بتـــــاريخ : 7/19/2010 10:10:28 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1819 0


    لا .. بل النقاب – وإن رغمت أنوف – فريضة وليس عادة ولا مجرد فضيلة

    الناقل : SunSet | العمر :37 | الكاتب الأصلى : أ.د محمد عبد العزيز علي

    كلمات مفتاحية  :


    بسم الله الرحمن الرحيم
     

    الحمد لله القائل في وصف عباده المؤمنين: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .. النور/51-52)، والقائل عن الرافضين أوامره وأحكامه من المنافقين: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا .. النساء/ 60، 61) .. والصلاة والسلام على من أوحي إليه بقوله: (وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .. النحل/ 64)، وبعد: فهذه
    أولاً: الأدلة الصريحة لوجوب النقاب
    1: من المناسب – ونحن نعيش موسم الحج وخير أيام الله على الإطلاق العشر الأوائل من ذي الحجة – أن نبدأ كلامنا عن النقاب بالتذكير بحديث عبد الله بن عمر(1) وفيه يقول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عما يلبس المحرم والمحرمة من الثياب: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، يعني لكون وجه المرأة ويديها في الإحرام – كما نص على ذلك أهل التحقيق – كبدن الرجل في جواز إظهاره وحرمة ستره بالمُفَصَّل على قدره، وقول من قال من السلف: (إحرام المرأة في وجهها ويديها) إنما أراد به هذا المعنى .. وفي معنى حديث ابن عمر السابق جاء قوله أيضاً وذلك فيما رواه أبو داود والبيهقي والحاكم ورجاله رجال الصحيح: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم في إحرامهن عن القفازين والنقاب) .. ولا يعني وجوب كشفهما عند القيام بركن الإحرام والنهي الصريح عن لبسهما إبَّانِه، سوى أن المرأة في غير الإحرام ملزمة على سبيل الفرض بسترهما كما سيأتي في نص كلام القاضي ابن العربي .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: \"وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كان معروفين في النساء اللاتي لم يُحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن\"[مجموع الفتاوى1 5/ 370، 371].

    2: وأن نثنِّي في ذكر أدلة فرضية النقاب بما جاء من تقييد حديث ابن عمر – سالف الذكر – بعدم مرور الرجال الأجانب بحضرة النساء، أو تخصيصه مع ذلك بستر الوجه واليدين بغير المفصَّل على قدرهما من نحو الستر بالكم والملاءة والثوب .. وقد جاء هذا التقييد أو التخصيص في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها(2)، قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوْنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا – أي ركب الرجال – كشفناه) .. كذا بما يعني فرضيته في غير الحج من باب أولى على ما سيأتي، وكذا بلفظ الجمع (محرمات) وضمير (نا) في: (بنا) (حاذونا) (إحدانا) (جاوزنا) (كشفناه) الدال على اشتهاره وشيوعه بين نساء الصحابة، قال في عون المعبود في قولها (يمرون بها): \"أي علينا معشر النساء\"(3).

    3- كما جاء التقييد أو التخصيص فيما أخرجه الحاكم [1/ 454 وقال عنه صحيح على شرط البخاري ومسلم] من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)، ولاحظ أن أسماء هذه، التي تجتهد هنا في إخفاء وجهها عن الرجال حتى فيما لها في إظهاره وجوباً لأجل الإحرام مندوحة، هي عينُها التي ادُعي عليها ونسب إليها بطريق الكذب وفي غير الإحرام – بل وهي داخلة على رسول الله وعليها ثياب رقاق – حديث: (يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا)، وأشار إلى وجهه وكفيه، فهذا وغيره من الأحاديث غير الصحيحة لا يجوز أن يقال أنها متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق.

    4- وجاء التقييد أو التخصيص كذلك في حديث فاطمة بنت المنذر ولفظه: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، تعني جدتها)(4)، وفيه وفي سابقَيه، دليل دامغ على عموم ذلك للنساء سواء كن في عهد الصحابة أو ما بعده لأن أسماء كانت جدة لفاطمة، ودليل دامغ على أن مواكب المؤمنات إلى بيت الله الحرام كن يغطين وجوههن عن أعين الرجال مع معرفتهن بوجوب إظهاره أثناء الإحرام، ودليل دامغ أيضاً على فرضيته على عمومهن في غير الحج بطريق الأولى .. ذلك أن الواجب – كما قرر علماء الأصول وهو هنا وجوب نزع النقاب والقفازين المفروض على النساء أثناء إحرامهن، باعتبار أن الإحرام ركن الحج الأول بعد النية – لا يُترك إلا لما هو أوجب منه وهو هنا لبسهما إبَّانه عند التعرض للرجال .. فما يكون عليه الحال والحكم إذاً في غير الحج سوى الفرضية والوجوب من باب أولى؟؟!! .. والقول بخلاف ذلك هدم ونقض لنصوص الوحي في هذا الباب كتاباً وسنة – وإهمال وإبطال لما عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاُ – وتعطيل واتهام واستخفاف بعقول وأفهام علماء وأئمة الهدى وعلماء الأمة سلفاً وخلفاً.
    وفي بيان ذلك وفي محصلة ما سبق يقول الشافعي: \"ويكون للمرأة إذا كانت بارزة [أي: على قدر من الجمال] تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافية، كالستر على وجهها)\"[الأم 2/ 162] .. ويقول القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي: \"قوله في حديث ابن عمر: (لا تنتقب المرأة المحرمة) وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها\" [عارضة الأحوذي 4/ 56 المسألة الرابعة عشرة] .. وينقل ابن عابدين الحنفي عن صاحب البحر المحيط قوله: \"ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة\"[رد المحتار على الدر المختار2/ 189].

    5- ومن أدلة فرضيته قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي [1173] وابن حبان [329] من حديث ابن مسعود: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، وبنحوه روى الطبراني عنه [1/ 138]، وزاد: (وإنها أقرب ما تكون من الله وهي في قعر بيتها)، ولا يعني قوله عليه السلام: (المراة عورة) سوى أنه يجب ستر مواضع فتنتها وعلى القمة منها الوجه الذي هو مجمع محاسن المرأة وأعظم ما يفتتن الرجال به ويقع بينهم التنافس في تحصيله إن كان حسناً! وكم أضنى العشق المسبب عن النظر إلى وجوه النساء – وليس إلى أذرعهن ولا أرجلهن التي لا خلاف على وجوب سترها مع أن الفتنة بهما دون الوجه – كثيراً وقتل كثيراً، الأمر الذي يعني أن ستر هذه الوجوه هو الأولى باعتبار أنها أماكن الحسن ومواضع الافتتان، وما عليه التعويل في الحكم على المرأة بالجمال وعكسه .. وتصريح العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما كان عند كلامهم على شرط ستر العورة في أبواب (شروط صحة الصلاة).

    أ- قال الشافعي في (باب كيف لبس الثياب في الصلاة): \"وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها)\"، وقال:\"وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها\"[الأم1/ 77]، ونقل عنه الهيتمي في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة في الصلاة، وهذا ما عليه أصحاب الشافعي، وما نُقل عن بعضهم من حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة ليس بمعول عليه عندهم[ينظر روح المعاني 18/ 207، 208]، وقد مر بنا كلامه في تنقب المحرمة إذا حازت الرجال .. وقال موفق الدين ابن قدامة صاحب المغني في (باب صفة الصلاة) 1/ 101: \"قال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة) .. وقال الشهاب: \"وما ذكره – أي البيضاوي – من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها – يعني في وجوب ستر الوجه والكفين في غير الصلاة دونها – مذهب الشافعي رحمه الله\"[عناية القاضي6/ 373].
    وبناء على ذلك فقد رجح الغزالي في (الإحياء) أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه – يعني عن كشفه – واجب، قال الزبيدي: \"قوله لها في تلك الحالة: (لا تكشفي وجهك، أي: استري وجهك) واجب أو مباح أو حرام، لا يخلو من أحد الثلاثة، فإن قلتم: إنه واجب، فهو الغرض المطلوب لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق\"(5) .. كما نص الإمام النووي على أنه \"يحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة أجنبية، وكذا إلى وجهها وكفيها عند خوف الفتنة وكذا عند الأمن على الصحيح\"، كذا في المنهاج، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. النور/ 30)، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية، قال العلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير معلقاً: \"وبه اندفع القول بأنه غير عورة\" [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6/ 187وينظر نيل الأوطار للشوكاني 2/18] .. وما قاله النووي قال به الأصطخري وأبو علي الطبري واختا ره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني وغيرهم.
    قال العلامة تقي الدين السبكي: \"إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة\"، بل نص بعضهم على وجوب ستره حتى في الصلاة إذ لم يمكن الاحتراز عن نظر الرجال، وعليه ففي غير الصلاة من باب أولى، يقول الخطيب الشربيني: \"ويكره أن يُصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثماً والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب\"(6) .. وفي حواشي الشرواني والعبادي: \"من تحققت من نظر أجنبي لها، يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم\"[حواشي الشرواني والعبادي6/ 193].
    ومحصلة ما ارتآه الشافعية وجوب ستر وجه المرأة وكفيها عدا في الحج وفي الصلاة في حال عدم محاذاة الرجال .. قال الشهاب في شرحه: \"ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها، أن جميع المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقاً\"[عناية القاضي وكفاية الراضي6/ 373] .. وقال البلقيني: \"الفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقاً .. وهو الراجح\"(7).

