابة هي الافتراس: القوي يفترس الضعيف, يفترسه بالكلام, بالسرقة، بإخضاعه وتحويله إلى أداة في خدمته، بتشويه سمعته. فعندما يفقد المجتمع اتساق الثقافة التي تؤنسنه, يتحول إلى حشد من الحيوانات المفترسة. تزول الروابط والقيم المشتركة ولغة التفاهم بين الناس، ويحل محلها لغة التنافس والخصومة والنزاع والحرب.
يبدو لي أننا فقدنا فعلا الثقافة المدنية. الثقافة ليست إنتاج قصص وروايات وشعر وموسيقى. الثقافة هي خلق الإنسان من الداخل, الإنسان الذي يحترم نفسه والآخر, لديه قيم, ومبادئ, ورؤية, ومشروع حياة. وهذا ما يمكنه من التواصل مع الآخر, والتفاعل معه، أي من بناء علاقة متوازنة وايجابية قائمة على الأخذ والعطاء، وبناء المشاريع المشتركة، أو المشاركة في الإنتاج والإبداع. هذه هي الثقافة, وأخشى أن نكون فقدناها مع الأسف او في طريقنا لفقدانها.
خلع المرجعيات
* ثورة المعلومات، وانتشار الفضائيات وحضورها في كل بيت، وتخصيص الناس في مجتمعاتنا ساعات طويلة لمتابعة هذه الفضائيات، وما تعرضه من مشاهد، لها دور في تحول العنف إلى ظاهرة شاملة عامة. أي ان تحول العالم الى عالم افتراضي، واختزال الصورة للواقع في الفضائيات، وتقلص المكان واندماج الزمان، كل ذلك عمل على تعميق نزعة العنف وتعقيدها.
- تعمل ظاهرة عولمة الإعلام في اتجاهين. الأول خلع المجتمعات والجماعات عن مرجعياتها القديمة الثابتة، وتعريضها للعوم في الفراغ. وهو ما يقود إلى المزيد من القلق والتخبط والضياع. والثاني فصل البشر عن واقعهم المادي، وتحويلهم هم أنفسهم إلى واقع افتراضي، بقدر تعلقهم بالعالم الافتراضي, وتكريس معظم وقتهم له. ونستطيع أن نقول أن العالم الافتراضي هو الذي يحكم العالم المادي اليوم. حتى المرتب الذي نتقاضاه لم نعد نلمسه. لقد أصبح راتبا افتراضيا، نشاهده على شكل أرقام في الحاسوب.
ثورة المعلوماتية تغير من شروط وجود الفرد, وتسمح له أن يعيش في عزلة كاملة, من دون أن يشعر بالعزلة. فهو يعيش وحده أمام الشاشة الصغيرة والكبيرة، ولا يدرك أنه كي ما يعيش على الفرد أن يبنى جسور تواصل مع الآخرين, ويجتهد لفهمهم والتعامل معهم. الفرد يعيش في شقاء وفي حلم في الوقت نفسه. فهو داخل المجتمع الذي يشاهده عبر الشاشة, وبعيدا عنه. وسائل الاتصال الجديدة, التلفزيون, الإعلام...الخ, تسمح للفرد أن ينطوي على نفسه, ويعيش عالمه الخاص.
* إنها تقوض النسيج الاجتماعي...
- هي تساهم في تكوين نسيج اجتماعي مختلف مركز حول الوحدة والفرد والاستقلالية. وبهذا المعنى فهي تقوض النسيج الاجتماعي القديم. لكن بالتأكيد في مجتمعات لم تنجح في استيعاب الحداثة, ولم تحقق تراكما أوليا هاما في ميدان العلاقات الاجتماعية الحديثة وقيمها، لا يقود تقويض النسيج القديم إلى ولادة مجتمع معلوماتي جديد، وإنما نحو الفراغ والفوضى. منتجات ثورة المعلوماتية والإعلام تتحول هنا إلى أدوات استلاب مضاعف, بدل أن تعزز استقلال الفرد, وقدرته على التواصل عبر الزمان والمكان مع أمثاله.
