شىء غريب لاحظته، وبالتأكيد لاحظه الكثيرون غيرى، يحدث على أرض المحروسة منذ شهور.. فقد أحدثت عودة الدكتور البرادعى إلى مصر زخماً متصاعداً فى الحياة السياسية المصرية سواء فى صورة آمال عريضة بين غالبية جموع الشعب المصرى المتطلعين للتغيير والذين بلغت الروح الحلقوم لديهم خاصة شبابهم، أو فى صورة حالة الهلع والاضطراب التى سادت الدوائر العليا للنظام الحاكم خاصة تلك التى تخطط وتحلم بمشروع توريث بقايا دولة فاشلة خربها بنجاح ساحق النظام الجاثم على قلبها على مدى عقود طويلة..
ولكن واكب ذلك كله لهجة مهادنة لينة مع ما يُطلق عليه مجازاً «أحزاباً معارضة» سواء تلك التى لها خلفيات تاريخية لم يبق منها إلا الأسماء والشعارات، أو تلك الأحزاب المصنوعة لدى دوائر أمن الدولة، والتى لا يعرف أحد أسماءها ولا يريد أحد أيضاً أن يعرفها..
وتزداد الليونة والمهادنة كلما اتخذ «الحزب» موقفاً أكثر حدة وتجاهلاً تجاه ما ينادى به الدكتور البرادعى من مطالب، هى الحد الأدنى لما يحلم به أى شعب يتطلع إلى النهوض والتقدم. جاءت فرصة انتخابات رئيس جديد لحزب الوفد والتى تمت بطريقة طبيعية ليس فيها إلا ما هو مفروض أن يكون، وساعد على هدوئها وانتظامها قلة عدد أعضاء الجمعية العمومية للحزب بشكل لافت، حيث لم يبلغ العدد مثلاً نصف عدد الناخبين فى أحد الأندية الرياضية المتواضعة..
أقول إن البعض من سدنة النظام المستبد القائم وفلاسفته والقائمين على خدمته، قد وجدوا فى هذا الحدث « العادى» الذى حدث فى انتخابات الوفد، فرصة «للنفخ» فى هذا الحزب وتضخيم قيمته ومكانته فى الشارع المصرى، حتى ولو كان ذلك باستغلال حالة الجهل السياسى لدى الغالبية العظمى من أفراد الشعب العاديين خاصة الشباب منهم.. ليكون هذا «الحزب» فى ظن هؤلاء المخططين هو البديل لما ينادى به د. البرادعى ورفاقه من رغبة وإصرار على تغيير النظام القائم إلى نظام ديمقراطى حقيقى بطريقة سلمية وباستخدام الضغط الشعبى المتصاعد،
وهو أكثر ما يقلق السادة الذين يحلمون باستمرار واستقرار الدولة الفاشلة التى هى نتاج ما فعلته أيديهم بها وما استنزفوه منها على مدى عقود طويلة، بل يصل بهم الخيال والشطط إلى حد توريثها لصغارهم ضماناً لحمايتهم من المحاكمة والمحاسبة يوماً ما. استخدم الحزب الحاكم كل أدواته لهذا الغرض، اعتقاداً منهم بأن الشعب المصرى يتصف بالغباء والغفلة..
فسمح لوسائل الإعلام الحكومية الرسمية منها وغير الرسمية بإعطاء المساحات الإعلامية فى الصحف والإذاعة والتليفزيون لتغطية ما سموه الانتخابات الحضارية على رئاسة حزب الوفد، والإشادة بها وبه، طالما أن هذا الحزب قد نأى بنفسه عن دعوة التغيير التى يدعو إليها د. البرادعى، وأعلن بصراحة ووضوح أنه سيشارك فى تمثيلية انتخابات مجلس الشعب القادمة وكذا الانتخابات الرئاسية لإعطاء شرعية لاستمرار نظام الفساد والاستبداد، مقابل بعض المكاسب الشخصية لقادة الحزب المتواطئ.
ولأول مرة ظهرت صور بعض الشخصيات العامة وهم يوقعون على استمارات الالتحاق بالحزب، وقرأت عن رئيس الحزب الجديد تصريحا غريبا يصف فيه حزبه، أى حزب الوفد، بأنه ليس حزبا بالمعنى الحقيقى للأحزاب وإنما هو عباءه تتسع لجميع الاتجاهات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار (مناهضا بذلك فكرة جماعة التغيير ومقتربا من الفكر الشمولى للحزب الحاكم)!!