    ب: رأي الحنابلة: قال أحمد: \"ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئاً، ولا خُفيها فإنه يصف القدم، وأحب أن تجعل لكمها زراً عند يديها\"، نقله عنه العلامة ابن مفلح والشيخ يوسف مرعي [ينظر الفروع لابن مفلح1/ 601، 5/ 154 وغاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى للشيخ يوسف مرعي3/ 7] .. كما نقل العلامة ابن مفلح عن شيح الإسلام ابن تيمية قوله: \"وكشف النساء وجوههن يراهن الأجانب، غير جائز\"[الآداب الشرعية والمنح المرعية1/ 193] .. وقال الإمام ابن قدامة: \"لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان\"[المغني1/ 601، 602]، قال ابن عبد البر: \"إجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به، وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة\"(8).
    قال منصور بن إدريس البهوتي: \"لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره، قال جمع: وكفيها .. وهما – أي الكفان والوجه – من الحرة البالغة عورة خارجها – أي الصلاة – باعتبار النظر كبقية بدنها، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)\"[كشف القناع على متن الإقناع1/ 243] .. وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها .. إلا وجهها، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحر كشف وجهها في الصلاة، ذكره في (المغني) وغيره\"[مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للشيخ المرعي الكرمي1/ 330] .. وقال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني: \"والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها\"[نيل المآرب بشرح دليل الطالب1/ 39] .. وقال المرداوي: \"وقال بعضهم: (الوجه عورة، وإنما كُشف في الصلاة للحاجة)، قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية –: (والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه)\"[الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل لأبي الحسن المرداوي الحنبلي 1/ 452] .. ويقول ابن قيم الجوزية: \"العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك\"[القياس في الشرع الإسلامي ص 69] .. وقريب من اتجاه ابن تيمية وتلميذه في التوفيق بين هذه الآراء الشاذة، يقول المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجازي: \"والمرأة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، قال جمع: وكفيها، وهما – أي الكفان – والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها[الإقناع1/ 88]، وقال المرداوي أيضاً فيما نقله عن الإمام أحمد: \"كل شيء منها عورة حتى ظفرها\" .. قال:

    جـ: \"وهو قول مالك\"[(الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور) للتويجري ص 96 و(الرد القوي) له ص 245]، وبعدم جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها للأجانب لدى المالكية، صرح ابن المنير فقال: \"إن كل بدن الحرة لا يحل لغير الزوج، والمحرَّم: النظرُ إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة\"[روح المعاني18/ 207 مجلد10] .. وقال القاضي ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن)2/ 18: \"والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة أو داء يكون ببدنها\" .. وما ورد عن القاضي عياض بوجوب غض البصر على الرجل واختصاص زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بتغطية وجوههن وأكفهن، تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: \"وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه\" [ينظر الفتح8/ 391 وينظر11/ 12] .. ومن ورد عنه من المالكية من غير القاضي عياض خلاف ما اشتهر لديهم وخالف إمام مذهبه، فليس لكون أمر ستر الوجه والكفين عنده على غير الوجوب، وإنما لكون علة تغطيتهما: خوف الفتنة المحققة، لا لكونهما عورة .. يقول الشيخ أحمد الدردير في (أقرب المسالك إلى مذهب مالك): وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة\"، وعليه فأئمة المذهب على القول بوجوب النقاب أياً ما كانت العلة، وإلا فكيف يستقيم قول بعضهم بحق المحرمة: \"متى أرادت الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقاً علمت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها واجباً\"[حاشية الدسوقي على الشرح الكبير1/ 214] .. وقد علمنا أن سترها للوجه والكفين إبان إحرامها دال على الوجوب بطريق الأولى إذ لا يترك واجب وركن الإحرام – بنزع نقابها وقفازيها – إلا لما هو أوجب منه .. وسيأتي المزيد من أقوال أئمة التفسير ممن كانوا من أصحاب هذه المذاهب الثلاثة.

    د: والمرجح لدى الحنفية (أصحاب مدرسة الرأي): هو ما عليه جمهرة فقهاء الأمة من وجوب ستر وجه المرأة وكفيها .. وإن اختلفت علة التحريم عند أكثرهم وكانت بالأساس: خوف الفتنة لا لكون ذلك عورة، وإنما قلت: (عند أكثرهم): لأن هناك من أطلقه ولم يقيده بخوف فتنة، وهناك من نص على أن العلة في تغطية وجه المرأة كونه عورة وأن هذا هو المعتمد في المذهب .. وقد مر بنا ما نقله ابن عابدين عن صاحب البحر المحيط، وسيأتي كلام الإمام النسفي أثناء الحديث عن آية الإدناء، وكذا العلامة أبي بكر الجصاص الحنفي، القائل بهذا، وذلك إبان ذكر كلامه في الأدلة الثلاثة الماثلة في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)، وقوله: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)، وقوله: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، وكذا كلام غيرهما من أئمة المذهب.
    وهذا هو الجرداني – أحد شيوخ الحنفية – ينص فيما نقله عنه البيانوني في (الفتن) ص197وإسماعيل المقدم في (أدلة الحجاب) ص 463 على أن \"عورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها، بدون استثناء شيء منه أصلاً ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها ولو بغير شهوة .. ويجب أن تستر عنه، وهذا هو المعتمد\" .. وسواء أكانت العلة في تغطية وجه وكفي المرأة، كونها عورة أو لخوف الفتنة التي لا يخلو منها زمان أو مكان، فالحكم والنتيجة في النهاية واحدة.
    يقول صاحب (فيض الباري على صحيح البخاري): \"وأفتى المتأخرون بسترها – أي الوجه والكفين – لسوء حال الناس\" [فيض الباري للإمام محمد أنور الكشميري 1/254]، وقال العلامة ابن نجيم: \"وفي فتاوى قاضيخان: لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة، وهو يدل على أن هذا الإرخاء، عند الإمكان ووجود الأجانب واجب عليها\"، وقال أيضاً: \"قال مشايخنا: تُمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة\"[البحر الرائق شرح كنز الدقائق2/ 381، 1/ 283]، وفي المنتقى: \"تمنع الشابة من كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب بل فرض لغلبة الفساد\"[نقلاً عن اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية ص141] .. وفي الهدية العلائية: \"ويُنظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة .. وتمنع الشابة من كشف وجهها عند خوف الفتنة\"[نقلاً عن (فقه النظر في الإسلام) للشيخ محمد أديب كلكل ص 141]
    ولكل عاقل أن يساءل نفسه: إذا كانت الفتنة في زمن الأوائل على هذا النحو، فما يكون عليه الحال إذاً في زماننا؟ .. على أن الضابط في قول الأئمة: (عند خوف الفتنة) \"إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة\"[أدلة الحجاب لإسماعيل المقدم ص464 عن الفتن ص 197].
    وعلى ما هو الإجماع – لديهم ولدى سواهم – لا يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها عند عدم أمن الفتنة، وأقوال القائلين بذلك من الأحناف، هي من الشهرة والكثرة بمكان .. والأوجب لدى أبي حنيفة وأصحابه ستر وجه المرأة عند مظنة الخوف من حدوث الفتنة أو كان ذلك لشهوة، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه \"يحل النظر إلى مواضع الزينة من المرأة من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) وليس زنا العينين إلا النظر عن شهوة\"، ثم قال: \"والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية وكذا الشابة، لما فيه من خوف حدوث شهوة والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: (إلا ما ظهر منها): أنه الرداء والثياب، فكان غض البصر وترك النظر أزكى وأطهر\"[بدائع الصنائع 5/ 123] .. وقال السرخسي في المبسوط10/ 153: \"وهذا كله – يعني النظر إلى وجه المرأة وكفيها – إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها\" .. وجاء في الدر المختار: \"يُعزِّر المولى عبده والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة لتُسمعها أجنبي، أو كشف وجهها ل غير مَحرَم\"[هامش رد المحتار شرح الدر المختار لابن عابدين3/ 261] يريد: أن للسيد معاقبة أيٍّ من أمته أو زوجه إذا تركت إحداهما الزينة له، أو قالت كلمة أرادت أن تسمعها لأجنبي أو كشفت وجهها لغير مَحرَم .. وجاء فيه أيضاً: \"وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة، كمسِّه وإن أمنت الفتنة، لأنه أغلظ، ولذا ثبتت به حرمة المصاهرة\"، قال ابن عابدين في شرحه عليه: \"المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة، لآنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، قوله: (كمسه) أي كما يمنع الرجل من مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة\"[السابق].
    = ومهما يكن من أمر فهناك شبه إجماع على وجوب تغطية وجه المرأة وكفيها لكون هذه الأعضاء عورة يجب سترها عن الأجانب من الرجال .. كما اتفقت مذاهب الفقهاء وجمهور الأئمة على أنه لا يجوز للنساء الشواب كشف الوجوه والأكف بين الأجانب، ويستثنى فيه العجائز لآية: (والقواعد من النساء .. النور/60)، والضرورات مستثناة من الجميع بالإجماع .. واتفقت كذلك على وجوب ستر وجهها وكفيها إذا تغيرت الحالة العامة للمجتمع العفيف ولم يؤمن فيه الفتنة سداً لذرائع الفساد وعوارض الفتن .. ولا أحد يستطيع أن يزعم أن الفتنة مأمونة اليوم، والحال في هذا يغني عن المقال – وعليه فحكم ستر وجه المرأة وكفيها في المذهب الحنفي في مثل أيامنا هو كحكمه في باقي المذاهب الأربعة وهو: وجوب تغطيتهما وحرمة كشفهما لغير ضرورة، وهذا يستلزم في زماننا القول بفرضية النقاب ولاسيما مع ما سبق وسيأتي من ذكر المزيد من نصوص مفسري كلٍّ من هذه المذاهب حتى ولو عند أمن الفتنة.
    وما ذكرناه يدفع – من دون شك – ما ظاهره التعارض بين ما ذهب إليه علماء وفقهاء الأمة من أن الوجه ليس بعورة، وبين إفتائهم هم أو أقرانهم من نفس المذهب بوجوب ستره أمام الأجانب، إذ يعنون بكونه ليس بعورة توضيح ذلك في الصلاة التي الإجماع فيها على كشف الوجه إذا لم تكن المرأة بحضرة رجال أجانب، بينا يقصدون بوجوب ستره لكونه عورة: تحريم النظر إلى شيء منه خارج الصلاة، بما يعني أن حدود العورة ليست هي حدود الحجاب .. كما يدفع ما ذكرناه، القولَ بعدم ستر وجه المرأة على إطلاقه، إذ الإجماع على ستره عند عدم أمن الفتنة، والإجماع كذلك على مشروعيته وعدم صحة ما يشغب به البعض من القول بأنه عادة أو مجرد فضيلة، ناهيك عما يصدر ممن يهرف بما لا يعرف فيقول ببدعيته وأحيانا بحرمته وأحياناً بأن ليس ثمة دليل يُستدل به عليه، وإلى الله وحده المشتكى.

    6- حديث أم عطية وقد رواه الشيخان، وفيه تقول رضي الله عنها: أمرَنا رسول لله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق[جمع عائق وهي: الشابة أول ما تدرك] والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: (لتلبسها أختها من جلبابها) .. والمعروف عن الجلباب أنه على ما سيأتي بيانه في تفسير قوله تعالى: (من جلابيبهن .. الأحزاب/ 59) ما غطى جميع الجسد لا بعضه، وأن هذا ما ذكره ابن حزم وصححه القرطبي ومحصلة ما اتفق عليه جمهور أهل العلم، يؤيد ذلك ما حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: \"ما يَمنع المرأة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها [الأطمار جمع طِمْر وهو: الثوب الخرق]، أو أطمار جارتها مستخفية، لا يَعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها؟ّ\"، كما يؤيده ما ذكره الشيخ أنور الكشميري في فيض الباري1/ 388 قال: \"والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القرن\" .. وكذا ما جاء في (تيسير التفسير) من أن \"الصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك\"[تيسير التفسير لإبراهيم الشورى ومحمد الشيباوي 8/ 46] .. وعلى جملة هذه الأقوال يُحمل قول الحافظ ابن حجر في الفتح1/ 505: \"وفيه – حديث أم عطية – امتناع خروج المرأة بغير جلباب\" .. وقول البدر العيني في عمدة القارئ 3/ 305: \"ومنها – أي من فوائد الحديث – امتناع خروج النساء بدون الجلاليب\"(9).