* العمليات الانتحارية لها تاريخ طويل، لكن في المرحلة الراهنة تفشت بشكل واسع، وتحولت الى ظاهرة، خصوصا في العراق، حتى الآن سجلت مئات العمليات الانتحارية، وهي ظاهرة مدهشة، ما هي الميكانزمات التي تجعل العنف يرتد الى الذات، ويتحول الانتحار إلى كارثة، تبيد الناس، وتدمر المؤسسات الحيوية، وتحطم البنى التحتية؟
- الإحباط العميق الذي أوصلت النظم السياسية الاجتماعية الفرد العربي إليه، بحيث فقد أي شعور بالجدوى والقيمة، يجعل الموت في نظر قسم من الشبيبة أرحم من الحياة. على الأٌقل، الموت بهذه الطريقة يزيد من تقدير الإنسان لنفسه، يشعره بأنه أعطى لحياته العبثية معنى وقيمة، عمل شيئا في حياته, ضحى بحياته مقابل شيء يؤمن به. الانتحار يساوي هنا السعي إلى الارتقاء بالنفس إلى مستوى حياة المبادئ الأخلاقية في مواجهة عالم المصالح والمنافع المادية والأنانية السائد. الشعور العميق بالعبث والخواء, وانعدام الأفق والأمل, كل ذلك يدفع الإنسان إلى أن يجعل من الموت مصدر قيمة ومبررا للحياة.
لا يعيش الأفراد فعلهم هذا كفعل انتحار، ولكن كتعبير عن الفداء والتضحية بالذات, في خدمة قضية، بصرف النظر عما إذا كانت صائبة بالنسبة لنا أم لا. وهؤلاء عادة لا يبحثون عن مصالح, وليسوا انتهازيين, وإنما غارقون كليا في المشروع الذي انخرطوا فيه. هم يعيشون حالة ما فوق طبيعية، ينفصلون عبرها كليا عن الواقع. يعتقدون إنهم ينجزون عملا بطوليا.
التنويم العقلي
* ما يجري لدينا في العراق مثلا، شاب يفجر نفسه وسط مصلين في مسجد، وهذه الظاهرة موجودة في مناطق شيعية ومناطق سنية، أو يقتحم انتحاري موكبا لمراسم دينية. عندما يهاجم شاب محتلا، يمكن تعقل الكلام الذي تفضلت به، لكن عندما يهاجم هذا الشاب أبناء جلدته المصلين فهل دوافعه دينية وبطولية، وهل تعتبر ذلك تضحية وفداء؟
- أنت تتحدث هنا عن ظاهرة أخرى تنتسب إلى روح العصبية القبلية والطائفية, ليس لها علاقة بالدين من حيث هو إيمان، وإنما هي تقوم على تحويل الإيمان والانتماء الديني إلى عصبية قبلية، يصبح الفرد فيها أداة في يد المجموع، ويفقد أي استقلال فكري أو إرادة ذاتية. ولنا نحن العرب تراث كبير في القبلية والعصبية التي تقضي على روح الفردية. لا يعيش الفرد بنفسه، ولا يشعر بقيمة في ذاته، وهو مستعد بالفعل للتضحية بنفسه في خدمة القبيلة التي يشكل الانتماء إليها والولاء لها كل عالمه الروحي والفكري. ومعظم العمليات الانتحارية التي تتحدث عنها مرتبطة بهذه الآلية. وهي في اعتقادي ثمرة ترتيب أجهزة أمنية متنازعة, تستخدم روح العصبية واستعداد الأفراد للتضحية بأنفسهم في سبيل مجد قبيلتهم أو طائفتهم أو الانتقام لها، أكثر من أن تكون ثمرة تصميم فردي أو حتى طائفي محض.
* هذا الشاب تعرض إلى عمليتي تخدير وتنويم للعقل وغسيل للمخ، وجرى إعداده بملء دماغه بمفاهيم وأفكار ومعتقدات تكفيرية، حتى يمكن ان يكون مستعدا للاعتقاد بأن قتل مصلين مثلا هي قضية مقدسة؟
- لا يوجد أحد ينفذ عملية انتحارية من دون ان يمر بعملية غسل دماغ, مباشر أو غير مباشر. ولا يفترض ذلك بالضرورة ان يأتي احد فيغسل دماغه. هو نفسه يغسل دماغه لوحده أحيانا. بدون تنويم العقل, لا يمكن الإقدام على التضحية. وكل انتحار هو تضحية بالنفس. ويعتقد المؤرخون أن فرقة الإسماعيلية كانت تستخدم الحشيش لإعداد انتحارييها، ومنه جاء اسم الحشاشين للإشارة إلى بعض فرقهم. لكن لتنويم العقل وسائل عديدة أخرى، والإيمان العميق بمبادئ سامية يمكن أن يكون أحدها. والواقع كل إيمان يفترض تنويما ما للعقل, ذلك أن شرط الإيمان هو التسليم, وعدم تشغيل الحس النقدي. إذا بدأ المؤمن بتشغيل حسه النقدي بموضوعات الاعتقاد معناه بدأ يشك.
