نقصد بالجماعة القانونية: الجماعة المهنية للقائمين على أمر القانون تعليما وتطبيقا وتفسيرا وشرحا وتنفيذا. هدف الجماعة القانونية فى المجتمعات الناضجة ولا نقول الديمقراطية، أن تسهم إسهاما فعالا فى إعلاء الشرعية وحكم القانون وفى وصول العدالة ـ كما يراها النظام القانونى ـ إلى مستحقيها بأقرب السبل وفى الوقت الملائم ودون عنت أو تعقيد أو مماطلة.
ونزعم أن الأزمة الأخيرة التى ثارت بين المحامين من ناحية وأعضاء النيابة العامة والقضاة من ناحية أخرى تكشف عن شروخ حقيقية فى بنيان الجماعة القانونية فى مصر، وأنه فى حاجة إلى ترميم وتنكيس سريع وإلا انهار بناء القانون على رؤوس المستظلين به ضمن ما يشهده المجتمع من مسلسل الانهيارات.
قد ينجح رئيس مجلس الشعب وبعض الرموز المصرية الرسمية فى احتواء الأزمة وتهدئة النفوس، ولكن هذا الاحتواء وتلك التهدئة إن حدثت ستبقى ذات طابع مؤقت وسيظل الانفجار نتيجة احتكاك مكونات الجماعة القانونية احتمالا مرجحا فى كل وقت، لأن النار ترقد تحت الهشيم وعوامل انفجار الأزمات متأصلة فى أسس بنيان جماعة أهل القانون.
وبوسعنا أن نتتبع جذور أزمة الجماعة القانونية فى مصر بتفحص الوضع المتردّى الذى عليه مؤسسات التعليم القانونى وانعكاسه على مشكلات المحاماة المهنية والنقابية والأخلاقية والاقتصادية والمشكلات المتعددة التى تحيط بالنظام القيمى للقضاء المصرى المعاصر.
المتعاركون والمتصايحون والمتشاجرون والمتضاربون اليوم من المحامين وبعض رجال النيابة والقضاء، هم طلاب كليات الحقوق بالأمس والأمس القريب. فلا شك أن مشكلات التعليم القانونى تترك آثارا واضحة على مجمل المهن القانونية فى أى مجتمع.
توجد فى مصر العديد من كليات الحقوق فى الجامعات القديمة كـ«القاهرة وعين شمس وأسيوط والإسكندرية»، فضلا عن الجامعات الإقليمية المنشأة حديثا فى الدلتا وفى صعيد مصر. أقدم كليات الحقوق وهى كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول، وقبلها مدرسة الحقوق قامت على تقاليد وقيم ليبرالية رفيعة أرساها الرعيل الأول من أساتذة القانون المصريين والأجانب، ولكن هذه التقاليد انزوت اليوم وأصابها العطب ولم يعد يذكرها أحد ـ
كما سنبين فيما بعد ـ بجانب كليات الحقوق التقليدية تخرّج كليات الشريعة والقانون بجامعة الأزهر (عددها حتى الآن خمس كليات) أعدادا تقدر بالآلاف سنويا من الخريجين ذوى الخلفية والثقافة الدينية الذين يحتلون أماكنهم فى منظومة مهنة القانون فى المحاماة والقضاء (يقدر البعض نسبة خريجى الأزهر بحوالى ٢٥% من مجموع رجال القضاء).
ومن ناحية أخرى، اختارت أكاديمية الشرطة الاستقلال عن جامعة عين شمس فى أمر التعليم القانونى لطلابها، وأصبحت تمنح درجات علمية فى القانون مماثلة للدرجات التى تمنحها الجامعات المصرية. ونظن أن فتح الباب على مصراعيه فى المناصب القضائية لخريجى كليات الشرطة والشريعة (وهم كُثر) قد أدى إلى تراجع القيم والثقافة الليبرالية.. تلك التى تربى عليها الرعيل الأول من القضاة، وحلّت محلها ثقافة وقيم المحافظة والسلطوية بمعناها الدينى أو المدنى، الأمر الذى أسفر جزئيا عن عسكرة وتديين قطاعات من القضاء.
نعود إلى نظام التعليم فى كليات الحقوق المدنية وأثر ذلك على العمل القانونى فى مجال القضاء والمحاماة. من الصعب اليوم القول إن بمصر تعليما قانونيا جامعيا بالمعنى المتعارف عليه دوليا أو حتى بالمعنى الذى كان موجودا فى مصر منذ نصف قرن. اليوم تنظر الدولة إلى كليات الحقوق على أنها مؤسسات تعليمية غير مكلفة ماديا، لا تتطلب فى بنيتها الأساسية إلا مجرد توافر ميكروفون ومدرج وأستاذ قادر على الصياح فى الميكروفون فى مكان مزدحم يضيق بألوف الطلاب، وقادر على كتابة المذكرات أيا كان محتواها.
أصبحت كليات الحقوق تجمعات لأعداد هائلة من الطلاب ضعيفى القدرات الذين اجتازوا امتحان الثانوية العامة بأقل مجموع. ترى الدولة أن مجرد تسكين الألوف من الشباب محدودى الموهبة والكفاءة فى هذه التجمعات كثيفة العدد، بصرف النظر عن رداءة ما يتلقونه من علم، أمرٌ يرفع عنها عبئا سياسيا يتمثل فى توفير التعليم الجامعى بالمجان لألوف الطلاب كل عام. توجد فى مصر ثلاثة عشر كلية للحقوق بكل منها حوالى ثلاثين ألف طالب، ويتخرج فيها سنويا حوالى أربعين ألف طالب. نسبة عدد الأساتذة إلى عدد الطلاب فى هذه الكليات هى أستاذ واحد لكل ألف طالب، فى حين أن المعدل العلمى هو أستاذ لكل خمسين طالبا.
