شغلتني متابعة هذه المعركة علي مدي أيام هذا الأسبوع عن كل ما عداها. رغم أنها تدور في أمريكا وليس في مصر.
لكن..
المعركة تدور حول مشروع بناء مركز إسلامي ومسجد في نيويورك. علي مقربة من مكان برجي مركز التجارة العالمي اللذين ضربتهما أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام .2001
وصاحبا المشروع أمريكيان من أصل مصري.
والمشروع يثير جدلا شديدا في أمريكا. علي المستوي السياسي. وعلي مستوي الرأي العام.
ويستغله اللوبي الصهيوني من جانب.. والحزب الجمهوري المعارض من جانب آخر. مع اقتراب ذكري أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. ومع دخول الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أجواء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقررة في نوفمبر القادم.
تعالوا نتابع معا تفاصيل هذه المعركة.
* * *
لقد أصبح اسم كل من "فيصل عبدالرءوف" و"شريف جمال" من أكثر الأسماء انتشاراً في وسائل الإعلام الأمريكية هذا الأسبوع.
فيصل. هو إمام مسجد صغير في نيويورك. درس العلوم الدينية في الأزهر. والعلوم الطبيعية في جامعة كولومبيا.
وهو معروف في نيويورك كلها من عشرين سنة. بأنه من القيادات الإسلامية المعتدلة. ويعمل بتعاون كامل مع نظرائه المسيحيين واليهود في المدينة.
أما شريف جمال. فهو رجل أعمال شاب 38 سنة مولود في بروكلين من أب مصري الأصل وأم بولندية. ويمتلك شركة عقارية.
كان شريف يتردد علي المسجد لصلاة الجمعة من كل أسبوع. وتعرف علي فيصل. ونشأت بين الأثنين صداقة شخصية. نبتت من خلالها فكرة المشروع.
والفكرة عبارة عن إقامة مركز إسلامي كبير. من 13 طابقا. يضم مسجدا ومكتبة ومسرحا وقاعة كبري للمحاضرات. ومطعما. وملاعب رياضية وحضانة للأطفال.
وأن يقام بالقرب من موقع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. التي نسبت الي الإسلام والمسلمين. ليكون ردا علي هذه الأحداث. وابرازا للوجه الحقيقي للإسلام الذي يرفض العنف والإرهاب. وتأكيدا علي اندماج المسلمين في أمريكا في المجتمع الأمريكي.
وشرع الاثنان في اجراءات تنفيذ الفكرة.
حصلا في مايو الماضي علي موافقة المجلس البلدي في نيويورك. بعد أن قدما ما يفيد ملكيتهما للأرض التي سيقام عليها. وقدرتهما علي توفير التمويل اللازم.
وفي الثالث من أغسطس الحالي. حصلا علي موافقة نهائية وبالإجماع من اللجنة المختصة في بلدية نيويورك.
وبدأت المعارضة تنفجر في وجه المشروع وصاحبيه.
* * *
وانتهز اللوبي الصهيوني الفرصة ليشعلها نارا!
أصدرت "المنظمة اليهودية لحقوق الإنسان" بيانا يعد نموذجا لما نسميه "دس السم في العسل".
البيان يقول في مقدمته :
"يحق لمؤيدي فكرة المركز الإسلامي بناء المركز في الموقع الذي اختاروه. وليس من العدل الهجوم المتعصب الذي تعرضوا له من البعض. فربما كان الهدف وراء اختيار هذا الموقع بالذات لبناء المسجد ومركز الدراسات. إرسال رسالة ايجابية عن الإسلام".
كلام جميل وكلام معقول. علي رأي زميلنا محمد صلاح مقدم برنامج "كلام مسئول".
لكن البيان ينتهي إلي الآتي :
"غير أن الأمر المفصلي في هذه المسألة. كونها ليست مسألة حقوق. بقدر ما هي مسألة ما هو الصحيح في الأصل".
"وفي اعتقادنا أن بناء مسجد ومركز اسلاميين في ظل برجي مركز التجارة العالمية سوف يسبب أذي لبعض ضحايا الهجمات علي المركز. وهذا مالا نري ضرورة له".
"وعليه. فليس صحيحا ولا مقبولا بناء منشآت اسلامية هناك".
انتهي البيان..
والذي تابع مثلي تطورات المعركة حول المشروع علي مدي أيام هذا الأسبوع. لابد سيكتشف أن كل الجدل الدائر بين مؤيدي المشروع ومعارضيه من الأمريكيين. لم يخرج عن مضمون هذا البيان.. وأن كل المناقشات هي "تنويعات" علي نفس اللحن.. وإن كان البعض لاعتبارات سياسية انتخابية قد أخذ القضية إلي مجال أبعد
من مجرد ان إقامة المشروع يمكن أن يؤذي مشاعر بعض ضحايا الهجمات.