* عقل الإيمان عقل استسلامي
- عقل تسليم وخضوع لإرادة إلهية عليا، وعدم التفكير في ما تطلبه أو تهدي إليه. في الإسلام الأمور واضحة. اسم الإسلام يعني التسليم لله ولرسوله. الإيمان هو التسليم, عندما تناقش قضايا الإيمان بحجج عقلية تخرج المسألة عن منطق التسليم, وتدخل في حدود الشك. لذلك كان المسلمون في عصور الانحطاط يخافون جدا من الجدل في الدين. فهو ينطوي على مخاطر الكفر والزندقة.
هذه سمة الإيمان, بما في ذلك الإيمان في العصر الحديث, وبالمبادئ غير الدينية. فالذين آمنوا بالشيوعية مثلا نوّموا العقل, وأصبحوا يتصرفون كمؤمنين يقاتلون ويُقتلون في سبيل القضية. وقتل منهم الكثير.
في بلداننا قدمت الحركات الشيوعية في الماضي ضحايا كثر, في سبيل مبدأ, تعتقد الإنسانية كلها اليوم، أو جزء كبير منها، أنه كان خاطئا. فلا شيء يمنع الإنسان من ان يضحي من أجل قضايا خاطئة, بل شريرة. ولذلك لا تبرر التضحية بالضرورة القضية التي تفديها، وتضحية الإنسان بنفسه لا يعني أن قضيته أخلاقية وسليمة وعادلة. نعم، عندما يموت إنسان من أجل الحرية, من أجل الدفاع عن وطنه, عن قيم ومبادئ إنسانية يؤمن بها, تكون لتضحيته في نظرنا قيمة ايجابية, لأنها تبدو لنا قضية أخلاقية ومشروعة..لكن عندما يموت من أجل قتل أناس آخرين, فقط لأنهم مختلفون في الدين, أو في المذهب, أو في العقيدة، فهو يضحي من أجل قضية فاسدة، وتضحيته لا تجعل منها قضية عادلة.
غياب النزعة الإنسانية
* ذكرت ان العنف ظاهرة طبيعية، والسبب الأساسي للعنف يعود الى انه كلما غابت النزعة الإنسانية تفشى العنف، وكلما تعززت النزعة الإنسانية تراجع العنف. بتقديرك ما هي السبل التي يمكن ان يسلكها مجتمعنا من أجل ان يحتوي ظاهرة العنف التي بدأت تجتاح كل شيء في حياتنا. الاحتلال والتحدي الخارجي لهما دور كبير في تغذية هذه الظاهرة، كما ان إيجاد ديناميكية مستمرة لإعادة إنتاج العنف في خطابنا وتفكيرنا وثقافتنا يعمل باستمرار على تكريس نزعات الكراهية والعنف ونفي الآخر، لكن كيف يمكننا إيجاد ثقافة أخرى موازية لهذه الثقافة، ثقافة لقبول الآخر واحترام للغير؟
- ليس هناك طريق سهل ومعبد للخروج من الأزمة التي نحن فيها. نحن كمثقفين ميداننا الرئيسي هو العمل الثقافي والفكري، أي إعادة بناء الثقافة العربية, كثقافة إنسانية. وعندما أتحدث عن الثقافة أتحدث أيضا عن الدين, إعادة بناء الفكر الديني، على الأسس ذاتها. لاشك أن النقص الرئيسي في فكرنا الديني، لا يزال يكمن في ميدان تطوير النزعة الإنسانية. لقد بذل مفكرو الإصلاح جهدا كبيرا في تحديث الفكر الإسلامي, لكنهم ظلوا بعيدين عن روح النزعة الإنسانية. فقد أدخلوا فكرة العقل, وتكييف التأويل مع العقل, لكن لم يدخلوا فكرة الإنسان ومركزية الإنسان. هذا على مستوى الدين.