    7- ومن أدلة فرضية النقاب ما جاء في قصص خطبة رجال الصحابة لنسائهم، من ذلك ما جاء عن المغيرة بن شعبة – وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد وغيرهم – قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يُؤدَم بينكما)، قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما كرها ذلك، قال: فسمعَت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فأنشدك – كأنها أعظمت ذلك – قال: فنظرت إليها فتزوجتها .. ومثله حديث جابر الذي أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وفيه: (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) .. وحديث محمد بن مسلمة وقد رواه ابن ماجة والطيالسي وأحمد والحاكم، وفيه: (فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها)(10).
    وبالجملة: ففي هذه الأحاديث دليل على جواز نظر الرجل إلى وجه المرأة والعكس بقصد الخطبة، وعلى ما كان عليه نساء الصحابة من المبالغة في التستر من الرجال الأجانب بحيث لم يكن الرجل منهم يقدر على أن يراهن حتى ولو لسبب شرعي إلا بالحيل أو أن يسمحن له بالرؤية .. ولو كن سافرات الوجوه كاشفات الخدين لما كان الرجال بحاجة إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن إلى حد أن يكره والدا الفتاة ذلك وأن تعظمه الفتاة نفسها وتتشدد فيه على واحد كالمغيرة .. ورواية جابر: (فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت بعض ما دعاني إليها [المحلى11/ 220]) ومثلها رواية ابن مسلمة، دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال، وتلك قاعدة ذهبية في غاية الأهمية يمكن أن يحمل عليها كثير مما ورد من نظر الفجاءة وما يعنيه أمره تعالى بغض البصر.

    8-
    ومن أدلة فرضيته ما رواه أبو داود وعبد الرزاق عن أم سلمة رضي الله عنها قولها: لما نزلت هذه الآية: (يدنين عليهن من جلايببهن .. الأحزاب/ 59) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها [روح المعاني 22/ 128 مجلد12]، وفى رواية أبي داود وابن مردويه من طريق عائشة: (شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله كأنما على رؤوسهن الغربان)[ينظر السابق وفتح القدير للشوكاني4/ 307] .. ولنا أن نتصور تفاصيل ما جرى لنتأمل صدق وقوة إيمان الفضليات من النساء الأول، وذلك فيما رواه ابن أبي حاتم من طريق صفية بنت شيبة، قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لما أنزلت سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبيته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله ع ليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان\"[تفسير ابن كثير والآلوسي]، ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أكسيتهن، والاعتجار هو الاختمار، قال الحافظ: \"قوله: (فاختمرن) أي: غطين وجوههن\"[فتح الباري8/ 347].

    9-
    ومنها ما كان من النساء المهاجرات، فهن الأخريات كن على نفس هذا المستوى من الإيمان والطاعة لله ورسوله، وفى حقهن أورد البخاري في صحيحه [4758] عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن .. النور/ 31) شققن مروطهن فاختمرن بها .. الأمر الذي يدل على أن النقاب كان محل إجماع لدي جميع نساء الصحابة مهاجرات وأنصاريات، وإجماعهن وكذا إجماع رجالهن من الصحابة الذين تلوا عليهن الأمر به، هو في حد ذاته حجة يستلزم وجوب وفرضية ما أجمعوا عليه .. كما يدل على شيوع أمر النقاب هذا بين عامة النساء المؤمنات، وذلك بعد نزول آيتي النور والأحزاب المذكورتين آنفاً، فقد تغير على إثرهما حال النساء المؤمنات الفضليات وأضحى النقاب واجباً متبعاً لعمومهن، من يومها وحتى يوم الناس هذا وإلى يوم القيامة مهما حاربه المحاربون، وحوله من الشبهات أثار المغرضون.

    10-
    وعلى نحو ما فهم الصحابة والصحابيات الأمر في قوله تعالى فيما يعرف بآية الإدناء: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين .. الأحزاب/ 59)، على الوجوب وفرضية النقاب فكانوا وكن نماذج تحتذى في الإيمان والتصديق على نحو ما حكت أم سلمة وعائشة، فقد فهم جل علماء الأمة – سلفاً وخلفاً – منها ذلك، وفهمهم لنصوص الوحي حجة إذ هم الأقرب منه والأعرف بمراده والأدرى باللغة التي نزل بها والآمن على نقله إلينا .. من هؤلاء ابن عباس فقد ورد عنه (11) قوله بعد أن ذكر الآية: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة .. ومنهم الفقيه العَلَم عبيدة بن عمرو السلماني (12) قال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله تعالى .. وذكر الآية، فقال بثوبه فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه، وفي رواية عنه لابن عون: فتقنع بردائه فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه قريباً من حاجبه أو على الحاجب .. وقتادة فقد جاء عنه – ومثله عن ابن عباس – قوله: (تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تع طفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه\"[روح المعاني 22/ 128 مجلد12والغريب أن تأتي هذه الرواية والتي قبلها عن ابن عباس وهو الذي أشيع عنه بطريق الخطأ القول بأن معنى (ما ظهر منها) المستثنى في جواز كشفه: الوجه والكفين] .. والسدي، قال: \"تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الأخر إلا العين\"[البحر المحيط 7/ 250] .. ومنهم أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الحنفي ت370 قال: \"في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن\"[أحكام القرآن3/ 458] .. والفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بـ (إلكيا الهراس] ت504 قال في تفسيره الآية 4/ 354: \"الجلباب: هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن\" .. والإمام محيي السنة أبو الحسين البغوي ت516 الذي اكتفى بقول ابن عباس وعبيدة ولم يلتفت إلى قولٍ آخر كأنه لم يره شيئاً مذكوراً، وكذا فعل (الخازن) .. والزمخشري ت538 قال في الكشاف 3/ 274: \"معنى (يدنين عليهن من جلابيبهن): يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: (أدنِي ثوبكِ على و جهِكِ)، وساق في ذلك كلام عبيدة والسدي والكسائي، وقد نقل عبارته بنصها الإمام عبد الله بن محمد النسفي الحنفي ت701 .. وممن قال بالنقاب ابن الجوزي الحنبلي ت 597 قال في قوله (يدنين عليهن من جلالبيبهن): \"أي تغطين رؤوسهن ووجوههن ليعلم أنهن حرائر) .. والإمام القرطبي المالكي ت671 قال: \"قوله تعالى: (من جلابيبهن)، الجلابيب: جمع جلباب .. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن\" .. ومنهم الإمام القاضي ناصر الدين البيضاوي الشافعي ت691 قال في تفسيره الآية 2/ 280: \"يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة\" .. والعلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي المالكي ت 741 قال: \"وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها\" .. والإمام النحوي المفسر الشهير بأبي حيان ت 745 قال في البحر المحيط 7/ 250: \"والظاهر أن قوله: (ونساء المؤمنين) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح، و(مِن) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن): على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في ا لجاهلية هو الوجه، (ذلك أدنى أن يعرفن) لتسترهن بالعفة فلا يُتعرض لهن، لا يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت غاية في التستر والانضمام لم يُقدَم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها\" .. والإمام الحافظ أبو الفداء المعروف ابن كثير ت 774 وساق في ذلك أثري ابن عباس وعبيدة السلماني وقد مرا .. والإمام جلال الدين أبو عبد الله المحلي ت864 قال في حاشيته على الجلالين ص560: \"أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة\" .. والإمام السيوطي، قال: \"هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن\"[عون المعبود4/ 106 والإكليل على هامش (جامع البيان) ص 334] .. والإمام الخطيب الشربيني، قال في تفسيره (السراج المنير) 3/ 271: \"(يدنين) يقَرِّبن، (عليهن) أي على وجوههن وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً\" .. والشيخ أبو السعود ت 951، قال في تفسيره 7/ 115: \"أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي\" .. والشيخ إسماعيل حقي البروسوي ت 1137قال في تفسيره (روح البيان) 7/ 240: \"المعنى: يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرج ن مكشوفات الوجوه والأبدان\" .. والعلامة الشوكاني ت1250 قال4/ 305: \"قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة\" .. والشيخ السيد الميرغني المحجوب المكي ت1268، قال في تفسيره2/ 93: \"أي يرخين على وجوههن وسائر أجسامهن ما يسترهن من الملاءات والثوب الساتر\" .. والآلوسي البغدادي صاحب (روح المعاني) ت1270 وقد سبق ذكر بعض كلامه بالدليل الخامس والسابع .. والشيخ عبد العزيز بن خلف، قال في كتابه (نظرات في حجاب المراة المسلمة) ص 48: \"لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله لكفى به حكماً موجباً، لأن الوجه هو العنوان من المراة من الناحية المحظورة، والله تعالى أمر المرأة بأن تعمل على حجب ما يدل على معرفتها من بدنها، وهذا الأمر يقتضي الوجوب ولا يوجد أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الخيار\"أ.هـ .. والمودودي ت1399 رحمه الله تعالى، فقد قال في كتابه (الحجاب) ص302، 303 بعد أن نقل جملة من أقوال المفسرين – ونقول بقوله –: \"ويتضح من هذه الأقوال جميعاً أنه من لدن عصر الصحابة .. حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو ما فهمناه من كلماتها، وإذا رجعنا بعد ذلك إلى الأحاديث النبوية والآثار، علمنا منها أيضاً أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات، وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل لتفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الجانب، مازال العمل جارياً عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم\"أهـ باختصار .. وغير من ذكرنا كثير يضيق المقام بسرد أقوالهم.