* نيوت جنجرتيش رئيس مجلس النواب السابق وأحد أقطاب الحزب الجمهوري المحتمل أن ينافسوا أوباما في انتخابات الرئاسة عام 2012 وصف مشروع المسجد بأنه "موطيء قدم" وانه انتصار يمهد لانتصارات أكبر للإسلام في أمريكا وأن أمريكا تشهد هجوما إسلاميا ثقافيا وسياسيا يهدف إلي تقويض حضارتها وتدميرها وان الإسلاميين يريدون فرض حكم الشريعة علي العالم برمته بما في ذلك الولايات المتحدة.
* سارة بالين التي كانت مرشحة نائبا للرئيس علي لائحة المرشح الجمهوري جون ماكين منافس أوباما في الانتخابات السابقة 2008 وصفت المشروع بأنه "طعنة في القلب" وطالبت بعدم السماح بتنفيذه.
ودخل الرئيس أوباما علي الخط.
في الافطار الرمضاني السنوي الذي أقامه مساء الجمعة الماضي في البيت الأبيض لقيادات المسلمين في أمريكا. تلقي سؤالا حول المشروع.
ولأنه أقسم منذ لحظة دخوله البيت الأبيض في 20 يناير 2009 علي الدستور الذي يؤكد علي احترام الحريات الدينية فقد تحدث أوباما في هذا الاتجاه.
قال: بصفتي مواطنا. بصفتي رئيسا. أعتقد ان المسلمين يملكون الحق في ممارسة شعائرهم الدينية. شأنهم شأن أي شخص آخر في هذا البلد وهذا يتضمن الحق في بناء مكان للعبادة ومركز لهم علي أرض ملكية خاصة.
واضاف: نحن موجودون في الولايات المتحدة والتزامنا بحرية المعتقد يجب أن يكون ثابتا وأشعلت تصريحات أوباما نيران المعركة بصورة أكبر وتعرض لحملة فورية من الجمهوريين واتهموه بالانحياز وانه كرئيس ما كان له أن يعلن موقفا لصالح فريق ضد فريق آخر.
واضطر أوباما قبل مرور 24 ساعة علي تصريحاته لتوضيح موقفه فيما وصفه الكثيرون "بالتراجع" فقد قال انه انحاز للدستور وليس للمشروع لكن الحملة ضده لم تتوقف مما دفع البيت الأبيض إلي اصدار ثلاثة بيانات متوالية حول هذه التصريحات.
لقد رد أحد الكتاب الأمريكيين وهو "روس داوثات" في صحيفة "الهيرالدتريبيون" علي توضيح أوباما بقوله: ان الولايات المتحدة تنقسم إلي أمريكتين: أمريكا الدستور.. وأمريكا الثقافة ولابد من الاعتراف بهذا والتعامل معه.. أي أن الواقع لم يصل بعد إلي مستوي المباديء التي يتضمنها الدستور.
المتابعة كشفت عن جوانب ايجابية ومضيئة تستحق التسجيل.. فمثلا:
* عمدة نيويورك اليهودي "مايكل بلومبرج" هو أحد أقوي المؤيدين لمشروع المركز الإسلامي والمسجد في مفاجأة غير متوقعة للكثيرين. وحين طلب منه تفسير موقفه. كان رده ببساطة:
"إذا أراد شخص ما بناء مسجد في مكان خصص لذلك. ويستطيع توفير التمويل اللازم له. فإنه يمكنه أن يفعل ذلك.. وليس للإدارة شأن به".
* كشفت المعركة حتي الآن. عن عدد كبير من الكتاب والمحللين السياسيين الأمريكيين. الذين ينظرون للأمور بموضوعية. وينحازون للدستور والحريات. ويواجهون بشجاعة كل الانتقادات التي يوجهها المعارضون للمشروع.
أحد هؤلاء الكتاب. هو "دويل ماكمانوس" الذي كتب مقالا بعنوان "مسجد مانهاتن قرار صائب". قال فيه "إنه إذا سمح للمسلمين الأمريكيين ببناء مساجد في الأماكن التي يتكرم المسيحيون واليهود بالموافقة عليها فقط. فإننا سنكون قد أثبتنا في هذه الحالة صحة ما يزعمه الإسلاميون المتطرفون من أن الغرب هو عدو لكل المسلمين".