ولعب الإعلام الخاص -الموجه بالذات- دوراً بارزاً فى هذا التوجه للدولة، خاصة أن هذا الإعلام « يمثل» على عامة الشعب الساذج دور المعارض والمدافع عن حقوقهم.. وبرز فى هذا الدور على وجه الخصوص برنامج «العاشرة مساءً» ومقدمته المذيعة التى تغيرت اتجاهاتها وبوصلتها بعد أن وصلت إلى حالة النجومية «المفسدة».. فمن بلغ هذه الحالة التى تسكر بعض من وصل إليها يصبح همه الأول هو الاحتفاظ بهذه النجومية دون النظر إلى أى معايير أخرى مهنية أو مبدئية،
وظهر ذلك جلياً فى حوار هذه المذيعة مع أول ظهور للبرادعى معها عقب رجوعه لمصر وحالة الاشمئزاز التى أبداها الكثيرون من هذا الحوار الصادم. تأكيد ما قلته سابقاً بدا جلياً فى تلك الحلقة التى حاورت فيها النجمة الإعلامية منى الشاذلى وزير الثقافة فاروق حسنى فى برنامج العاشرة مساءً منذ عدة أيام.. لقد كانت فكرة هذا المقال فى رأسى وبدأت كتابته قبل أن أشاهد هذه الحلقة للوزير والمذيعة، والحمد لله أنها أوجدت لى المثال الحى على كل ما فكرت فيه بصورة لم أكن أحلم بها!!
فقد انتقد الوزير أولاً د. البرادعى وقال إنه لم ير جديداً فيما قدمه ولم يفهم ماذا يعنيه بالتغيير ونصحه بأن يدرس البلاد أولاً ويقدم حلولاً لمشاكلها وأن يقرأ مصر كما يجب!! لم يفهم سيادته مطلب د. البرادعى البسيط وهو كلمة واحدة «الديمقراطية» بمعناها الحقيقى والوحيد الذى يعرفه العالم أجمع والتى هى المدخل والبداية لإصلاح كل البلايا القائمة بإجراء انتخابات حرة نزيهة والإقرار بتداول السلطة وإزاحة الفاشلين ومحاسبتهم. ودافع الوزير المزمن عن الانتخابات الأخيرة ونتائجها المزورة الفاضحة بقوله «فيه اللى بيقول إن فيها كلام لكن أنا شايف إن فعلاً كان فيه انتخابات وقضاة ومجتمع مدنى يراقبها»!!
ثم ظهرت حقيقة هذا الوزير الذى يدعى التحضر والثقافة بسرد حلمه العظيم حيث قال: «أحلم بأن يكون ربع مجلس الشورى وثلث مجلس الشعب من المعارضة الحقيقية التى تستطيع عمل حراك فى المجتمع وتكون كرباجاً على الحكومة»!! وهكذا علناً وبلا خجل يحلم بتقسيم محدد، لا يزيد ولا ينقص للمجالس النيابية، وأنصحه بأن يرسم هذه الصورة للمجلس الذى يحلم به ويرسلها إلى زميله وزير الداخلية التى يتولى رجالها فى الواقع عملية توزيع المقاعد، لتحقيق حلم سيادته!!
ثم أكد سيادته أن تحقيق حلمه هذا يتطلب حزباً قوياً، ورشح حزب الوفد الذى قال عنه إنه بدأ يقوى حالياً للقيام بتمثيل دور المعارضة فى المسرحية السياسية الهزلية التى نحياها! كان أطرف ما فى الحديث قول السيد الوزير الفنان إن منصب الوزارة يخسّره هو شخصياً، وهو ما فهمته من أنه غير راض، عن الثمن الذى تباع به لوحاته العالمية فى المعارض التى يقيمها بين الحين والحين..
وأعتقد أن القراء جميعاً شاهدوا هذه اللوحات فى الرسائل الإلكترونية المتبادلة بطول البلاد وعرضها منذ شهور التى تعرض وتفسر هذه اللوحات!! السيد الوزير الفنان.. السيدة المذيعة النجمة منى الشاذلى.. شكراً لكما فقد وفرتما علىّ إيضاح وتفسير ما كنت أفكر فيه، بهذه الحلقة التى أظهرت ما نحن فيه من بلاء، وكشفت كل ادعاء.