    فإن قيل: لا توجد قرينة صريحة ولا واضحة تفصح عن أن المراد من (يدنين عليهن من جلابيبهن) ستر الوجه، ومن أنها دالة في قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن) على تغطية الرأس لأن التي تستر وجهها لا تعرف، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية، فجوابه: أن بطلان ذلك واضح فإن سياق الآية وصريح قوله: (يدنين عليهن من جلابيبهن) يمنعه تماماً، وبيانه: أن الإشارة في (ذلك أدنى أن يعرفن) ليست راجعة إلى كشف الوجوه بل راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدنائهن على هذا النحو المذكور في الآية لا يمكن أن يكون بسفورهن وكشفهن عن وجوههن، وأنى يكون بذلك والوجه عنوان المعرفة، وعليه فالآية نص على وجوب ستر الوجه .. كما أن قوله: (لأزواجك) دليل ثان على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بتغطية الرأس دون الوجه، لأن احتجاب زوجاته صلى الله عليه وسلم بستر وجوههن لا خلاف فيه بين المسلمين، وعليه فيكون الأمر لنساء المؤمنين بستر وجوههن المقترن والمعطوف على ما قبله، إنما هو على الوجوب كذلك .. يضاف لما سبق أن الجلباب الوارد ذكره في الآية إنما هو: ما تضعه المرأة على رأسها لتغطي به وجهها، وهذه هو المفهوم من لغة العرب على ما سبق توضيحه في عب ارة الزمخشري، فكيف يحمل معناه – مع قرينة الإدناء – على غير ذلك .. ثم إن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم – على ما رأينا وتلك قرينة رابعة تضاف لما سبق – فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها وهو ألا يطمع فيهن الفساق ومن في قلوبهم مرض وليتميزن عن نساء الجاهلية والإماء غير العفيفات، ومجرد تغطية الرأس لا يمنع من المغازلة بل ويفوت علة نزولها كما يؤدي إلى الطعن فيما أورده من هم أعلم منا بمعاني ما جاء عن الله ورسوله.
    = ومما يقضى منه العجب: أن يدعي من يهرف بما لا يعرف أن الأمر في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن) خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لا يوجد في منطوق الآية ما يدل على النقاب أصلاً، فضلاً عن القول بوجوبه .. وهذا يَرِد عليه أن دعوى الخصوصية في الانتقاب قد أبطلت بقوله: (ونساء المؤمنين)، حيث أشرَكت في الخطاب نساء المؤمنين باللفظ الصريح بإدناء الجلباب .. فضلاً عن أن أحكام القرآن لا تتوقف على أسباب نزول الآي، فهي تخاطب الناس في هذا الزمان كما كانت تخاطب الرسول وأصحابه، وان العبرة –فيما لا يوجد له دليل مخصص – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا فهل يستطيع عاقل أن يقول أن النهي عن الخضوع بالقول وتبرج الجاهلية والأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في قول الله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة واطن الله ورسوله .. الأحزاب/ 32، 33) خاص بزوجات النبي وأن غيرهن من نساء المؤ منين غير مطالبات بذلك، فما بالك والحال في إدناء الجلاليب – على ما سبق وعلى ما أفاده قول الله تعالى: (ونساء المؤمنين) – بإبطال دعوى لخصوصية؟.
    = أما دعوى أن القول بالنقاب لم يرد ولم ينطق به كتاب الله ومن ثم فليس ثمة وجوب ولا إلزام لنساء المؤمنين به .. فينقضها أن ثمة أقوال وردت في تحديد معنى الجلباب الوارد في قوله تعالى: (جلابيبهن)، أرجحها ما ذهب إليه كثير من المحققين من أنه يعني في لغة العرب التي خاطبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم هو: ما غطى جميع الجسد لا بعضه، ذكره ابن حزم في المحلى 3/ 217 وصححه القرطبي في تفسيره 14/ 243 واتفقت عليه عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها، وقوله تعالى: (يدنين) إنما تعني في الأصل: \"التقريب، يقال: أدناني أي قربني، وعدي بـ (على) ليتضمن معنى الإرخاء أو السدل من فوق، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تسترٌ يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين\"[روح المعاني بتصرف]، فالإدناء هنا وعلى ما يقتضيه السياق، شيء زائد على التجلبب، دل عليه فعل عبيدة السلماني وجميع الصحابيات وأقوال سائر الأئمة، ولو كان الأمر على غير ما ذكر – أعني معنى اللف ومجرد ستر الرس – لقال: (يدنين إليهن) ولما اتفق مع قوله: (جلابيبهن) ولا مع أفعال الصحابة وأقوالهم، ولكان كلامه تعالى عبثاً في حق أمهات المؤمنين اللواتي أمرن – من د ون ريب – بتغطية وجوههن، والأمر – على ما هو متضح – لهن ولسائر نساء المؤمنين .. كما ينقض الدعوى السالفة الذكر، إفادة صيغة المضارع: (يدنين) للأمر، فهو خبر في معنى (فليدنين)، (ومعلوم أن الأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد دليل يصرفه إلى معنى آخر – وليس ثمة – وأنه إذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في الدلالة على الوجوب[ينظر حاشية الشهاب وأدلة الحجاب ص 233]، وتغير حال نساء المهاجرين والأنصار الذي ينم عن سرعة الامتثال والاستجابة، وكذا سائر ما مر بنا من أدلة وأقوال خير شاهد على هذا .. يضاف لما ذكر أن ما استدل به ومال إليه القائلون بعدم وجوب النقاب من نحو قول مجاهد في معنى (يدنين): (يتجلببن)، وقول عكرمة: (تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها، وقول سعيد بن جبير: (يسدلن عليهن)، وقول ابن قتيبة: (يلبسن الأردية)[ينظر في هذه الأقوال تفسير ابن كثير5/ 516، والآلوسي 22/ 83 وزاد المسير6/ 422] .. إلى غير ذلك، ليس صريحاً في نفي ستر الوجه بل ولا ينافيه، وما ذلك إلا لأن التجلبب كان له طريقه المعروف في نساء المؤمنين وهو لبسها مع تغطية الوجه، وإلا لأن \"الصحابة والأمة المسلمة التي التزمت نساؤها بستر الوجوه ب عد نزول آيتي النور والأحزاب، وكذلك أكابر الصحابة والتابعين وفطاحل العلم الذين فسروا إدناء الجلباب بستر الوجوه، لا يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا يجهلون لغة العرب أو يجهلون أنهم يمتثلون ويفسرون أمراً من أوامر الله، وأن الأمر للوجوب\"[أدلة الحجاب لمحمد إسماعيل المقدم ص 234].
    = وثالث هذه الشبهات التي يحتج بها المنكرون للأمر بالنقاب في الآية – محل الاستشهاد – أن علته هي تمييز الحرائر من الإماء وليس ثمة إماء في زماننا فانتفى بذلك المعلول .. ونقول جواباً على ذلك: نعم والأدلة والنصوص شاهدة على ذلك، والآثار بذلك عن عمر صحيحة .. لكن لا ينبغي أن يغيب عنا \"أنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء، وربما تعرض لهن السفهاء\"[التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي3/ 144]، وجلبن – بالطبع – القيل والقال على غيرهن من الحرائر .. وأن هذا كان في حق \"إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذِنَ للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم: (إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالباً كالبطن والظهر والساق)، فظن أن ما يظهر غالباً حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما في الصلاة لا النظر، فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة وعورة النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق و مجامع الناس كذلك\" [القياس في الشرع الإسلامي لابن تيمية وتلميذه ابن القيم ص 69] .. وما تقرر هنا \"من احتجاب الحسان من الإماء وبروز غير الحسان، قد نص عليه الإمام أحمد، فنقل ابن منصور عنه أنه قال: (لا تنتقب الأمة)، ونقل ابن منصور عنه أيضاً وأبو حامد الخَفَّاف أنه قال: (تنتقب الجميلة)\"[الصارم المشهور للتويجري ص 74] .. فبطل بذلك ما احتج به المبطلون، وظل الحكم الشرعي باقياً سواء وجد إماء فأخذن حكم ما ذكرنا أم لم يوجد.