* ما الذي تقصده من انهم أدخلوا فكرة العقل ولم يدخلوا فكرة الإنسان، هل تقصد انتقال المركزية، من مركزية الله الى مركزية الإنسان، هل يعني ذلك الإنسانية بالمعنى الغربي (الهيومانزم)؟
- نوع جديد من الهيومانزم. أدخل المصلحون مفهوم العقل، بمعنى خضوع الكون لسنن ثابتة ودائمة لا تتغير، وأعطوا بذلك قاعدة شرعية للعلم الحديث. وهذا كان همهم ومقصدهم الرئيسي، لأنهم كانوا كبقية معاصريهم في الشرق والغرب أسرى الإيمان المفرط بالعلم وقدرته اللانهائية. لكنهم لم يعنوا بالإنسان المؤسس لهذا العلم، من حيث هو ذات ليست عاقلة فحسب وإنما حرة ومريدة، ولم يؤسسوا لمبدأ الحرية والإرادة في الذات الإنسانية. بقي عالمهم موضوعويا بصورة ملفتة، ولم يتلون بأي فلسفة للذاتية الإنسانية. فالإنسان بقي في نظرهم متمحورا في كل ما له علاقة بالذاتية حول التراث الديني. الله وحده ذات، والباقي مواضيع وأغراض، تحت سيطرته وإرادته, وفي خدمته.
بإصلاحهم العقلي غيَّر المصلحون الإسلاميون اعتقادات الناس المسلمين تجاه العلم، لكنهم لم يغيروا موقف هؤلاء من الدين ولا تفكيرهم الديني. ظل المسلمون بعدهم، ولا يزالون يظنون، أن مطلب الدين ومقصده الرئيسي هو وضع الناس في خدمة الله، وإخضاعهم له، عن طريق تطبيق الشعائر الدينية.
وفي اعتقادي أن هذا تفسير مبسط للدين, ودوره ومقصده. الدين لله، أي هو صاحبه ومصدره، لكنه لم يشرع لخدمته. والله ليس بحاجة الى تديننا كما تقول الآية (( ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه ان الله لغني عن العالمين)) العنكبوت/ 6. وهو لا يحتاج لصلاتنا ولا زكاتنا، ولكنه سنها من أجل الإنسان ولخدمته. والقيام بالشعائر الدينية من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها لا قيمة لها, إلا بقدر ما تساعد الإنسان الذي يقوم بها على الارتقاء بنفسه، وتكون جزءا من برنامج إصلاح للذات, وتكوين لإنسانية الإنسان.
وهذا ما يتطلب في نظري إعادة تفسير النصوص, وتغيير الموقف الديني بما يتفق مع حاجة الإنسان للتسامي، وحرية الإنسان, والمساواة بين الناس, واحترام الإنسان للإنسان, وتقدير قيمة عمل الإنسان, والارتقاء بمفهوم الإنسان. هذه هي في نظري غاية العبادات التي سنها لله، وهدفها أن تساعد الإنسان على الارتقاء بوعيه وشعوره الإنساني، أي على أنسنته. وهذا معنى تكريم الإنسان الوارد في القرآن.لا ينبغي أن يصلي الإنسان ويصوم ويزكي حتى يرضى الله عنه، ويحظى بمكانه في الجنة، ولكن كي يكون أخا صالحا لأخيه الإنسان.
الدين يعلمنا الأخوة في الإنسانية, ويدربنا من خلال الشعائر والعبادات عليها. ومطلب الدين ليس تحقير الإنسان لنفسه, ولكن بالعكس تماما، تكريمه، أي إشعاره بقيمته وقدرته على الارتفاع بنفسه وضميره إلى مستوى الحياة الأخلاقية.
هناك ضرورة لأن يراجع المفكرون المسلمون نظرتهم لدور الدين ومعناه اليوم, ولا يستسلمون لهاجس الوفاء لإسلام القرن الأول والقرون الوسطى. في القرون الوسطى كانت الحاجة إلى الدين من نمط سياسي لأنه كان المرتكز الرئيسي في بلاد العرب للدولة وقاعدة استقرارها القانونية. من دون دين ما كان من الممكن للعرب، حسب ما كتب ابن خلدون، تأسيس دولة وملك. لأنهم كانوا عصائب قوية ومتعددة, لا تقبل أي منها الخضوع لعصبية واحدة منها. حول الدين نمت الدولة، وبه تدثرت، في المناطق العربية.
