شبكة النبأ: عرض القرآن الكريم لنماذج بشرية تعاني من الغيرة الحاسدة في عدة مواقف نفسية اجتماعية ذاكرا بعض أسبابها، أعراضها الانفعالية، السلوكية في نطاق الفرد والجماعة. كذلك بيان النتائج الخلقية الإرشادية لمواجهة تلك المواقف وقاية وعلاجا. تتجسد الغيرة في حدوث أول جريمة قتل يرتكبها إنسان لأخيه الشقيق الإنسان، أنها حادثة (ابنَي آدم) في سورة المائدة. حقا تمثل أبلغ تعبير موجز ومعجز لهذه المشكلة في حياة الإنسان في كل زمان ومكان.
الغيرة ليست سلوكا ظاهريا، انما حالة انفعالية يشعر بها الفرد، لها مظاهر خارجية يمكن الاستدلال منها على الشعور الداخلي، في غالب الأحايين لا يكون هذا سهلا، لأن الشخص في العادة يحاول أن يخفي الغيرة بإخفاء مظاهرها قدر جهده. الشعور بها مؤلم ينتج من خيبة الشخص في الحصول على أمر محبوب. انفعال الغيرة مركب من حب تملك، شعور بالغصب لأن عائقا ما وقف دون تحقيق غاية. لا يعترف الفرد بالغيرة، بسبب ما تتضمنه من الشعور بالنقص الناتج من الإخفاق. بل كثيرا ما تكبت لأن النفس الشعورية لا تقبل ألم الخيبة والشعور بالنقص.
الحادثة موضوع الدراسة، نجد أن من يشعر بالغيرة يشعر بعدم قدرته على حيازة الزوجة المركز الذي ناله شقيقه، يكون مع شعوره بالخيبة والضعة شاعرا بالغيظ من نفسه، من شقيقه، او منهما معا. يكون عنده شوق وإن كان خفيا للحصول على ما نال الشقيق. خرجت الغيرة دفعة واحدة، فهي انفعال مركب له خصائصه، ليس مجموعا حسابيا للانفعالات الثلاثة، مثل المثلث الذي لا يمكن أن يوصف بأنه مجموع ثلاثة مستقيمات ومجموع زاويتين قائمتين، إنما هو مثلث به صفة المثلثية، ليست موجودة في المستقيمات، لا في الزوايا، لا في رؤوس المثلث.
الأسباب المباشرة:
السبب الذي ذكره القرآن الكريم لهذه المشكلة قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر..) سورة المائدة/27.
القرآن الكريم لم يذكر أسباب تقديم القربان، لا كيف تم التقديم..لا مم كان القربان، رغم ذكر القبول بصيغة المجهول. كما لم يذكر اسمي ابني آدم ولا زمان، مكان ذلك.
لأن الحكمة القرآنية في الإرشاد، التربية، استخلاص العبر تتعلق بالموقف النفسي ذاته بصرف النظر عما دون ذلك من عوارض وشكليات. لأن المهم هو تصوير المشكلة وهول آثارها، من حكم عدم ذكر الأسماء، الزمان، المكان أن يظل الموقف النفسي حيا في الذاكرات لأنه قد يحدث في كل أسرة، كل جيل من الناس. مع كل ما تقدم لا حرج من ذكر بعض الروايات الواردة في تفصيل السبب ومقدماته لأنه يلقي بأضواء لا تخلو من فائدة.
يروى أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه بنت في كل بطن، يزوج غلام هذا البطن بنت بطن آخر، يزوج بنت هذا البطن غلام بطن آخر، ذلك لسرعة الإنجاب في الجيل الأول من أبناء آدم عليه السلام. جرى ذلك حتى ولد له ابنان يقال لهما(هابيل) و(قابيل)في بطنين. قابيل صاحب زرع وفلاحة. هابيل صاحب ضرع ورعي. قابيل أكبرهما سنا. له أخت أحسن من أخت هابيل. طلب هابيل أن يتزوج أخت قابيل فأبي عليه. قال:(هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك، أنا أحق أن أتزوج بها). ثم انهما قربا قربانا الى الله عز وجل أيهما أحق بالبنت. قرب هابيل جذعة (ناقة) سمينة. قرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة، فركها وأكلها. نزلت النار فأكلت قربان هابيل علامة القبول. تركت قربان قابيل فغضب، قال لأقتلنك حتى لا تتزوج أختي.