    ثانياً: من أدلة الوجوب بطريق الفحوى


    11- على عادة توجيه الخطاب لعامة نساء المؤمنين بطريق غير مباشر وعن طريق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، جاء قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله .. الأحزاب/ 32، 33) .. وهذا أسلوب عال ومنهج رفيع في التربية أشبه ما يكون بقولك لبنت نجيبة مثلاً: (يا بنيتي لست كواحدة من عامة النساء حتى تتسكعي في الشوارع وتخضعي للرجال بالقول وتأتي بما لا يليق من الحركات، فعليك بالأدب واللياقة)، فقولك هذا لا يعني أن سائر البنات يُحمد فيهن تسكع الشوارع وإتيان الحركات السيئة ولا يطلب منهن الأدب واللياقة، بل المراد بمثل قولك هذا تحديد معيار لمحاسن الأخلاق وفضائلها كي تتطلع وتصبو إليها كل بنت تريد أن تعيش كنجباء البنات فتسعى من ثم في بلوغها والحصول عليها .. وهكذا فعل القرآن حين اختار هذا الأسلوب وهذه الطريقة في مخاطبة نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد أراد أن يضبطهن بضابطه على وجه خاص حتى يكن أسوة لسائر النساء ولتُتَّبع طريقتهن وعاداتهن في بيوت عامة المسلمين، على ما هو الحال في اتخاذ القدوة من القيم عليهن صلى الله عليه وسلم، وبذا يكون هو وأهل بيته أمثلة تحتذى لكل أسرة، فيتحقق الاقتداء حينذاك من جميع الأوجه .. وإذا كان القرآن قد صرح بذلك في قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .)، فإن الأمر مع حافظات سره وألصق الناس به ومع تصرفه وتربيته لبناته وأحفاده وأهل بيته وأقربائه هو من هذا القبيل .. وإلا فأي من هذه الوصايا الربانية والتوجيهات الإلهية السالف ذكرها لا تتصل بعامة النساء المسلمات؟ وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله تعالى، أو قد أبيح لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية أو يخرجن سافرات بارزات؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة ويُعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟.
    فإذا ما قنعنا بأن هذه الأوامر والإرشادات عامة لجميع المسلمات، فما المبرر لتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب وعدم مخالطة الأجانب، بهن خاصة؟ إن التوجيه الرباني والتربية الإلهية لكل النساء في شخص أمهات المؤمنين، إنما هو من باب: (إياك أعني وافهمي يا جارة) .. وإذا تقرر هذا فإن كل ما ثبت لنسائه عليه السلام ثبت لغيرهن، وكل ما ثبت لغيرهن ثبت لهن، ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم وفطاحل أهل العلم أن الأمر في الآيات محل الشاهد، يقتضي العموم وأن سياق الآية يفيده ويقتضيه، وهم حجة على من سواهم [ينظر السابق]، وإليك بعضاً من أقوالهم:
    قال الإمام أبو حيان في تفسيره للآيتين: \"وكان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوهن\" .. وقال الإمام أبو بكر الجصاص: \"هذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لهن، وسائر النساء المؤمنات مرادات بها\"[أحكام القرآن 3/ 360] .. وقال الشيخ المراغي: \"(وقرن في بيوتكن) ي: الزمن بيوتكن، لا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء\"[تفسيرالمراغي 33/ 6] .. وقال صاحب (نظرات في حجاب المرأة المسلمة): \"قد قرن الله تعالى هذا التوجيه بالتقوى حيث لا تلتزم بتلك الصفات المحمودة المشروعة إلا من تخشى الله تعالى وتتقيه من كل النساء، وهذا السياق قيل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقول أحد من المسلمين: إن الحكم خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وأن للنساء المؤمنات أن يخالفنه؟ هذا لا يقول به أحد، والحكم فيه لعموم اللفظ لا لخصوص السبب .. وهذا كله ظاهر، لأن هذه كلها أحكام وآداب وتوجيه من الله جل جلاله لتحتفظ المرأة المسلمة بكرامتها وحصانتها، وأيضاً لقطع دابر الوسائل لتي ت قرب إلى الفتنة والشر، وهذا سبيل من كان يرجو الله واليوم الآخر\"[نظرات للشيخ عبد العزيز بن خلف ص94، 95].
    وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: في الآيتين دلالات كبرى كلها تؤكد حكم الحجاب وتقرره، وهي كالتالي:
    أ – منع المؤمنة من ترقيق قولها وتلينه إذا تكلمت مع أجنبي عنها ليس مَحْرَمَاً لها.
    ب – تقدير وجود مرض الشهوة في قلوب بعض المؤمنين، وهي علة نهي المرأة عن ترقيق قولها إذا قالت.
    جـ – وجوب تحديد العبارة والتكلم على قدر الحاجة، بحيث لا تزيد المرأة إذا تكلمت مع أجنبي ما ليس بضروري للإفهام، فلا يجز منها إطناب ولا استطراد، بل يجب أن تكون كلماتها على قدر حاجتها في خطابها.
    د – لزوم المرأة المسلمة بيتها وهو مقر عملها الطبيعي، فلا تخرج إلا لحاجة ماسة، إذ البيت هو محل تربية أولادها وخدمة زوجها وعبادة ربها بالصلاة والزكاة وذكر الله وما والاه.
    هـ – تحريم التبرج، وهو خروج المرأة المسلمة من بيتها كاشفة من وجهها، مظهرة لمحاسنها غير خجلة ولا محتشمة حيية.
    إن هذه الدلالات الخمسة في خطاب أمهات المؤمنين، كل واحدة منها دالة بفحواها على فرضية الحجاب وتحتمه على المرأة المسلمة [وهو يقصد بالحجاب هنا النقاب بدليل كلامه الذي سقناه له آنفاً]، غير أن المبطلين لم يروا ذلك، فقالوا إن آية (ولا تبرجن تبرج الجاهلية) والتي قبلها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خاصة بهن ولا تعلق لها بغيرهن من نساء المؤمنين وبناتهن .. ويبدو أنه لما الحجاب مخالفاً لما كان عليه العرب في جاهليتهم ولم يشرع تدريجياً إذ لا يمكن فيه التدريج، كان أمراً عظيماً، فبدأ الله فيه بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقول المنافقون: انظروا كيف ألزم نساء الناس البيوت والحجاب وترك نساءه وبناته غاديات رائحات ينعمن بالحياة، فلما فرضه على نساء رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يبق مجال لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ترغب بنفسها عن نساء الرسول فترى السفور لها ولا تراه لأزواجه صلوات الله وسلامه عليه وبناته، وهذا يعرف عند علماء الأصول بـ (القياس الجلي) و(من باب أولى)[ينظر فصل الخطاب في المرأة والحجاب ص 35: 38].
    هذا ما تيسر ذكره من كلام أهل العلم، وكلام غيرهم لا يخالفه .. كما أن ما فعله صحابيات المهاجرين والأنصار حين فهمن عموم الأمر – فيما لم يكن صريحاً بحقهن – وحملنه على الوجوب، وأنه شامل لجميع النساء وعامتهن، ليس عنا ببعيد.
    = الشبهة الأولى: وإنما أُتي المخالفون في التدليل بهذا النص على قصر الأمر على زوجات النبي صلى الله عليه سلم باعتبار أنهن المذكورات في السياق، من قبل الجهل بما اختصصن به على الحقيقة وهو حجاب الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر وأمثالها، بحيث لا يَرى الرجال شيئاً من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة .. والصواب في ذلك أن الحجاب الذي جعله من جعله خاصاً بهن هو قدر زائد على الحجاب المعروف الذي نحن بصدده، قال القاضي عياض: \"فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا في غيرها – يعني على نحو ما يجوز لغيرهن – ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن – وإن كن مستترات – إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز .. وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حُجبن وسترن أشخاصهن – يعني لكون ذلك مما اختصصن به – كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر [والحديث في الموطأ] ولما توفيت زينب جعلوا لها قبة فوق نعشها تسر شخصها\"أ.هـ [ينظر صحيح مسلم مع شرحه للنووي2/ 215 وفتح الباري 8/ 530]، فالذي يراه القاضي مختصاً بهن هو عدم جواز كشف الوجه والكفين لهن مهما اشتدت الحاجة إلى ذلك،، وعدم إبراز شخوصهن وإن كن مستترات .. وأصرح من كلام القاضي عياض ما ذكره المفسرون من نحو الإمام البغوي، يقول: \"فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة [ينظر تفسير البغوي على هامش الخازن5/ 224]، ولعل ما يؤيد هذا ويؤكده ما جاء في سبب نزول قوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً .. الأحزاب/ 53)، فقد نزلت بعد قوله: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب)، وعلى إثر قول بعض أقارب زوجات النبي صلوات الله عليه: (نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟!، لئن مات محمد لأتزوجن فلانة) .. كما يدل عليه ما رواه محمد بن سيرين، يقول\" نبئت أنه قيل لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ما لم لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك؟ قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي حتى أموت فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها، وهذا حكم عام قد استثني منه الخروج للحاجة، قال صلى الله عليه وسلم: (قد أُذِن لكن في الخروج لحاجتكن) رواه البخاري\"[ينظر المرأة المسلمة للشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني ص197، 198]، أقول: ويدخل في ذلك ما شهدت به الأخبار من زيارتهن الوالدين وعيادتهن المرضى وتعزيتهن الأقارب وخروجهن مع النبي في الغزوات، وما كان منهن في الحج الوارد ذكره هنا وفي حديث عائشة السابق ذكره بدليلنا الثاني.
    وكذا ما كان من عائشة رضوان الله عليها إبان خروجها لمصلحة المسلمين وحقن دمائهم على نحو ما جرى في واقعة الجمل لما سمعت بقتل عثمان وانحاز قتلته إلى علي رضي الله عنهما، فقد حزنت – والقصة هنا يحكيها الآلوسي 22/ 14 مجلد12 رداً على طعن الشيعة على عائشة بسبب خروجها وهي المأمورة باحتجاب الأشخاص – حزناً شديداً واستشعرت اختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم، وبينما هي كذلك جاءها طلحة والزبير ونعمان بن بشير وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة هاربين من المدينة، خائفين من قتلة عثمان الذين أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح وأعلنوا بسب عثمان، فضاقت قلوب الصحابة الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع، فصح عندهم عزمهم على التحاقهم بعثمان بالمدينة، وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم عنه إذا هموا بذلك، فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر، فقالت: أرى الصلاح ألا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير عليٍّ رضي الله عنه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم، فأقيموا ببلد تأمنون فيه وانتظروا انتظام أمور أمير المؤم نين عليٍّ وقوة شوكته واسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الانتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم، فارتضوا ذلك واستحسنوه واختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعاً لجنود المسلمين، وألحوا على أمهم رضي الله عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة، وأرادوا بذلك زيادة احترامهم وقوة أمنيتهم ل ما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها كانت أحب أزواجه إليه وأكثرهم قبولاً عنده وبنت الخليفة الأول رضي الله عنه، فسارت معهم بقصد الإصلاح وانتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة، وكان معها ابن أختها عبد الله بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة، وأسماء زوج الزبير، بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية، وكانت في هودج من حديد.
    فبلغ أولئك السفلة خبرَ توجه عليٍّ – الذي سبق إلى البصرة – وحملوه على غير وجهه، وأنه خرج إليهم ليعاقبهم، وأشار عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى عليٌّ رضي الله عنه ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وخرج ومعه من ذكرنا من الصحب الكرام، فلما وصلوا قريباً من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم، فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال: يا أماه ما أشخصك وأقدمك إلى هذه البلدة؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس ؟؟ وأشرف القوم من السفلة يوقعون بين من كان مع عائشة وبين جيش عليٍّ، فأظهروا المصالحة مع عليٍّ وأغاروا على مع من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير عليٍّ فيهجموا على عسكره ويظنوا بهم أنهم الذين غدروا فينشب القتال، فلما حدث ذلك وعجب منه الأمير عليٍّ ورأى الوطيس قد حمي والرجال قد سبحت بالدماء لم يسعه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب.
    ويدل على غلبة القتلة وقوة شوكتهم ما في نهج البلاغة من قول بعض أصحاب عليٍّ له: لو عاقبت قوماً أجلبوا على عثمان؟ فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم، وها هم قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا .. كما يدل على أن أم المؤمنين عائشة ما أرادت إلا الإصلاح، ندمها على ما جرى بين المسلمين غاية الندم، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها، بل أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال: كانت عائشة رضي لله تعالى عنها إذا قرأت (وقرن في بيوتكن) بكت حتى يبتل خمارها، وما ذلك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهكذا كان عليٌّ، فقد صح أنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين، وقتل من قتل من الجمعين، طاف في مكان القتلى وكان يضرب فخذيه ويقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً .. ويستفاد من جملة ذلك عدم صحة ما ادعاه الشيعة من أن بكاءها عند قراءة الآية لم يكن لعلمها أنه أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهموا وجعلوا منه أداة للطعن في أشرف نساء العالمين، بل وادعاه بعضهم بقوله:
    حفظت أربعين حديثاً * ومن الذكر آية تنساها
    كبرت كلمة تخرج من أفواههم ما يقولون إلا كذباً.
    ونخلص من خلال ما سبق إلى اختصاص أمهات المؤمنين بحجاب الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر بحيث لا يرى الرجال شيئاً من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن، هو القاعدة لتي لا تستثنى إلا لضرورة شرعية وبقدرها .. وأن اختصاصهن بهذا القدر الزائد على الحجاب لا ينافي وجوب النقاب – فيما يمثل درجة تالية لسابقه – بحق عامة النساء المؤمنات.
    = الشبهة الثانية: وأما ما ذيلت به الآية 33 من سورة الأحزاب وهو قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، واتخاذها ذريعة للقول بأن النقاب خاص بزوجاته صلى الله عليه وسلم .. فالقائل به إن ظن أن المراد قصر أحكامه على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه نظر .. وما سبق من عموم أحكامها على ألسنة علماء الأمة – وقد مرت بنا نصوص كلامهم منذ قليل – خير شاهد على ذلك .. وفي تقرير ذلك يقول عكرمة فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير: \"إن كان المراد أنهن كن السبب في نزول الآية دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن – على ما هو المتعارف عليه – ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من هذا\"[تفسير ابن كثير3/ 500]، وأن أهليته صلى الله عليه وسلم تشمل بنيه وأحفاده في حياته، وإماءه وخدمه ممن يساكنونه، وعصبته وبني عمومته، وقرابته من مؤمني بني هاشم ذكورهم وإناثهم وبني المطلب، ورهطه وهم قومه وقبيلته الأدنون.. بل إنها لتتسع لتشمل من لم يكن بينه وبينه قرابة شبهية ولا نسبية، توسعاً وتشبيهاً، كسلمان الفارسي رضي الله عنه حيث قال عليه السلام: (سلمان منا أهل البيت)، وكمن جاء ذكره في رواية صحيحة ويسمى واثلة بن الأصقع فقد قال: (وأنا من أهلك يا رسول الله)؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (وأنت من أهلي)، فكان واثلة يقول: (إنها لمن أرجى ما أرجو)، وقد ذكر من توسعوا في إدراج من لم يكن بين النبي وبينه قرابة نسب أو نص يشملهم في نحو من جاء ذكرهما بالحديثين الماضيين أنها لتتسع لتشمل كل من آمن بدعوته صلى الله عليه وسلم، كل ذلك وردت به آثار وآراء تقول به .. فإذا كانت أهليته عليه السلام تتسع لتشمل كل من ذكرنا فالذي أولى بالاتساع في ذلك – وهذا ما يهمنا – هو ما يخص جانب الأحكام وهو ما خلاف عليه، إذ العبرة فيها – كما قرر علماء الأصول وسقناه لهم مراراً وتكراراً – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعليه فقد بطل ما ادعاه القائلون بأن الأمر في الآية التي نحن بصددها وكذا كل ما جاء على شاكلتها مقصور على نسائه صلى الله عليه وسلم.