الآن نحن لسنا في حاجة الى الدين لكي نبني دولة. هناك نظم سياسية ونماذج متطورة لبناء الدولة، قائمة على قاعدة عقلية وقابلة للنقد والتطوير. نستطيع ان نحرر الدين الآن من هذا العبء الذي قيده، ونعيد تفسيره بما يساهم بالارتقاء بالإنسان ويركز عليه, ويعمل على تنمية ضميره وذاته وإرادته، وحريته. هذا ما ينبغي ان نعمل له, في مجال الدين وفي مجال الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد معا.
يحتاج تأهيل الشعوب العربية والإسلامية، التي نمت كالفطر في العقود الماضية بصورة عشوائية، الى نظم تربية معاصرة تستوعبها وتؤدبها وتهذبها, على مستوى الفرد والمجتمع، في الاسرة والشارع والمدرسة. وأكثر ما تفتقر إليه مجتمعاتنا هو المربين وعلوم التربية وفلسفتها. وللأسف لم يعن الفقهاء ورجال الدين المسلمون في العصر الحديث بتربية الأفراد, وتطوير وعيهم وقدرتهم على الاستقلال وتحمل المسؤولية. ونظروا إلى التربية الدينية كتلقين للشباب مبادئ الطاعة الأبوية, والخضوع للجماعة, والاقتداء برجال العصر الأول من المسلمين.
وكانت نتيجة ذلك تخريج شباب منفصلين عن عصرهم، وغير قادرين على الاتصال بالآخرين والتفاعل معهم، بل عاجزين عن تفهم حاجاتهم, وما يريدون هم أنفسهم من مجتمعهم وعالمهم. وهذا ما يفسر تمرد الشباب المسلم على الهيئة الدينية التقليدية التي تعيش في فلك وحدها، وارتماء قطاعات واسعة منه في حضن الحركات الإسلامية, والتسليم لأمراء حربها والخضوع الكامل لهم.
ويحتاج انتشال الإنسان من حفرة السقوط الأخلاقي التي هبط إليها، إلى ثورة ثقافية ودينية, تعيد للإنسان ثقته بنفسه, وتساعده على بناء شخصيته الحرة والمستقلة، وتزوده بمعارف, بقيم, بسلوكيات ومبادئ إنسانية، تختلف عما سيطر حتى الآن على الفكر الإسلامي, من ثقافة الوعظ والتخويف والتقزيم, التي لا تزال خبز الإنسان في العالم العربي. هذه مهمة المربين والمثقفين، وينبغي أن تكون أيضا مهمة رجال الدين المتفتحين والمتطلعين إلى الانخراط في عالمهم والتفاعل مع عصرهم.
ويحتاج العمل في ميدان التجديد الثقافي والديني إلى ثورة سياسية توفر الشروط الملائمة لتقدمه، وتكفل أن يكون للقيم والأفكار والمواقف والتوجهات الجديدة التي يفجرها التجديد الفكري، ترجمة ممكنة في الواقع العملي والواقع اليومي للناس. وهو ما يفتح الثقافي على السياسي, ويرسم معالم مشروع إصلاح متكامل تنخرط فيه، أو ينبغي أن تنخرط، جميع فئات النخبة العربية الإصلاحية، وفي مقدمتها النخبة السياسية.
فلا يمكن في إطار نظم السلطة المطلقة، وتقاليدها القهرية، ان ينمو الإنسان الجديد الذي نتحدث عنه، بوصفه استقلالا وإرادة حرة ومسؤولية. لا ينمو في إطار هذه النظم التي تقزم الإنسان, وتحرمه من المعرفة والحرية, والمشاركة في المسؤوليات الجماعية، وتحول الناس إلى آلات يخضعون ويطيعون ويسيرون حسب إرادة الفرد الحاكم المطلق, إلا الأقزام في القدر والوعي والضمير معا.
من هنا كان التغيير السياسي جزءً من إعادة بناء الإنسان, حتى يشعر انه فعلا إنسان, له وعي مستقل, وله إرادة, وقادر على ان يختار. بدون ذلك ليس هناك إنسان. الإنسان يتحول الى جزء من قطيع. وهذا هو الحال في معظم مجتمعاتنا.
