يمتد هذا المبنى على مساحة ٤٨٠٠ متر مربع، وينزع نحو السماء بارتفاع ١٤٣ متراً، ويقف مزهواً بطوابقه الـ٤٣، مشرفاً على نهر النيل، حيث يتخذ شكل زهرة اللوتس، ذات الاعتبار الكبير فى الحضارة المصرية القديمة، وحيث يعكس الحداثة والعصرية فى تصميماته وتفصيلاته المبتكرة، ويزهو باحتضانه نخبة من أهم الكوادر والعقول الوطنية، وبانطوائه على صفحات من العراقة والمجد والوطنية الزاهرة..
إنه مبنى وزارة الخارجية، الذى أوشك أن يفقد معناه. فى العام ١٨٢٦، أسس محمد على باشا ديوان التجارة والشؤون الخارجية، ليكون مسؤولاً عن علاقات مصر مع الإقليم والعالم، ومنذ ذلك التاريخ تعاقب على منصب وزير الخارجية المصرية ٧٥ وزيراً، حيث شهدت السياسة الخارجية للبلاد فترات صعود وهبوط متعاقبة، لكن فاعلية هذه الوزارة وصورتها لم تكن أبداً بالضعف الذى باتت عليه الآن.
لم تكن جميع الفترات التى مرت بالجهاز الدبلوماسى المصرى على مدى تاريخه لحظات إشراق ممتدة، بل راحت تتذبذب تبعاً للقوة الشاملة التى تتمتع بها مصر، وعناصر كتلتها الحيوية، ودور الدبلوماسية فى أجندة العمل الوطنى، لكن وزارة الخارجية مع ذلك، ظلت تبرهن على كونها مدرسة قائمة بذاتها فى الوطنية والأداء المهنى والسياسى، بل إنها نجت، فى أحيان كثيرة، من تراجع عام أُريد للبلاد كلها ولها أيضاً، وظلت محافظة على حد أدنى من الصلابة والصمود والتعبير الإيجابى عن ذاتها وما تمثله فى الضمير الوطنى.
ولذلك فإن السجل الوطنى لن ينسى أبداً الوزراء إسماعيل فهمى ومحمد إبراهيم كامل والدكتور محمود فوزى، وكذلك لن ينسى الوزير الـ ٧٣ عمرو موسى، الذى شغل المنصب على مدى عقد كامل؛ فعوّض بديناميكيته سكون السياسة الخارجية وارتهانها للأداء الوظيفى، وعالج بمسرحيته انحسار بدائلها وضمور خياراتها، وستر بصياغاته المبدعة افتقادها للرؤية وعدم تجدد المحتوى.
وفى العام ٢٠٠١، كان لزاماً على عمرو موسى أن يترك منصبه، بـ «ترقية» إلى منصب «أرفع»، فذهب أميناً عاماً للجامعة العربية، حيث يطلب إليه كل يوم أن يحارب طواحين الهواء، ويوفق بين الثعالب والدجاج، ويقول كلاماً مفهوماً وحلواً عن وضع غائم وأمرّ من العلقم.
كانت الترشيحات تصب آنذاك لمصلحة السفير السابق محمد بسيونى والوزير عمر سليمان لتولى المنصب الشاغر، وهى ترشيحات أفصحت عن إدراك أصحاب التكهنات بأن القيادة السياسية تريد لهذا المنصب عسكرياً يتحلى بالانضباط والاقتصاد والطاعة، ويمارس عملاً وظيفياً محدداً، من دون رغبة فى إحداث تحولات كبيرة أو قفزات للأمام، ومن دون الحاجة إلى «مهارات التسويق السياسى».. سواء لشخص الوزير، أو لمكانة الوزارة، أو حتى لسياسات البلد.
لم يتول رئاسة الدبلوماسية المصرية عسكرى فى أعقاب «ترفيع» موسى، فقد تعاقب على المنصب الوزيران المحترمان أحمد ماهر وأحمد أبو الغيط، اللذان يبدو أن اختيارهما وعملهما تم على أساس الاشتراطات نفسها: «الانضباط والاقتصاد والأداء الوظيفى المحدد من دون مهارات تسويق لا للوزير ولا للوزارة ولا حتى للسياسة المصرية».
أمس الأول الجمعة، نشرت «المصرى اليوم» حواراً مع القيادى الكبير فى حركة «حماس» محمود الزهار، قال فيه: «المشكلة أن الملف الفلسطينى ليس فى يد وزارة الخارجية المصرية، لكنه فى يد أجهزة أخرى، وفى الحقيقة يفاجئنا الوزير أبوالغيط بتصريحات تستفز الناس كثيراً، ولذا يحدث هجوم عليه، لكن تعاملنا الأساسى مع جهاز المخابرات، وعلاقتنا به جيدة».
وفى مطلع الأسبوع الماضى، نقلت وسائل الإعلام المختلفة تصريحات لوزير الخارجية السودانى على كرتى تحدث فيها عما وصفه بـ «تراجع الدور المصرى فى قضايا السودان»، قائلاً: «ظللنا نشكو ضعف معلومات مصر عن الحياة السياسية السودانية وتعقيداتها ودورها المتواضع تجاه قضايا مهمة تؤثر فى عمقها الاستراتيجى».
الأمر ذاته تكرر من قِبَل بعض المسؤولين الأفارقة والعرب، فضلاً عن مراكز بحوث ووسائل إعلام عالمية ذات اعتبار ونفاذ، أشارت أيضاً إلى «تراجع نفوذ مصر»، و«انحسار دور وزارة الخارجية فى صنع السياسة الخارجية».
لم يكن الوزير أبوالغيط يوماً من المسؤولين المحبين للإدلاء بالتصريحات أو الظهور فى وسائل الإعلام، لكنه مع ذلك يكرر كثيراً فى تصريحاته أن «دور مصر الإقليمى قوى ولم يتراجع»، وهو كلام لا يصدقه أحد، وتكراره والإصرار عليه يأتى بنتائج عكسية، ويضع الوزارة والوزير فى صورة لا تليق بهما.
نحن ندرك أهمية أن تدار السياسة الخارجية لمصر من خلال عمل مؤسسى ينطوى على تنسيق بين أجهزة متعددة، واستخدام إمكانيات مختلفة، وتقسيم عمل، وتوزيع أدوار، لكن ما لا يمكن أن يُدرك أو يُفهم أن تتحول القضايا السياسية إلى «حالات أمنية»، ويتم التعاطى معها بمفهوم «سد الثغرات، وكتم الأزمات، وتحقيق الأهداف فى سرية وصمت»، فيما يعرف كل مختص ومهتم أن السياسة ذات إطار أوسع، يبدأ من اجتراح الرؤية، وصياغة المهمة، ويمر بالتنفيذ الواعى، ويحتاج دوماً إلى تسويق ناجح للأفكار والسياسات.
الأمر هذه المرة لا يتعلق فقط بدور مصر المتراجع، وتضاؤل تأثيرها الإقليمى، فى ظل صعود قوى عربية وغير عربية، وإعادة رسم خريطة المنطقة، ولكنه يتعلق أيضاً بجسم أساسى فى الدولة والتاريخ والوطنية المصرية، ينزوى، ويذبل، وتُنزع أنيابه، ويُروض على الامتثال والضعف وفقدان الرؤية والاعتبار.. وهو أمر، لو تعلمون، جلل.