    12-
    ومن الأدلة على وجوب النقاب بطريق غير المباشرة: قول الله تعالى في حق نساء النبي بالأساس، فيما يعرف بآية الحجاب: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن .. الأحزاب/ 53)، ودلالته في فرضية الحجاب لنساء المؤمنين جاء على غرا ما جاء بالدليل الفائت بطريق الفحوى وآية مجيئه هذه المرة على هذا النمط هي اشتراكهن جميعاً في علة الحكم وهي قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) .. وهذا يُطلِق عليه علماء الأصول (دلالة النص) ويعنون به: \"دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنصوص عليه للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها بمجرد فهم اللغة من غير احتياج إلى نظر واجتهاد\"، ولا يبعد أن تكون كيفية دلالة اللفظ هنا على معناه – أعني دلالة علة الحكم على وجوب النقاب في حق نساء المؤمنين – من نوع ما أسموه بـ (عبارة النص)، وقد عنوا به: \"دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها، المقصود من سياقها أصالة أو تبعاً\"[أصول الفقه د/ عبد المجيد مطلوب ص 286، 282]، وإنما قلنا أنه لا يبعد ذلك لكون نساء المؤمنين داخلات مع زوجاته عليه السلام في علة الحكم تبعاً، لكون الأخيرات خير َ من يَقتدِى بهن نساءُ أهل الإيمان، ومن ثم أخذن نفس الحكم لاتحاد العلة المفادة من النص، وهذا مما يبطل معه دعوى الاختصاص .. ومحصلته أن علة ضرب النقاب الماثلة في قوله: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)، لا تقل شأناً في عمومها والتعويل عليها من سابقتها – أعني: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) التي أشركت نساء المؤمنين مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم – وعليه فقد لزم اعتبارها وعدم التغافل عنها بحال، لكونها – في زماننا كما في سائر الأزمنة وفي حق نساء المؤمنين كما في حق زوجاته عليه السلام – غاية في الأهمية، ويا لها من علة جامعة مانعة!!، فكم جمعت في طياتها من سد الذرائع وغلق أبواب الفتنة ما لا يعلم مداه إلا الله؟
    ذلك أن المرأة إذا خرجت سافرة عن صفحة وجهها، بادية الخدين والعينين، عارية المرسن والمبسم، لا غرو أن يلتقي نظرها بنظر أحد من الرجال، ومعروف أن التقاء النظرين يحدث انجذاباً في القلبين قلما يصبر أحدهما بسببه عن الآخر، فيحدث أن يقع كل منهما فريسة لصاحبة بسهولة ويسر تامين، ولا أحد ينكر أن مجتمعاتنا في هذا الزمان وجامعاتنا ومعاهدنا بل وحتى مدارسنا الإعدادية والثانوي ولا أبالغ إن قلت حتى الابتدائية يعاني من كل هذا وبسبب الاختلاط الأمرين .. ومن هنا ورد \"أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم\"[تفسير ابن كثير 5/ 87]، وقال الشاعر:

    كل الحوادث مبداها من النظر * ومعظم النار من مستصغر الشرر

    وقال آخر:

    يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له * وهن أضعف خلق الله إنسانا

    وليست هذه المفاسد الناتجة عن السفور متخيلة أو مفترضة، بل قد ابتلي بها المجتمع البشري في العالم كله، وثاب إلى رشده منها كثير ممن ذاق منها الأمرين، وهذه صحفية أمريكية تقول معترفة: \"إن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة صالحة ونافعة، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، امنعوا الاختلاط قيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملأون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا قد جعلت منهم عصابات للمخدرات والرقيق\"[فقه السنة 2/ 263 باختصار].
    على أن هذه الآية وما تضمنته من علة قد أخذ بهما جل علماء الأمة وجعلوا منهما دليلاً قوياً معتبراً على فرضية النقاب بحق نساء المؤمنين، يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في معنى الآية: \"وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً، فسألوهن من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن فإن ذلك (أطهر لقلوبكم وقلوبهن) من عوارض العين فيها، التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من ألا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيلاً\"[جامع البيان22، 39 بتصرف] .. وقال القاضي ابن العربي في (أحكام القرآن)2/ 18 في تفسيره الآية محل الاستشهاد: \"وهذا يدل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب: في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة أو داء يكون ببدنها\" .. ويقول العلامة الجصاص: \"هذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته\"[أحكام القرآ ن3/ 369، 370] .. ويقول الإمام القرطبي: \"في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض لهن أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة .. فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعيَّن عندها\"[الجامع لأحكام القرآن 14/ 227].
    ويقول صاحب (أضواء البيان): \"إن تعليله تعالى لهذا الحكم – الذي هو إيجاب الحجاب – بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن)، قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين أن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعم معلولها .. وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم وإن كان أصل اللفظ خاصاً بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) هو علة قوله: (فسألوهن من وراء حجاب) هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وهو: (أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً عند العارفين) .. وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب – بدلالة القرآن – على جميع النساء\" ، قال: \"ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام، هو ما تقرر في الأصول من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة لاستوائهم في أحكام التكليف، وبهذه القاعدة الأصولية تعلم أن حكم الحجاب النقاب عام وإن كان لفظها خاصاً بأزواجه صلى الله عليه وسلم لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة \"[(أضواء البيان) 6/ 584 وما بعدها بتصرف واختصار].
    ويقول الشيخ حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية الأسبق في تفسيره للآية: \"وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه\"[صفوة البيان لمعاني القرآن2/ 190] .. ويقول بعض أهل العلم: إن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامة من جهة الأحكام، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأكثر آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها بلا خلاف بين العلماء، فإذا حصرنا أحكامها في دائرة أسبابها فما هو حظنا منها إذن؟ وبذلك نكون قد عطلنا آيات الله وأبطلنا أحكامها جملة وتفصيلاً، وهل أنزل القرآن ليطبق في عصر دون عصر وفي زمن دون أزمان؟ .. يضاف لما سبق من أن ادعاء خصوصية الآية بحق نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهض حجة، أن الاستثناء في آية (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن .. الأحزاب/ 55) عام، وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع، وهو غير مسلم لما علم تعميمه، إذ لا يساغ أن يقال لامرأة أباح الله لها أن تظهر على أبيها وابنها وأخيها: إن الله لم يوجب عليك التحجب عن غيرهم؟! [ينظر فقه النظر في الإسلام أ: محمد أديب كلكل ص 40: 43] .. ويؤكد على أن الاستثناء في آية الأحزاب عام، مجيء نظيره في حق سائر المؤمنين، وذلك قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن .. الآية 31 من سورة النور).
    ويقول الشيخ أبو بكر الجزائري: \"هذه الآية – وإذا سألتموهن .. الآية – تعرف بآية الحجاب إذ هي أول آية نزلت في شأنه [وقد ذُكر إنها نزلت في السنة الخامسة حين بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بن جحش كما في ترجمتها في الإصابة، وقيل: نزلت في السنة الثالثة]، وعلى إثرها حجب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وحجب المؤمنون نساءهم، وهي نص في فرض الحجاب، إذ قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب) قطعي الدلالة في ذلك، ومن عجيب القول أن يقال: إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل، لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبداً، وفوق ذلك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم جعلهن الله تعالى أمهات المؤمنين، إذ قال الله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم)، فنكاحهن محرم على التأبيد كنكاح الأمهات\"، يريد: أنه إذا كان أمر النقاب في حقهن – مع هذا التحريم – على الوجوب، فحمله على الوجوب بحق غيرهن ممن ليسوا كذلك من باب أولى، \"من هنا كان ال حكم عاماً يشمل كل مؤمنة إلى يوم القيامة، وكان من باب قياس الأولى، فتحريم الله تعالى التأفف للوالدين يدل على تحريم ضربهما من باب أولى، وهذا الذي دلت عليه نصوص الشريعة وعمل به المسلمون\"[فصل الخطاب في المرأة والحجاب ص34، 35].
    ويمكننا من خلال ما سبق من أدلة الفحوى تلخيص أوجه الاستدلال على عموم حكم النقاب ليشمل سائر نساء المؤمنين فلا يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، على النحو التالي:
    الوجه الأول: ما تقرر في أصول الشريعة من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة حتى يرد دليل على التخصيص، وليس ثمة كما هو متضح فيما تم سوقه من أدلة.
    الوجه الثاني: أن الأمر في آيات الحجاب في أدلة الفحوى، قد خوطب بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليكن قدوة لسائر نساء المؤمنين، على نحو ما كان هو عليه السلام قدوة لغيره، حتى لا يتذرع متذرع فيقول كان أولى بالنبي أن يطبق ما جاءه من ربه، وما يكون له أن يأمر عامة النساء ويدع نساءه.
    الوجه الثالث: أن ما جاء في الآية من علة للحجاب في نحو قوله: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبكن)، عامة، إذ لا يعقل أن يقول أحد من المسلمين: إن غير أزواج النبي لا حاجة لهن إلى تزكية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة، وعموم علة الحجاب وحكمته دليل على عموم حكم الحجاب لجميع نساء المسلمين.
    الوجه الرابع: دليل الأولوية، ويكمن في أن أمهات المؤمنين – وهن المعروفات بأنهن أطهر نساء العالمين وأعظمهن قدراً في قلوب المؤمنين – إذا خوطبن وأمرن بالحجاب فغيرهن أحق بالخطاب من باب أولى.
    الوجه الخامس: أن آية إدناء الجلباب التي خوطب فيها عامة نساء المؤمنين مع نسائه عليه السلام، تتمة وتفسير لآية الحجاب، وتلك عامة لنساء المؤمنين نصاً، فلا مناص من أن تكون آية الحجاب كذلك.
    الوجه السادس: أن نساء المؤمنين في عصر النبوة التزمن الحجاب على نحو ما التزم نساء النبي وبناته، فلزم أن يستمر الأمر على ذلك لكل من جئن بعدهن إلى يوم القيامة، إذ الكل مخاطب بمفردات الشريعة.
    الوجه السابع: أن أقوال أهل العلم الذين هم أدرى بالوقوف على مرامي الآي وأعرف بمرادات الله وقد سبق ذكر ما تيسر منها، هي في حد ذاتها حجة يجب العلم والعمل بها وأخذها غي الاعتبار ولا يجوز طرحها بحال ولا التغافل عنها