كاتبة ومؤلفة هي "جولي كلوسون" صاحبة كتاب بعنوان "العدالة اليومية" كتبت تقول: "منذ أن تكلمت في صالح المركز اتهمني مسيحيون آخرون بمساندة عمل الشيطان وإدارة ظهري ليس فقط لديانتي وعقيدتي. وإنما كذلك لكل ما تمثله الولايات المتحدة".
وتضيف: "لسوء الحظ فإن بعض المسيحيين يقولون إن أعمال الإرهابيين تمثل قلب الإسلام.. مع أن العديد منهم. عندما يرتكب مسيحيون أفعالا إرهابية. هم أول من يقولون إن هؤلاء المجرمين لا يتصرفون نيابة عن جميع المسيحيين".
* موقف بالغ الاحترام. اتخذه الكاتب الصحفي فريد زكريا رئيس تحرير مجلة "نيوزويك" الأمريكية. وأحد أشهر المحللين السياسيين الأمريكيين. فقد كانت "الرابطة المعادية للتشهير" وهي إحدي أبرز المنظمات الأمريكية المناهضة لمعاداة السامية قد منحته جائزتها عام 2005 وهي جائزة صحفية سنوية تحمل اسم "هوبرت همفري لحريات التعديل الأول للدستور" وتمنحها الرابطة للصحفي أو المؤسسة الصحفية التي روجت خلال العام لقيم الحرية المنصوص عليها في الدستور الأمريكي.
وهذا الأسبوع. عندما وجد فريد زكريا أن الرابطة تقف في صف المعارضين للمشروع وتنتهك بذلك الحريات الدينية في تناقض واضح مع جائزتها. قام بإعادة الجائزة إلي الرابطة.
* المعركة الدائرة حول المشروع مثلت - ولاتزال تمثل في رأيي - فرصة ذهبية لنشر وترويج قيم الإسلام الصحيح في الصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية. ومن خلال كتاب ومحللين أمريكيين لهم مكانتهم عند قرائهم ومستمعيهم.
ولقد وجدت صحيفة "الهيرالد تريبيون" مثلا تخصص نصف صفحة لنشر مقال لكاتب اسمه "وليام دالريمبل" دافع فيه عن الإسلام دفاعا مجيدا. وقال عن فيصل عبدالرءوف إمام مسجد نيويورك إنه ينتمي للفكر "الصوفي". وأن الصوفية هم أكثر الفرق الإسلامية معاداة للعنف والإرهاب.. وشرع في شرح وتحليل مبادئ الصوفية وأنهم يرون أن الأديان السماوية الثلاثة هي في الحقيقة دين واحد.
وأخيرا.. فإن كل الدلائل تشير إلي أن مشروع مركز ومسجد نيويورك. ليس معركة هذا الأسبوع وحده.. بل والأسابيع القادمة أيضا.
وأن اللوبي الصهيوني مصمم علي استغلال هذه المعركة إلي أقصي مدي كورقة ضغط علي الرئيس أوباما وإدارته. خاصة بعد تصريحات محمود الزهار أحد قادة حركة حماس أن الحركة تؤيد المشروع.. وهو تأييد يعرقل المشروع - في هذا الجو - أكثر مما يدعمه.
وأن الجمهوريين أيضا مصممون علي وضع هذا المشروع علي أجندة معركتهم الانتخابية ضد الديمقراطيين في نوفمبر القادم. من أجل الفوز بالأغلبية في الكونجرس.
ورغم أن فيصل عبدالرءوف وشريف جمال يواجهان العاصفة بهدوء كامل. ويؤكدان أن العمل في إنجاز المشروع يمضي في الطريق المرسوم له. إلا أنني شخصيا أتوقع عقبات كثيرة سوف توضع في طريقه خلال الفترة القادمة.
ولذلك يأتي واجب المساندة من الهيئات الإسلامية والعربية التي لا يشك أحد في أنها تمثل وجه الإسلام الصحيح والمعتدل بعيدا عن تسييس القضية.
وهي فرصة لنري أي الأمريكتين ستنتصر علي الأخري.. أمريكا الدستور أم أمريكا الثقافة.
فإذا انتصرت أمريكا الدستور. فسوف يظهر المركز والمسجد إلي النور وفي الموقع المحدد لهما.
وإذا انتصرت أمريكا الثقافة. فقد لا يجد فيصل وشريف مفرا من تحويل الفكرة من مركز إسلامي ومسجد فقط. إلي مجمع للأديان الثلاثة. ويكون لهما وللإسلام والمسلمين فيه شرف المبادرة والدعوة.