شبكة النبأ: من الشروط الأساسية لتحقيق الذات الانسانية هو شرط العمل، فمن دونه لايمكن للذات الانسانية أن تتحقق ولا يمكن أن تكتمل إنسانية الانسان قط بعيدا عن هذا الشرط، ولا يتحدد العمل في إطار ثابت بل يتوزع على الجانبين المادي والفكري، وكل ما يطمح له الانسان هو أن ينجح في هذا المضمار او ذاك فيُشار له ويُقال عنه بأنه نجح في هذا العمل او ذاك فيشعر حينها بأنه حقق إنسانيته فعلا.
وللعمل فوائد جمة أولها مواصلة تحقيق الايرادات المطلوبة لتسيير الحياة الفردية والعائلية، بيد أن هناك نوعا آخر من العمل لايتحقق عنه مورد مادي او ربحي مباشر، ألا وهو العمل الطوعي، حيث لا ينتظر الانسان منه مردودا ماديا مباشرا بل هو نوع من المساهمة الجادة في تأسيس وادامة نمط حياتي قائم على التعاون المتبادل بين الناس من خلال تقديم الاعمال الطوعية لبعضهم.
ولعلنا ندرك تماما بأن الامم والشعوب المتطورة عمدت الى هذا الاسلوب الراقي من العمل، إذ أن الانسان هو كائن اجتماعي يسعى نحو الحياة الاجتماعية، فهو يحمل في اعماق نفسه غريزة حب الاجتماع والعيش ضمن الجماعة. وجاءت الرسالة الالهية لبناء الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الفرد والجماعة. وكما أن المجتمع مجال لتطور شخصية الفرد العلمية والحضارية، فالفرد أيضاً يمنح المجتمع جهده وخبراته، ويعمل على تطويره وتنمية ظروفه واوضاعه العلمية والاقتصادية والثقافية...الخ. والمجتمع الصالح ينتج أفراداً صالحين، والمجتمع المنحرف ينتج أفراداً منحرفين. فالانسان يتلقى الكثير من أفكاره وسلوكه وعاداته وآدابه من مجتمعه.
ولهذا يعد العمل الطوعي احد أهم الاساليب التي يمكنها تنمية روح التعاون المشترك بين الافراد والجماعات ايضا، ولابد من تنمية هذا التوجه والتأسيس لذلك في بواكير الحياة الفردية أي في السنوات الاولى لعمر الانسان حيث ينمو الطفل متعاونا ومحبا للعمل لا سيما العمل الطوعي الذي لاينتظر نتائج ربحية فورية بل يشكل نمطا من الحياة العامة للمجتمع.
لهذا يرى الكثير من العلماء المختصين والمعنيين بهذا الشأن أن حياة الانسان عبارة عن رحلة عمل متواصلة لا تتوقف إلا يتوقف معها عمر الانسان ذاته، أي لم يتحدد عمر معين يتوقف فيه الانسان عن العطاء والعمل، وما سنة التقاعد التي أوجدتها بعض القوانين الوضعية إلا تجاوزا على حق الانسان في هذا المجال.
فحين تضع سقفا عمرايا محددا لعطاء الانسان هذا يعني انك وضعت حدا لإيقاف قدراته التي لا تتوقف إلا من خلال رحيله عن هذا العالم، من هنا كان لازما على المعنيين ومن يهمهم الامر سواء من صناع القرار او غيرهم ان لا يضعوا الانسان في زاوية ميتة بحيث يتوقف عن العمل ويتقاعد ويفقد دوره في الحياة في وقت يكون فيه بأمس الحاجة للمشاركة والفعل والعطاء من اجل إثبات ذاته وانسانيته أيضا من خلال ما يقدمه من أعمال طوعية او ذات نفع معين له وللانسانية في وقت واحد.
لكن الملاحظ في معظم الشعوب الاسلامية والعربية أن ثقافة العمل التطوعي تكاد تكون مغيّبة تماما او ضعيفة في أفضل الاحوال مع أن المرشدين الاسلاميين العظام قدموا وأسسوا لنا نمطا رائعا من العمل التطوعي، وكان علينا أن نطور هذه الأسس العملية الراقية ونتمسك بها ونديمها لا أن نهملها كما يحدث الآن، فالعمل الطوعي له فوائده الجمه على مستوى الفرد والجماعة، وقد انتهجت بعض المجتمعات هذا النهج فحققت الكثير من الفوائد التي قد لا تخطر على بال.
فالتعاضد الذي حصل في المجتمعات الكبيرة وكثيرة النفوس كما في الصين او الهند على سبيل المثال في مجال العمل الطوعي حقق لها قفزات كبرى في هذا المجال وجعلها تصطف الى جانب الامم المتقدمة على غيرها في ميادين الحياة كافة، ولهذا كان علينا التنبّه الى أهمية هذا النمط العملي وتطويره، لاسيما أن العراق أصبح بلدا مهدما فعل الدكتاتورية والاحتلال والاحتراب والتصارع على المكاسب وما أنتجته هذه الظواهر من إضعاف لحالات التكافل المتبادل والعمل الطوعي الذي يسهم بإعادة اعمار الميدان المادي ويسهم ببناء الروح الانسانية معا.
لهذا لابد أن نستنهض من جديد ثقافة العمل الطوعي بيننا ونسهم بنشر هذه الثقافة على نحو سليم ومخطط له بصورة جيدة ومدروسة مسبقا، نظرا لأهمية هذا النمط من الاعمال في بناء المجتمعات التي تستطيع أن تواكب المعاصرة وتحافظ عل الجوانب الروحية أيضا.
وعلى ذلك فإن ثقافة العمل الطوعي تساعدنا على المزج بين العمل المادي والروحي في آن واحد، وهو ما نحتاجه فعلا في هذه المرحلة الحرجة التي نحاول تجاوزها بأقل الأضرار والخسائر المادية والروحية.