    13، 14، 15:
    ومن أدلته قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن .. الآية 31 من سورة النور) .. وإنما يفاد وجوب النقاب في هذه الآية من ثلاثة مواضع:
    أولها: قوله: (ولا يبدين زينتهن ‘لا ما ظهر منها)، فقد صح عن ابن مسعود وغيره تفسير (الزينة): بالثياب الظاهرة من المرأة، كما صح عن ابن عباس تفسيرها به كذلك، وقد مر بنا قوله بعد ذكره لآية الإدناء: \"أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة\"، وقوله في كيفيته: \"تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه\"، وقوله كذلك: \"أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها\" .. أما ما أشيع عنه من أنه كان يرى الزينة الظاهرة المسموح بإبدائها للأجانب: \"الكحل والخاتم\" أو \"الكف والوجه\"، وهما روايتا سعيد بن جبير وقد أورد أولهما الطبري في تفسيره 118/ 119 وقال: \"(إسناده ضعيف جداً، بل هو منكر)\"، وقال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال4/ 106 إبان ترجمته لمسلم بن كيسان وهو من جاءت عنه هذه الرواية: \"قال الفلاس: (متروك الحديث)، وقال أحمد: (لا يكتب حديثه)، وقال يحيى: (ليس بثقة)، وقال البخاري: (يتكلمون عنه) .. وقال النسائي: (متروك الحديث)\".
    وأورد ثانيهما البيهقي في السنن الكبرى2/ 225، 7/ 852 و\"إسناده – كما قال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 113– مظلم ضعيف، لضعف روايين هما: أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الإمام الذهبي: (ضعفه غير واحد)، وقال ابن عدي: (رأيتهم مجمعين على ضعفه .. لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم)، وقال معين: (كان يكذب)، وقل ابو حتم: (ليس بالقوي)، وقال ابنه عبد الرحمن: (كتبن عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه)، وقال ابن عدي: (كان ابن عقدة لا يحدث عنه)\" .. وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب1/ 450: \"ضعيف\" .. وقال البهوتي في كشف القناع1/ 243: \"فيه ضعف\".
    وهب أنه صح عن ابن عباس – أو حتى عن بعض القائلين بقوله – ذلك من طرق أخرى، فقد كان ذلك منه في بداية الأمر وقبل نزول آية الحجاب، يقول العلامة المحقق ابن تيمية في مجموع الفتاوى22/ 110: \"السلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم\"، قال: \"وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين، زين ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير لزوج ودوي المحارم، وأما الباطنة: فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم، وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوجا النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها، فأرخى النبي السِّتر ومنع أنساً أن ينظر، ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر، قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمني ن وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها.
    فلما أمر الله أن لا يُسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب: هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء، وتسميه العامة: الإزار، هو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عبيدة وعيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكن النساء يتنقبن، وفي الصحيحين: (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين)، فإذا كن مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أ ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهر للأجانب .. فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين\".
    وهذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه، \"ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب) ولم يستثن شيئاً وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والعويل عليها وحمل ما سواها عليها، الحكم فيها عام في نساء النبي وغيرهن من نساء المؤمنين، وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك\"[السفور والحجاب لابن بازص19].
    ثانيها: قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن \"الخُمُر: التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب: التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان\"، وقال الشيخ عبد العزيز خلف: \"أراد – جل ذكره – أن يعلم المرأة كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها، فقال: (وليضربن بخمرهن) يعني: من الرأس وأعالي الوجه (على جيوبهن) يعني: الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى والصدر ما تحته وما بين ذلك من الرقبة وما حولها، لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية، فمن اسنثنى شيئاً من تلك المنطقة المحرمة بنص القرآن العزيز، فعليه بالدليل الذي يخصص هذا ويحدد المستثنى، وهذا غير ممكن قطعاً، لأنه يحتاج إلى نص صريح من القرآن أو السنة، وأنى لأولئك الذين قد استثنوا الوجه من تلك المنطقة بالأمور الظنية أن يأتوا بالدليل القطعي؟ ويشهد لما قلناه من تحريم خروج الزينة الأصلية والمنقولة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية وفعل أمهات المؤمنين وفعل نساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية وآية الأحزاب، من الس تر بالخمر والجلابيب\"[نظرات في حجاب المرأة المسلمة ص 71]، وقال: \"قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) صريح في إدناء الخمار من الرأس إلى الصدر، لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلاً وشرعاً وعرفاً، ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة ولا بمفهومهما، واستثناء بعضهم له ونفيهم بأنه غير مقصود في عموم التخمير، مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي، ومغمور بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين اصطلح عليهما رجال الفقه في السنة، الأولى: (أن حجة الإثبات مقدمة على حجة النفي)، والثانية: (أنه إذا تعارض مبيح وحاظر، قدم الحاظر على المبيح)\"[السابق هامش ص15]، وقد مر بنا حديث عائشة الذي حكت فيه ما كان من نساء الصحابة حين سمعن (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، وكيف كان تنفيذهن للأمر وامتثالهن له عملياً بشق أُزُرَهن واختمارهن بها بما يعني تغطية وجوههن وجميع أبدانه دون ما استثناء، ولو كان الأمر على غير ذلك لما فعلنه.
    ثالثها: قوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن): ودلالتها \"على الحجاب الكامل – كما يقول الشيخ أبو بكر الجزائري في فصل الخطاب – أظهر وأقوى من الآيات السابقة، وذلك لأن إثارة الفتنة بسماع صوت الخلخال في الرجل إذا ضربت المرأة برجلها وهي تمشي، أقل بكثير من فتنة النظر إلى وجهها وسماع حديثها، فإذا حرَّم الله بهذه الآية على المرأة أن تضرب ارض برجها خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه، كان تحريم النظر إلى وجهها – وهو محط محاسنها – أولى وأشد حرمة\"أهـ.

    16-
    قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن .. النور/ 60\"، ووجه دلالة الآية على فرضية النقاب يكمن في قوله تعالى: (وأن يستعففن خير لهن) يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري 18/ 165 وما بعدها: \"هذا للكبيرة التي قعدت عن الولد، فلا يضرها أن تتجلبب فوق الخمار، وأما كل امرأة مسلمة حرة فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، كما قال تعالى في سورة الأحزاب: (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)\"، قال: \"وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل\"، ثم ذكر بسنده عن مجاهد قوله: (يلبسن الجلاليب)، وعن الشعبي قوله: (ترك ذلك) يعني: وضع الثياب .. ونقل الإمام البغوي في (معالم التنزيل) عن ربيعة الرأي قوله في تفسير (القواعد): \"هن العجز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل شهوة، فلا تدخل في هذه الآية\" .. فانظر – رحمك الله – حين يخبر القرآن عن أمثال هؤلاء اللواتي لا يرغب في الزواج منهن أحد أوب لغن سن اليأس وهو يخبرهن بأن لو استعففن عن إظهار وجوههن كان ذلك خيراً لهن وأفضل، فهل بقي لمن يترخص في أمر النقاب في نسائنا وبناتنا بقية من حجة يترخصن بها عن تنفيذ ما فرض الله على إمائه المؤمنات أو يكن سبباً في فتنة الرجال فيسفرن ويرفعن قناع الحياء عن وجوههن؟؟!! نسأل الله الستر والسلامة والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

    = وبعد:
    فهذا بعض ما تيسر ذكره من أقوال أهل العلم وسمح به الوقت، وهو قليل من كثير وغيض من فيض، والحق أن نصوصهم في فرضية ستر المرأة لوجهها وكفيها أكثر من أن تحصى، لكن حسبنا أن ننهي استشهادنا بكلامهم بقول الشنقيطي: إننا \"لو فرضنا – جدلاً مع كل ما ذكرنا – أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين – كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم – من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة، فهو غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مريض القلب\"[أضواء البيان6/ 592].
    ولا ندرى – ونحن نسرد هذه الأدلة وهي قليلة من كثير – ما الذي يريده على وجه التحديد – دعاة السفور والتبرج والعري والاختلاط؟ أيريدون أن يمنعوا نساء المؤمنين عن ممارسة حريتهن الشخصية ويمنعوهن من الاقتداء بالصحابيات حتى يُشبعوا من الحرام نظراتهم الخائنة ورغباتهم ونزواتهم وشهواتهم الجامحة ؟ أم هي دعوة منهم للإباحية كي يتبرجن ويفعلن فعال المشركات ويتحللن من إسلامهن ودينهن فتشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ .. إن من تسول له نفسه فعل ذلك أو شيء منه هو – بلا شك – متمرد على شرع الله وغير مسلم لحكم رسوله ومصطفاه وهو – فضلا عن هذا وذاك – مخادع لنفسه و خائن لربه و غاشّ لدينه و لمجتمعه.
    إن هذه الأصوات النشاز الخافتة، التي يتردد صداها بين الحين والآخر لتثني المرأة عن نقابها، إما أنها ملبس عليها لكونها لست لها حظ من الرسوخ في العلم .. وإما أن يراد لها وبها أن تبيع دينها بدنيا غيرها لتحقيق أهداف دنيوية أو لاعتلاء مناصب زائفة تشتري من خلالها بآيات الله ثمناً قليلاً .. وإما أنها تريد للمرأة المسلمة أن تنخلع من حيائها وخلقها وأوامر ربها، وأن تخرج عارضة زينتها ومفاتنها، تريدها سافرة عارية، أو قل – إن شئت – عارية عارية، متذرعة في ذلك بأن هذا ما تتطلبه المدنية والحضارة في زماننا، متكئة فيما جنحت إليه إلى حجج هي أوهى من بيت العنكبوت، وهذه –لا شك – تريد فتنة المجتمع المسلم وصرف واستهلاك طاقات شبابها فيما لا يعود عليها بالنفع لتحقق هي أهدافاً خبيثة يسعى له أعداء الأمة بدأب وجلد وجد ونشاط.
    وأيا ما كان فلابد لأصحاب لسائر هذه الأصوات النشاز أن يعلموا أن حجاب المرأة المسلمة عفة وطهارة وفضيلة وكرامة، وهو من قبل ومن بعد فريضة فرضها الله عليها حماية لها ولمجتمعها تماما، كما فرض الصيام والصلاة، والحج والزكاة.
    فلتدرئي – أختاه – هذه الفتنة ، ولتدعين أخوَاتِك إلي ما هداك الله إليه من ترك المنكرات ومن ستر العورات، فإن من دعا إلى هدي فله من الأجر مثل أجره لا ينقص من أجره شيئا، ولتتذكري أخيراً – أختاه – وأنت تواجهين مصاعب الحياة وحملات التشويه والتشهير المتعمدة وغير المبررة، أن تضعي في حسبانك قول الله تعالى: \"ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .. الأحزاب/ 36) .. (فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هنا، ولا رأي ولا قول) [مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 3/97].
    والله نسأل أن يثبت على الإيمان قلوبنا، وأن يجعلنا من العاملين بدينه ولدينه فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

