الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، وبعد:
فإنَّ من القضايا التي يسعى أهل الباطل لتهوينها والتقليل من خطرها هي: قضية اختلاط الرجال بالنساء، وقد كثر في هذه الأيام إيراد كثير من الشبه والتذرع بها، ومن الشُبَه التي يلوكونها ويكرِّرونها: وجود الاختلاط في الطواف! ويستدلون بذلك على جواز الاختلاط! مع أنهم أصلاً ليسوا من أهل الاستدلال،إنما هم أهل أهواء متطفلون على أحكام الدين متبعون للمتشابه من الأدلة، مؤولون للمحكم منها.
ولأن هذه الشبهة قد تنطلي على بعض المسلمين، أحببت أن أُبيّن تهافتها وعدم صحتها باختصار، من خلال نقطتين:
الأولى: بعدم التسليم، في جواز الاختلاط في الطواف، فإن الطواف بالبيت لم يكن مختلطاً زمنَ النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في طواف النساء أن يكون من وراء الرجال؛ ويدل لذلك أدلة، منها:
1/ مارواه البخاري في صحيحه(1539) أن ابن جريج قال لعطاء: \"..كَيْفَ يُخَالطْنَ الرِّجَال ؟ قَال : لمْ يَكُنَّ يُخَالطْنَ ، كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً -أي:معتزلة- مِنَ الرِّجَال لا تُخَالطُهُمْ..\"الحديث.
2/ وروى الفاكهي (104)والبيهقي (9535)، أن مولاةً لعائشة-رضي الله عنها- دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ طُفْتُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَاسْتَلَمْتُ الرُّكْنَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : لاَ آجَرَكِ اللَّهُ لاَ آجَرَكِ اللَّهُ تُدَافِعِينَ الرِّجَالَ! أَلاَ كَبَّرْتِ وَمَرَرْتِ.
3/ وروى الفاكهي(457) عن إبراهيم النخعي قال:
نَهى عُمَر رضي الله عنه أَن يَطُوفَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاء ، قاَلَ: فَرأَى رَجُلاً مَعهُنَّ فَضَربه بِالدرَّة.
4/ وروى البخاري(452) ومسلم (1276) عَنْ أُمِّ سَلمَةَ رَضِي الله عَنْهَا -زَوْجِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ- قَالتْ: شَكَوْتُ إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَال: \"طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ..\"الحديث.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت852): (أمَرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ، ولا تقطع صفوفهم أيضاً، ولا يتأذون بدابتها) (فتح الباري 3/ 481 ).
5/ القياس على الصلاة، فكما أن المرأة تكون في الصلاة خلف الرجال فكذلك في الطواف،
قال أبواليد الباجي المالكي(ت435): (وأما المرأة فإن مِن سنَّتها أن تطوف وراء الرجال ; لأنها عبادة لها تعلق بالبيت ، فكان مِن سنَّة النِّساء أن يكنَّ وراء الرجال ، كالصلاة) (المنتقى شرح الموطأ 2 / 295).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء (فتوى رقم 6758): (فإنَّ النساء كنَّ يطفن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الرجال متسترات ، لا يداخلنهم ، ولا يختلطن بهم).
واستمر اعتزال النساء في الطواف حتى في القرن الثامن، وقد ذكر ابن بطوطة (ت779) في رحلته قال:
(وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق) إلى أن قال: (وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة).
ومن مراعاة أهل العلم للمنع من الاختلاط في الطواف قول ابن جماعة:
\" وَمِنْ أَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ ما يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْعَوَامّ في الطَّوَافِ، من مُزَاحَمَةِ الرِّجَالِ بِأَزْوَاجِهِمْ سَافِرَات عن وُجُوهِهِنَّ...\" إلى أن قال:
\" نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَ وَلِيَّ الْأَمْرِ إزَالَةَ الْمُنْكَرَاتِ آمِينَ\" (نقله ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى 1/201-202)
بل إن الفقهاء مراعاة لأصل المنع من الاختلاط، استحبوا للمرأة ما لم يستحبوا للرجل من نحو: طوافها بعيدة عن البيت، ورخصوا لها في تأخير طواف القدوم إلى الليل خشية الزحام وغير ذلك.
وماكان خلاف ماسبق -من منع الاختلاط في الطواف- فهو راجع أما إلى:
-الضرورة كما في المواسم.
- وإما إلى سوء تصرف الناس من الرجال والنساء.
أما الواقع الذي نراه من الاختلاط المزعج في المطاف والمسعى، فهو مخالف للشرع ، ولا يزال العلماء ينكرونه ، ويحاولون إصلاحه.
ثم إن الواقع ليس دليلا على الجواز؛ لأننا نأخذ ديننا من الوحيين لا من واقع الناس.
أما قياس الاختلاط في الدراسة ونحوها على واقع الاختلاط في الطواف، فهو قياس فاسد؛ لأنه قياس ماليس بجائز على ماليس بجائز!
ثانياً: وعلى فرض التسليم، بجواز الاختلاط في الطواف:
فكيف يقارن بين واقع الحرم والطواف الذي لايعدوا أن يكون لحظة عابرة، مع واقع الاختلاط في الدراسة الذي يمتد لساعات وأيام وفصول دراسية؟!
