أمّ ابيها من الاوسمة الرفيعة الخالدة التي لم تمنح لبنت نبيّ قط غير الزهراء عليها السلام ما منحه أشرف الرسل والأنبياء لسيدة النساء : (أم أبيها) صلوات الله عليها . إنّها كنية ما أجلّها وأعظمها! فهي تعبر عن عمق الارتباط الروحي الضخم بين المانح العظيم المقدس وبين الممنوحة الطاهرة المطهرة بحكم التنزيه من كل رجس ودنس . نعم ، هذه الكنية جديرة بالتأمل والتدبر ، فهي هتاف ملأ الكون بصداه ، ونداء لكلِّ جيل يتدبر معناه ، وتنبيه للاُمّة بما ينبغي عليها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ من قلب الرسول . لقد تبوّأت الزهراء عليها السلام هذا المقام العظيم من قلب أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، لا لكونها ابنته ، وإنّما أراد الله عزَّ وجلّ لها ذلك المقام المحمود زيادة على مواقفهاالفريدة والتي سنذكر طرقاً منها فنقول : كانت الزهراء عليها السلام أحب الناس الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) ، وهي بهجة قلبه وبضعة منه ، يغضب لغضبها ، ويرضى لرضاها ، ويغضبه ما يغضبها ، ويبسطه ما يبسطها ، ويؤذيه ما يؤذيها ، ويسرّه ما يسرّها (2) . وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها (3) . وإذا أراد سفراً أو غزاة كان صلى الله عليه وآله وسلم آخر الناس عهداً بفاطمة عليها السلام ، وإذا قدم كان صلى الله عليه وآله وسلم أول الناس عهداً بفاطمة عليها السلام (4) ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقبّل عرض وجهها ، . . . ويدعو لها (5) . وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من زيارتها وتعهدها ويقول لها : « فداك أبي وأُمّي» (6) ويقبّل رأسها فيقول : « فداك أبوك » (7) وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعينها على الجاروش والرحى (8) . وحينما استشهد حمزة بن عبدالمطلب عليه السلام في أُحد بكت فاطمة الزهراء عليها السلام فانهلت دموع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لبكائها (9) ، وحينما ماتت رقية قعدت على شفير قبرها إلى جنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي ، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه رحمةً لها (10) . أما تعامل الزهراء عليها السلام مع أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فقد كانت تهتم به اهتمام الاُمّ بولدها (11) ، فمنذ أيام طفولتها كانت تدفع عنه أذى المشركين (12) ، وتخفّف آلامه وتضمد جروحه (13) ، وتمسح الدم عن وجهه في الحرب (14) ، وإذا عاد من سفرٍ بادرت إلى استقباله واعتنقته وقبّلت بين عينيه ، وكانت تتأثر لحاله وتحنو عليه . أخرج الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر ، صلّى في المسجد ركعتين ، ثمّ أتى فاطمة فتلقته على باب البيت ، فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ما يبكيك ؟ »فقالت : « أراك شعثا ًنصباً ، قد أخلولقت ثيابك »فقال لها : « لا تبكي ، فإنّ الله قد بعث أباك بأمرٍ لا يبقى على وجه الأرض بيت ولا مدر ولا حجر ولا وبر ولا شعر إلاّ أدخله الله به عزّاً أو ذلاً حتى يبلغ حيث بلغ الليل» (15) . وكانت « سلام الله عليها » تؤثره بما عندها من طعام كالاُمّ المشفقة على ولدها ، فعن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليها السلام بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : «ما هذه الكسرة؟» قالت : « قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة . . » (16) . وعن عبدالله بن الحسن قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام فقدّمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير ، فأفطر عليها ، ثم قال : « يابنية ، هذا أول خبزٍ أكل أبوك منذ ثلاثة أيا » ، فجعلت فاطمة عليها السلام تبكي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح وجهها بيده (17) . ولمّا اختار الله سبحانه لنبيه دار رضوانه ومأوى أصفيائه ، كانت الزهراء عليها السلام كالاُمّ التي فقدت وحيدها ، فما رؤيت عليها السلام ضاحكة قطّ منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضت (18) ، ومازالت بعده معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة (19) ، تشمّ قميصه فيغشى عليها (20) ، وسمعت بلالاً يؤذّن حتى إذا بلغ : أشهد أن محمداً رسول الله ، شهقت وسقطت لوجهها وغشي عليها حتى ظنّ بأنّها عليها السلام قد فارقت الحياة (21) . وكانت تقول : إنّـا فقدناك فقـد الأرض وابلهـا و اختلّ قومك فاشهدهم فقـد نكبوا فسـوف نبكيك ما عشنا وما بقيت منّـا العيـون