    أ.هـ عشية عرفة من العام الهجري1430

    ------------------------
    الهوامش المرقمة
    (1) الذي رواه البخاري [1838] والنسائي [5/ 135] والترمذي [833] وأبو داود [1825، 1826] وأحمد [2/ 119] ومالك [في الموطأ 1/ 324].
    (2) الذي رواه أحمد [6/ 30] وأبو داود [1833] وابن ماجة [2935] والبيهقي [5/ 48].
    (3) عون المعبود5/ 102: 105 .. وما جرى من الفضل في قصة المرأة الخثعمية وأنه طفق ينظر إليها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم وأخلف بيده وأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها .. الحديث، جوابه: أن هذه واقعة عين أو حال لا عموم لها ولا تصلح لمقاومة النصوص الواردة في وجوبه، ثم إن المرأة مُحرِمة، فكشفها لوجهها إذن كان لإحرامها لا لسفورها، ولم يقل أحد من أهل العلم أن هذه المرأة نظر إليها أحد ممن صحب النبي في الحج – وما أكثرهم – غير الفضل، فإن كان ذلك عن غير قصد، فذلك معفو عنه، أما من قِبَله فلكونه واقع تحت نظر الفجاءة، وأما من قِبَلها فلأن لها في نزع نقابها مندوحة، ولربما أمنا على نفسيهما الفتنة أو ظنا بنفسيهما ذلك، فلم ينظرا نظراً يُنكر، وخشي النبي أن يئول أمره إلى ذلك ففعل ما فعل .. وإن كان بقصد فقد منعه صلى الله عليه وسلم ولم يقره عليه بل أنكره بأشد ما يكون، قال النووي في شرحه لمسلم9/ 98عند ذكره لفوائد الحديث: \"ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية، ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه\"، وقال العلامة ابن القيم في روضة المحبين ص 103: \"وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزاً لأقره ع ليه\"، والاستدلال بالحديث على جواز النظر هو – كما يقول ابن فوران في (الإعلام) ص69 إبان رده على الشيخ القرضاوي: – من غرائب الاستدلال، إذ كيف يمنع النبي الفضل ويصرف وجهه عن شيء مباح، ولاسيما أن للخثعمية فيما فعلته مندوحة أن كانت محْرمة، وقد رد ابن حجر من قبل قول ابن بطال لنفس السبب قائلا: \"وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة.
    (4) الموطأ1/ 328 بسند صحيح والحاكم1/ 454 وصححه ووافقه الذهبي..
    (5) إحياء السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين7/ 17 لمحمد الحسيني الزبيدي الشهير بالمرتضى.
    (6) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ص 185، ولعل في نص الخطيب هنا دليل قوي على عدم صحة ما ذهب إليه الشيخ الألباني رحمه الله مستشهداً ببعض عبارات الخطيب التي ذكرها بحق عورة المرأة في الصلاة فأطلق الألباني حكمها على سوى الصلاة .. وينظر تفاصيل الرد على الألباني في (أدلة الحجاب) لإسماعيل المقدم ص 242 وما بعدها.
    (7) ينظر روضة الطالبين7/ 21 ومغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج3/ 128 ونهاية المحتاج2/ 8، 6/ 187 والسراج الوهاج ص 52 وإعانة الطالبين1/ 113 وفتح الوهاب1/ 48 وفقه النظر في الإسلام ص34- 36.
    (8) لكن ما عقب به ابن عبد البر قائلاً: \"وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة، وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بلا ريبة ولا مكروه\" مقيداً حرمة النظر بنظر الشهوة[التمهيد6/ 365 وبنحوه فعل المرداوي والزركشي والقاضي عياض]، وما فهمه ابن عبد البر نفسه – فيما يبعث على التناقض والدوران بين الإفراط والتفريط – من عبارة أبي بكر الحارث بن هشام من وجوب تغطية كل بدنها حتى في الصلاة بما في ذلك الوجه والكفان .. وكذا ما فعله المرداوي حين ادعى بأن \"الصحيح في المذهب أن الوجه – يعني خارج الصلاة – ليس بعورة\"، قائلاً: \"وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعاً، وعنه: الوجه عورة أيضاً، قال الزركشي: (أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه ..)\"[الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل لأبي الحسن المرداوي الحنبلي 1/ 452] .. يرد عليه فوات التوسط والاعتدال اللذين درجا عليه إمام المذهب، وذلك بحمل عبارة الإمام أحمد التي ساقها له ابن مفلح – ونصها: \"فإذا خرجت فلا تبين شيئاً\" – على ظاهرها، وعلى وجها الصحيح أعني: في غير الصلاة، وعلى ما أفهمته عبارة ابن قدامة والعلامة البهوتي والرحيباني وعبد القادر الشيباني، وعلى ما أفاده – فيما سلف وفيما سيلي – تحقيق العلامة تقي الدين ابن تيمية، بل وعلى ما أفادته عبارة ابن عبد البر فيما ساقه من إجماع، وساقه المرداوي نفسه عن بعض أهل التحقيق.
    (9) وأغلب ظني أن مورد هذا الحديث كان قبل نزول آية الحجاب وفرضيته على الهيئة التي استقر عليها مؤخراً في كيفية الإدناء إذ كان إدناؤه قبل ذلك من الخلف أو بطريق اللف، ومن المعروف أن صلاة العيد شرعت في السنة الثانية، يعني قبل آية الحجاب المؤسسة لحكم جديد متعلق بستر وجه المرأة وكفيها، بما يقارب الثلاث سنوات .. وسؤال أم عطية على ما يبدو إنما كان عن أمر جديد لم تعهده الصحابيات بل ولا الصحابة من قبل، وهو اجتماع المسلمين – رجالاً ونساء – في البلد الواحد تكثيراً لسواد المسلمين، وإدخالاً للسرور على جميعهم وتجديداً لعهود الإخاء وتوثيقاً لعرى المحبة في الله وقصداً إلى الدعاء بالنصر على الأعداء وتذكيراً من خلال خطبته صلوات الله عليه للرجال والنساء بما يجب وحث الأخيرات بالذات على التصدق .. فإذا أضفنا لذلك مدى حرص الصحابيات على امتثال الأمر وحرصهن على ألا يفوتهن مشاهد الخير ودعوة المسلمين .. تأكد صحة ما ذهبنا إليه.
    وهذا يُردُّ به على من لا يرى في هذا الحديث وما جاء على شاكلته ما يوجب القول بوجوب النقاب صراحة، أو ما يفيد انكشاف وجوه أو أكف أو أيدي بعض النسوة في نفس المناسبة، من نحو حديث جابر وفيه إخباره عن سفعاء الخدين – أي فيهما تغير وسواد – وسؤالها عن سبب ما حدث به صلى الله عليه وسلم إبان وعظهن عقب صلاة العيد قائلاً: (تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم)[والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي والبيهقي وأحمد في مسنده، وبنحوه روى أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة من طريق ابن عمر وفيه أنها كانت جزلة، أي: تامة الخلق، كما رواه ابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة بألفاظ مختلفة] .. وحديث ابن عباس وقد قيل له أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت [العَلَم: هو الشيء الشاخص يعرف به، والحديث أورده البخاري في كتاب العيدين وغيره وأبو داود1/ 174 والبيهقي في سننه3/ 307 والنسائي1/ 227 وأحمد1/ 331]، فصلى ثم خطب ثم أتى النساء ومعه بلال، فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال– أي يلقين الذي يهوين به – ثم انطلق هو وبلال إلى بيته أ.هـ .. حيث ذكر الأيدي وإن لم يصرح بكونها مكشوفة أو أنهن حسرنها عن أيديهن.
    يؤيد ما ذهبنا إليه ويؤكده أن الإدناء – الذي نزلت آيته بعد، فغيرت كما رأينا من أحوال جميع الصحابيات، والذي الأصل فيه أن يتعدى بـ (إلى)، وإنما تعدى في الآية بـ (على) ليتضمن معنى الإرخاء أو السدل من فوق بطريقة معينة دل عليه فعل عبيدة السلماني وكذا فعل جميع نساء الصحابة من المهاجرات والأنصاريات – هو شيء زائد على التجلبب، أريد به الإشارة إلى أن المطلوب تسترٌ يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشت النساء فيه لحاجتهن.
    (10) ويقاس على ما سبق ما كان منه صلى الله عليه وسلم وقد جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها صلى الله عليه وسلم، فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد منها شيئاً جلست، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لم بها حاجة .. إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (قد زوجتكما بما معك من القرآن)[الحديث رواه البخاري9/ 34 ومسلم4/ 143 والنسائي2/ 86 والبيهقي7/ 84] .. وحديث سبعية بنت الحارث الأسلمية، وفيه: فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشراً من وفاة زوجها، وكان أبو السنابل بن بكعك قد خطبها فأبت أن تنكحه، فلقيها أبو السنابل حيت تعلت – أي سلمت وطهرت من نفاسها – وقد تجملت، فقال لها أربعي على نفسك لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشراً من وفاة زوجك!، قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما قال أبو السنابل، فقال: قد حللت حين وضعت)[الحديث وبنحوه أخرجه أحمد6/ 432 والبخاري9/ 414 ومسلم1485 والترمذي 1193 والنسائي6/ 190] .. والجمهور على أن الرجل ينظر إلى الوجه والكفين لا غير، لأنه يستدل بالنظر إلى الوجه على الجمال أو الدم امة، وإلى الكفين على خصوبة البدن أو عدمها.
    (11) من رواية علي بن أبي طلحة وقد احتج بها البخاري في مواضع عديدة من كتاب التفسير حيث أوردها معلقة ووصلها ابن حجر في الفتح والتهذيب .. كما رواها عنه الطبري وابن أبي حاتم وابن مردويه والآلوسي22/ 128 من المجلد 12.
    (12) أحد كبار التابعين أسلم زمن الفتح باليمن وأخذ العلم عن علي وابن مسعود.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()