يحتاج بناء الإنسان كذلك إلى ثورة تعليمية, تعنى بتطوير المهارات والخبرات والمعارف. وهو ما يتطلب تغييرا في المناهج وأساليب التعليم والوسائل، تمكن المدارس والجامعات من تقديم تأهيل حقيقي للأفراد، وتجعل منهم فاعلين وأعضاء مبدعين ومنتجين. مدارسنا وجامعاتنا لا تقدم أي تأهيل حقيقي. تمنح شهادات تسيء إلى أصحابها بدل أن تساعدهم على الاندماج في الحياة العملية والاجتماعية. فهي تخلق لديهم شعورا بامتلاك رأس مال كبير يعزلهم عن غيرهم من أعضاء المجتمع, من دون أن تزودهم بأي زاد فعلي. ولانحطاط نظم التعليم من دون شك دور كبير في تطور الحركات الأصولية المتطرفة.
فالشباب الذي يتخرج من الجامعات والثانويات مع شهادة تميزه عن غيره, لكنها لا تمكنه من الاندماج في الحياة الاجتماعية، ولا تؤهله لأي عمل منتج، يجد في الانخراط في الحركات الأصولية, التي هي حركات احتجاج وتمرد, مخرجا من الفراغ والبطالة المادية والمعنوية. يجد توظيفا لنفسه يشعره بالقيمة والتقدير. فهم غير قادرين على الحصول على عمل، وليس لديهم مؤهلات تمكنهم من أن يصبحوا أعضاء فاعلين ومنتجين. وليس أمامهم سوى خيارين:
إما أن يلتحقوا بالسلطة, فيأخذوا وظائف شكلية، كجزء من سياسة توزيع الثروة والعوائد الريعية على الأنصار، أي أن يتحولوا إلى محاسيب.
أو أن يلتحقوا بجماعات التمرد الأصولية, التي تساعدهم على تجاوز مأساة هامشيتهم وعزلتهم وفراغ حياتهم، وتجعل منهم فاعلين ومنتجين ولو في صورة سلبية، لسلطة نقيضة ومضادة، سلطة احتجاج ومعارضة وانتقام.
لذلك أقول: أن إصلاح نظم التعليم شرط في أي إصلاح للإنسان، بقدر ما هو ضروري لتكوين أعضاء مؤهلين علميا وتقنيا، وقادرين على العمل المحترف، ومنتجين في خدمة أنفسهم ومجتمعاتهم.
ومهما كان الحال، علينا أن ندرك أنه لا توجد هناك حلول سهلة وأحادية الجانب للخروج من الأزمة الراهنة التي نعيشها. لا يكفي التجديد الديني لوحده، ولا الثقافي, ولا السياسي, ولا الاقتصادي, ولا الاجتماعي. لن نستطيع الخروج من حالة التردي والضياع التي نعيشها، والعودة إلى طريق الحياة الطبيعية، طريق الإنتاج والإبداع والتفاعل والتعاون بين الأفراد والجماعات، الداخلية والخارجية، إلا بإعادة نظر شاملة وعميقة في منهج تفكيرنا, وأسلوب عملنا الماضي, وأنماط سلوكنا ومواقفنا التي اعتدنا عليها، في الدين والثقافة والسياسة والمجتمع.
لابد لنا من تجاوز منطق الإقصاء المتبادل, والانتقال إلى منطق التعاون والتفاعل بين النخب كلها, العلمية والسياسية والاقتصادية والإدارية.
لابد من التغلب على القطيعة والعزلة, من أجل بناء أسس تعاون أكبر بين الشعوب والبلدان. لابد من بناء اقتصاد حي مرتبط بالاقتصاد العالمي, وقادر على خلق فرص عمل للأجيال الجديدة.
لا بد من بناء دولة يشعر جميع مواطنيها بأنها منهم وإليهم، وأنهم سواء في حضنها وأمام قانونها. هذه كلها مشاكل وتحديات كبرى, تحتاج أن نواجهها في الوقت نفسه.
لا يجدي التركيز على مهام تجديد الدين وتجديد الثقافة على حساب المهام الأخرى، ولا يساعد في الخروج من الأزمة التاريخية التي نعيشها. وليس من الممكن تحقيق مثل هذا التجديد, مع بقاء نظم القهر السياسية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على ما هي عليه, من انحطاط وظلم وسوء توزيع. حتى يمكن الخروج من الأزمة ينبغي أن نقوم بثورة إصلاحية, في الثقافة والدين والأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد في الوقت نفسه. هذا هو التحدي الكبير الذي تواجهه النخبة العربية الجديدة, والذي يحتاج منها إلى رد نظري وعملي معا.