بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن المعلم والمتعلم هما أساس المجتمع وبهما تقوم الحياة وتنتظم الأعمال
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اغد عالماً أو متعلماً ولا تغدون إمعة فيما بين ذلك"(ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، 2/984. وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين، 2/160).
وإذا نظرنا في سلوك الأطفال والمجانين ونشاطهم واجتهادهم اليومي علمنا أنه لا قيمة لنشاط الإنسان بدون علم وعقل، ذلك العلم الذي ينقل السلوك من نشاط مُهدَر إلى سلوك تبنى به لبنات الحياة.
إن القيم التربوية إذا ضعفت في مدخلات التعليم كانت مخرجاته مشوّهة، لأن ذلك سيضعف من فعالية الموقف التعليمي أو يحول اتجاهه إلى طريق أخرى تضر بالمجتمع ولا تحقق أهدافه.
أما أهمية القيم التربوية للمتعلم:
فإن القيم التربوية تفيد في انتقاء العلوم النافعة وتعلمها أو تعليمها على قدر ما يحتاج إليه منها، وتحث على الانتفاع بنافعها والاستفادة منه، فالعلم إما نافع كعلم التفسير، أو ضار كعلم السحر، ثم النافع أيضاً قد ينتفع به صاحبه وقد لا ينتفع، حسب ما يتصف به حامله من قيم تربوية،
ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"(مسلم، صحيح مسلم، 1/203، ح 223)
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما"(الترمذي، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، 5/578، ح3599. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 8/158؛ ح3151)
والانتفاع بالعلم لا يكون لمن فقد القيم التربوية،
ولذا يقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} [الجمعة:5]،
ويقول تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأعراف:175-176]
ويقول تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22-23].
ورُوي بسند ضعيف مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن من العلم جهلاً"(رواه أبو داود 2/721، ح5012، من طريق صخر بن عبد الله بن بريدة، وضعفه الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح، 3/41، ح4804).
فالعلم النظري وحده لا يكفي الإنسان لكي يكون لبنة صالحة في مجتمعه وإنما ينبغي عليه أيضاً أن يتربى على التصور الصحيح والعقيدة السليمة والأخلاق الحسنة والعمل الصالح، ويتعود على ذلك، ويجاهد نفسه، ليكون أداة لتطبيق العلم النافع الذي تعلمه بصدق وإخلاص، وهو ما تحققه القيم التربوية.
ومن فوائد القيم التربوية أنها تعطي المتعلم ملكة في تصحيح أهداف التعلم لديه وتوجيه نشاطه العلمي نحو الخير وما يحقق الأمن والرخاء في مجتمعه، ويقتصر على ما ينفعه وينفع مجتمعه ثم لا يضيع وقته بفضول العلم،
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم امسكوا وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا"(ابن رجب، فضل علم السلف على علم الخلف، 3/11)
وهو يبين أهمية وجود ملكة انتقائية في نفس المتعلم تمكنه من توجيه سلوكه التعليمي نحو ما ينفع والإعراض عما سوى ذلك.
وهذا ابن رجب يتحدث عن بعض العلوم بناء على القيم التربوية التي تحكم عليها فيقول: " فعلم تأثير النجوم باطل محرم. والعمل بمقتضاه كالتقرب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزاً عند الجمهور وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه. وربما أدى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم كما وقع ذلك كثيراً من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً وذلك يفضي إلى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار وهو باطل وقد أنكر الأمام أحمد الاستدلال بالجدي وقال إنما ورد ما بين المشرق والمغرب قبلة: يعني لم يرد اعتبار الجدي ونحوه من النجوم. وقد أنكر ابن مسعود على كعب قوله أن الفلك تدور وأنكر ذلك مالك وغيره وأنكر الإمام أحمد على المنجمين قولهم أن الزوال يختلف في البلدان. وقد يكون إنكارهم أو إنكار بعضهم لذلك لأن الرسل لم تتكلم في هذا وإن كان أهله يقطعون به وإن كان الاشتغال به ربما أدى إلى فساد عريض. وقد اعترض بعض من كان يعرف هذا على حديث النزول ثلث الليل الآخر وقال ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين. ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبح هذا الاعتراض. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو خلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه بل بادروا إلى عقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين"(ابن رجب، فضل علم السلف على علم الخلف).
وقد استخدم رحمه الله القيم التربوية في نقد علم النجوم، فمن ذلك:
1- الإيمان بالله وحده دون سواه، والذي ينافي الإيمان بما سوى الله مما يعتقد فيه الجهلة كالنجوم. وهذه قيمة عقدية.
2- المحافظة على الوقت من تعلم ما لا ينفع من علم النجوم، وهذه قيمة عملية.
3- التأدب مع السلف الأوائل وإحسان الظن بهم وذلك بعدم استخدام علم النجوم في تخطئة اتجاه صلاتهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" فالأمر واسع. وهذه قيمة خلقية.
4- التأمل والفحص للتفريق بين النافع والضار من علم النجوم، وهذه قيمة فكرية منهجية.
5- تصديق الوحي وإنكار ما يخالفه كمن استخدم علم النجوم في إنكار نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله. وهذه قيمة عقدية.
وأما أهمية القيم التربوية للمعلم:
فإنها تعينه على أداء رسالته في أحسن وجه، فقيمة الحكمة مثلاً تمنعه من تعليم التلاميذ ما هو أكبر من عقولهم، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
وإذا تُصُوِّر معلمٌ حاذقٌ فاقد للقيم التربوية التي تصون رسالته عن الانحراف، فلن يتشكل أمامنا إلا صورة شرير يجرح بحد العلم جسد المجتمع ثم يحشوه سماً! ويستخدم العلم لإضلال العقول ونشر الحقد والضغائن وتلبيس الحق بالباطل ويبخل في تعليم الخير لمحتاجيه، ومن المعلمين من يكون حسن النية محباً للخير إلا أنه يفتقد القيم التربوية التي توصل من العلم ما يناسب متلقيه بما يضمن وصول الرسالة بطريقة غير مشوهة، ومنهم من ضل في علمه وانحرف فأورث ضلالاً في تلاميذه.
وإذا كانت القيم التربوية تحث على الاستفادة والانتفاع من العلم، فإنها علامة أيضاً على هذا الانتفاع وثمرة من ثمراته، كما قال ابن رجب: " وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية اللَه كما قال عز وجل {إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ} قال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية اللَه علما وكفى بالاغترار باللَه جهلا وقال بعض السلف ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية... وكان الإمام أحمد رحمه اللَه يقول عن معروف معه أصل العلم خشية اللَه"(فضل علم السلف على علم الخلف).
والحمد لله رب العالمين