بتهمـالٍ لـه سكبُ (22) هذه هي بعض الموارد التي تحكي لنا طبيعة العلاقة بين الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأحبّ الناس إليه فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولو أتينا على جميع ما ورد في إكرامه لها وإلطافه بها وشفقته عليها ، لخرجنا عن شرط الاختصار في هذا البحث ، وعلى العموم كانت عليها السلام بمثابة الاُمّ لاَبيها صلى الله عليه وآله وسلم فهو يعظّمها ويبرّها ويحنو عليها ، ويجد فيها كل ما يجد الولد في أُمّه من العطف والرقة والحنان والوفاء ، فما أجدرها إذن بتلك الكنية الرفيعة : أمّ أبيها ! فانظر إلى كرامة البنات وعزّتهن بالإسلام ، فالبنت التي كانت مصدر شؤمٍ وعارٍ في أعراف الجاهلية ، أصبحت في رحاب الإسلام أُمّاً للنبي الخاتم سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم . قال الشاعر : بضعـة مـن أبٍ عظيم يراهـا نـور عينيـه مشرقاً فـي رداءِ (23) فهي أحلى في جفنه من لذيذ الـ ـحُلمِ غِـبّ الهجـود والإعيـاءِ وهي قطبُ الحنان في صدر طه واختصـار البنـات والأبنــاءِ غيّب الموت مـن خديجة وجهاً فـإذا فـاطـم معيـن العـزاءِ تحسـب الكون بسمةً مـن أبيها فهـي أُمّ تذوب فـي الإرضـاءِ (24) وشيء آخر يمكن استخلاصه من هذه الكنية التي تشرفت بها الزهراء عليها السلام وهو أن الاُمّ في اللغة بمعنى الأصل ، وفاطمة عليها السلام هي الفرع الفذّ النامي من الشجرة المحمدية الذي حافظ على بقاء الأصل وديمومته ، فأخرج للناس ثمار تلك الشجرة الباسقة . عن عبدالرحمن بن عوف قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عدن ، وسائر ذلك في سائر الجنة » (25) . وقد استلهم بعضهم هذا المعنى فأنشد : كمـا الله سمّاها بفاطم إذ قضـى بفطم محبيها من النار في الاُخرى بـأُمّ أبيهـا كنّيـت إذ بفـاطـم بقى ذكره فـي الناس والملّة الغرّا (26) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المعجم الكبير 22 : 397 / 986 . (2) راجع : صحيح مسلم 4 : 1903 / 94 . ومستدرك الحاكم 3 : 154 . ومسند أحمد 4 : 5 دار الفكر ـ بيروت . (3) سنن الترمذي 5 : 700 / 3872 دار احياء التراث العربي ـ بيروت . وجامع الاُصول / الجزري 10 : 86 دار احياء التراث العربي ـ بيروت . ومستدرك الحاكم 4 : 272 . (4) مستدرك الحاكم 1 : 489 و 3 : 165 . ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 56 . وذخائر العقبى : 37 . ومسند أحمد 5 : 275 . (5) مناقب ابن شهرآشوب 3 : 334 . ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 66 . (6) مستدرك الحاكم 3 : 156 . (7) مقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 66 . وذخائر العقبى : 130 . (8) بحار الأنوار / المجلسي 43 : 50 / 47 عن ابن شاذان . (9) شرح ابن أبي الحديد 15 : 17 دار احياء الكتب العربية . (10) مسند أحمد1 : 335 . وتاريخ المدينة المنورة / ابن شبة 1 : 103 دار الفكر ـ بيروت . (11) البدء والتاريخ / المقدسي 5 : 20 مكتبة الثقافة الدينية . (12) صحيح مسلم 3 : 1418 / 107 كتاب الجهاد والسير . (13) صحيح مسلم 3 : 1416 / 101 كتاب الجهاد والسير . (14) المغازي / الواقدي 1 : 249 عالم الكتب ـ بيروت . (15) المعجم الكبير 22 : 225 / 595 و 596 . ومستدرك الحاكم 1 : 488 و 3 : 155 . وحلية الأولياء / أبو نعيم 3 : 30 و 6 : 123 دار الكتب العلمية . ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 63 . وذخائر العقبى : 37 . (16) مجمع الزوائد 10 : 312 . (17) مناقب ابن شهر آشوب 3 : 333 . وبحار الأنوار 43 : 40 . (18) المعجم الكبير / الطبراني 22 : 398 / 989 و 990 و 993 و 994 . والمناقب / ابن شهرآشوب 3 : 359 . وبحار الأنوار 43 : 196 . (19) مناقب ابن شهرآشوب 3 : 362 . وبحار الأنوار 43 : 181 . (20) مقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 77 . وبحار الأنوار 43 : 157 / 6 . (21) الفقيه / الشيخ الصدوق 1 : 194 / 906 دار الكتب الاسلامية . وبحار الانوار 43 : 157 / 7 . (22) أمالي الشيخ المفيد : 41 / 8 طبع جماعة المدرسين ـ قم . والبيتان من قصيدة مروية في عدة مصادر . راجع فاطمة الزهراء في ديوان الشعر العربي : 16 مؤسسة البعثة ـ قم . (23) أي في حسن ونضارة . (24) من قصيدة لبولس سلامة بعنوان عيد الغدير : 80 الطبعة الرابعة ـ طهران . (25) مستدرك الحاكم 3 : 160 . ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي : 61 . (26) البيتان للشيخ علي الجشي من ديوانه 1 : 76 مطبعة النجف 1383 هـ . المصدر : كتاب / سيدة النساء فاطمة الزهراء / علي موسى الكعبي