أم كيف يقارن بين واقع الطواف مع كثرة الناس وسعة المكان، مع واقع الاختلاط في الدراسة وقلة الطلاب وضيق المكان؟!
وكيف يقارن بين واقع النساء في الطواف مع حرصهن على الحجاب والاحتشام وعدم معرفتهن للرجال، بواقع الطالبات في مقاعد الدراسة وهن متزينات والرجال يعرفونهن!
أم كيف يقارن بين واقع النساء في الطواف وهن غالباً مايصطحبن محارمهن فيه، مع واقع النساء في الدراسة وهن منفردات!
ومن شروط القياس الصحيح: أن يكون الجامع أقوى من الفارق، فكيف يستقيم القياس هنا مع هذه الفروق الكثيرة.
ثم إن الناس حول الكعبة الأصل أن تكون قلوبهم خاشعة منكسرة منشغلون بالذكر والعبادة، وهذا يجعل الوضع أكثر أماناً، إذا أضيف إلى ذلك أيضاً وجود المحتسبين.
ومع ذلك فإنه تحدث قضايا أيضاً في المطاف، وهذا ماذكره الشيخ ابن عثيمين، وذكره غير واحد، بل وماشاهدته أنا في المطاف في نهار رمضان من التصاق أحد الرجال قصداً بامرأة! والأدهى من ذلك أنه كان لابساً لملابس الإحرام! وهذا يستدعي التفكير لإيجاد الحلول الهندسية ونحوها لمثل هذه المشاكل ولتسهيل وتنظيم طواف الرجال والنساء.
وهنا تنبيه وهو أن الإختلاط على قسمين:
-اختلاط غير مقصود عارض كما هو حاصل في المساجد والأسواق وغيرهما.
-ماختلاط مقصود كما يحصل في المقاعد الدراسية ومكاتب العمل وغيرهما، فهذا لا ينفك غالباً عن حصول النظر المحرم، أو اللمس، أو الخلوة، أو تعلق القلب، أو الخضوع بالقول.
وأخيراً: لنتأمل بما ورد في نصوص الشريعة:
- من نصوص تأمر بغض البصر.
- ونصوص تصف المرأة بأنها فتنة للرجال.
- ونصوص تجعل صفوف النساء آخر المسجد، وتخبر بأن شرها أولها، وخيرها آخرها.
- ونصوص تجعل للنساء باباً خاصاً في المسجد.
- ونصوص تنهى عن مخالطة النساء للرجال في الطرقات، وتأمرهن بالمشي في حافّات الطريق.
- ونصوص تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص للنساء يوماً للتعليم.
- ونصوص تبيّن أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جمع الرجال والنساء في مجلس علم، أو شورى.
- ونصوص تأمر المرأة بالقرار في البيت، وأن صلاتها فيه خير من صلاتها في المسجد.
- ونصوص تأمر المرأة بالحجاب، وعدم اللين في الكلام مع الرجال.
ثم لنـتسائل بعد ذلك كيف لكل هذه الأحكام أن تطبق مع الاختلاط؟!
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ** إياكَ إياكَ أن تبتل بالماء
وإذا كانت هذه النصوص مع كثرتها لا تفيد منع الاختلاط، فأي فائدة إذن من سَوْقها، وكثرتها ؟!.
وفي ختام هذا المقال أوجه ثلاث رسائل:
الأولى: إلى علمائنا: أن يقفوا سدَّاً منيعاً في وجه المفسدين، فإن الأشرار وإن حازوا الإعلام، فأنتم معكم حب الناس لكم وثقتهم بكم ونصرتهم لكم، ياعلماءنا: نريد منكم موقفاً مشرفاً في الدفاع عن أعراض المسلمات، كموقفم في الدفاع عن أمن البلاد، وبقوتكم في الحق يقوى الناس، وبضعفكم وتخاذلكم تقتدي الأمة.
ولنا في دول اجتاحها التغريب والإفساد وفُرض عليها -أمام مرأى ومسمع من العلماء- عبرة.
يا أيها الأخيــار قـد نـطق الـرو **يبضة الحقير ولا أركم تنطقون
أعجزتمُ حتى عن الشكوى فما** أدري بـأي مـصـيــبةٍ تـتـألمــون
الثانية: إلى الغيورين: أن يتكاتفوا ويتواصلوا مع العلماء والأمراء، وأن لا ييأسوا ويضعفوا، فلا يكن أعداء العفاف والطهر أجرأ وأجلد منكم ياحماة الفضلية وياحراس العفاف!
فكم من كلمة أحيت قلباً، وكم من مكاتبةٍ أوقفت منكرا، وكم من مداخلة أحيت شعبا، وكم من خطبة أزالت شبها.
فلا تحتقر نفسك واعمل لهذا الدين بما تستطيع، فإن هذا الدين منصور فاشرف بنصرته.
الثالثة: إلى أعداء الطهر والعفاف: أن يكفوا شرهم عن المسلمين، وأن لايتمادوا في الدعوة إلى سبيل الطاغوت، فماذا تريدون من نساء المسلمين؟ أتزعمون تحريرهن؟! فهل ستحررونهنَّ من عبودية الله إلى رق الشهوات! وصدق الله {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}
هربوا من الرق الذي خُلقوا له**فبُلوا برق النفس والشيطان
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يقطع دابر المفسدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.