مظاهر المشكلة:
لهذه المشكلة النفسية الاجتماعية مظاهر معقدة، متعددة لأنها تعبر عن بركان يغلي في نفسية الحقود الحسود. ونستشف من تلك المظاهر ما يلي:
1ـ التهديد اللفظي الوارد من الأخ الحقود، ينم عن نار متأججة في صدره ينفثها لسانه مهددا متوعدا بأعظم جريمة (قال لأقتلنك) المائدة/27. تهديد بالقتل مع التأكيد في أول الجملة باللام وبالنون المؤكدة في أواخرها.
2ـ استجابة هادئة من أخيه البريء تتجلى فيها الوداعة، صفاء النفس، بعدها عن الإثارة وحب الانتقام وأخذ الثأر او الانفعال الهائج (قال إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة/27.
3ـ نقاش طويل نسبيا يقوم به الأخ البريء مع شقيقه الحاقد يحاول فيه جاهدا أن يعيد أخاه الى الصواب.(لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) المائدة/28ـ29.
ان الأخ البريء لن يقابل الشر بشر ولا التهديد بتهديد..رغم قوته، انه يخاف الله، لا يريد أن ينال إثما بأي سبيل..للباحثين في تحليل ( اني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) عدة توجهات أهمها:
أـ إثم القتل الذي ارتكبه بقتل أخيه.
ب ـ إثم القتل لو همَّ أخوه البريء أن يقتله.
ج ـ إثم قابيل قبل قبول القربان وإثم قتل أخيه بعد ذلك.
د ـ إثم قتلي وإثمك في قتل الناس جميعا لأنك الذي سنّ ذلك أولا.
4ـ وقوع جريمة قتل عن عمد وتصميم حين لم ينفع الإرشاد ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)المائدة/30.
كلمة(طوّعت) بالتشديد تفيد أن النفس إذا هيمنت عليها او استعبدتها ميول عمياء مستحكمة فأنها تعمي الأبصار، تميت الضمائر لتجعل كل جريمة امرا سهلا قريبا. هكذا كانت هذه المشكلة النفسية الاجتماعية سببا في أول جريمة بشعة في قتل انسان لإنسان، تزداد بشاعة حين يقوم الأخ بقتل أخيه الشقيق من أمه وأبيه.
دروس اجتماعية وأخلاقية:
ان الحوادث والمواقف التي يذكرها القرآن الكريم هي دروس على الإنسان في التربية أن يستفيد منها أيما فائدة:
1ـ كثيرا ما ينال المجرم بعض جزائه بعد الجريمة مباشرة. يتجلى هذا بالندم الذي عاشه القاتل بعد أن هدأت عواصفه الانفعالية السلوكية ورأى أخاه جثة ولم يدر ماذا يفعل بها حتى تعلم من غراب. حين رأى الغراب غرابا آخر ميتا على الأرض ليس أخاه ولم يقتله. انما وجده ميتا فلم يتركه حتى حفر له وواراه.(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال: (يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخي فأصبح من النادمين)المائدة/31.
2ـ التشريع العدل في القتل للقاتل حفظا لحياة الأفراد والجماعة، ضمانة للأمن الفردي والاجتماعي ففي القصاص حياة. قتل فرد كقتل الجماعة، إحياء الفرد كإحياء الناس جميعا.(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة/32 .
3ـ يتحمل كل من نشر عادة ذميمة أو سنّ سلوكا منحرفا في الحياة النفسية والاجتماعية وِزر كل من يقلّده من بعد ذلك. الأخ الحاقد ابتدأ أسلوب القتل تنفيسا لميول منحرفة.
4ـ تشريع دفن جثمان الميت لستره ولحماية الناس أيضا.
5ـ وجوب التربية النفسية الاجتماعية لكل انسان في ضبط انفعالاته السلبية والمتطرفة. وأهمية توجيه الميول لاعتبارها طاقة، قدرة لتسير باتجاه الخير لصالح الفرد والجماعة.
ويمثل هذا الجانب الوقائي في التنشئة السليمة حماية من الوقوع أصلا في حبائل المشكلات، يتجلى ذلك بوضوح في مجرى الحوار(انما يتقبل الله من المتقين)، (اني أخاف الله رب العالمين)، (وذلك جزاء الظالمين)... هذه ثمرات تربية روحية خلقية تقوم على تقوى الله، محبته، خوفه، احترام حقوق الآخرين، البعد عن الظلم...