عندما وقف الأستاذ زكريا نيل، الصحفى المرموق بـ«الأهرام»، متحدثا فى حفل افتتاح معرض الكتاب فى إحدى سنوات التسعينيات ليثير أمام الرئيس مسألة سوء حال التعليم فى الكليات النظرية ومنها الحقوق، حادثه الرئيس عن التدريب التحويلى للطلاب بعد التخرج، أى أن الدولة غير منزعجة من حال التعليم النظرى الردىء، ومنه التعليم القانونى، لأنها تدخر لهؤلاء الشباب فرصا رائعة لتحويلهم إلى سمكرية وسباكين وعمال طلاء وخلافه. الدولة فعلا غير مكترثة ولا يعنيها تخريج قانونيين أكفاء أو محاسبين أكفاء أو اقتصاديين أكفاء أو مدرسين أكفاء بقدر ما يعنيها أن تجد لشبابها الحاصلين على الثانوية العامة مكانا ضيقا فى مدرج مزدحم فى كلية لا تعلمهم شيئا.
لا يهم أستاذ الجامعة أن يقدم لطالب الحقوق تعليما قانونيا متميزا أو جادا، كما كان الأمر منذ عقود مضت، ولا يهم طالب الحقوق أن يتلقى من أساتذته مثل هذا التعليم، بل لعل هذا الأمر يزعجه غاية الإزعاج. ولا يهم الدولة أن يهتم الأستاذ أو الطالب بأخذ أمور التعليم القانونى مأخذ الجد. ما يهم غالبية الأساتذة (وهم الذين يرحبون أشد الترحيب بأفواج آلاف الطلاب الذين يدفع بهم مكتب التنسيق إلى كلياتهم)، أن يقوم هؤلاء الآلاف بشراء ما يكتبونه من مذكرات يعوض ثمنها رواتبهم العاجزة. تعلم الدولة كل ذلك وأكثر، ومع ذلك فهى لا تواجه بصراحة واستقامة مشاكل تدهور التعليم القانونى وتصر على بقاء رواتب الأساتذة فى وضعها المزرى، وتجود عليهم بجنيهات تسمى «جنيهات الجودة» حتى ترسخ فى مجتمع الأساتذة (مثلما رسخت فى مجتمع الوظيفة العامة) ثقافة الخنوع والتسول.
لا تنتج مجتمعات الزحام القانونى هذه إلا كل ما هو سلبى وردىء من قيم وثقافات.. ينجح الطلاب أو يرسبون دون تصحيح جدىّ لأوراق إجاباتهم.. تنشر السوق السوداء فى التعليم متمثلة فى مراكز تبسيط المذكرات والدروس الخصوصية، كما تنشر التوصيات من ذوى الحظوة والنفوذ على أبنائهم. أعضاء الجماعة القانونية دأبوا فى الآونة الأخيرة على رفع دعاوى قضائية بإعادة تصحيح أوراق إجابات أبنائهم، وكثيرا ما يجابون إلى ذلك، فى حين يقنع فقراء الطلاب بالصمت والقهر.
لجأت الدولة إلى محاولة انتشال أبناء الصفوة من زحام التعليم القانونى عن طريق إنشاء أقسام اللغة الإنجليزية. ورغم أن كثيرا من طلاب الحقوق من أبناء الصفوة لا يعرفون اللغات (وهو بالمناسبة ما يصدق على بعض أساتذتهم أيضا)، فإن هؤلاء الطلاب يحظون بمعاملة خاصة تكفل النجاح بتفوق، وتكفل لهم شغل المناصب القانونية المهمة عند التخرج. وتكفى مراجعة أسماء شاغلى الوظائف القانونية المرموقة للتأكد من هذه الحقيقة.
ومثلما شهد التعليم العام قبل الجامعى مجموعة من التمايزات الفجة بين: التعليم الحكومى والتعليم الخاص والوطنى والأجنبى والمدنى والعسكرى والدينى والمجانى وباهظ التكلفة، وهو التمايز الذى أنتج شرائح من الشباب متنافرة اجتماعيا، شهد التعليم الجامعى عامة والقانونى خاصة نفس التمايزات، يقبع أسفل سلم التعليم القانونى (بل تحت هذا السلم) آلاف الطلاب الفقراء الذين يحتشدون فى زحام مدرجات التعليم الحكومى المجانى.
هذا التمييز الفج انعكس بالضرورة على شغل الوظائف القضائية والوظائف القانونية المرموقة. وأصبحت فرص خريجى التعليم القانونى (المتميز) أكثر من فرص الجعيدية والحرافيش والزعر من فقراء خريجى التعليم القانونى العادى فى شغل هذه المناصب. وأصبح تعيين أبناء القضاة فى المناصب القضائية بمثابة عرف مخالف للقانون يستهجنه الضمير الاجتماعى السوىّ،
ويصر عليه المجتمع القضائى. عندما تم تعديل القانون مؤخرا باشتراط حصول الخريج على تقدير (جيد) للتعيين فى المناصب القضائية نقلت الصحف، على لسان بعض قيادات القضاة، استياءهم من هذا التعديل. فى نظرهم يكفى حصول ابن القاضى على تقدير مقبول كمؤهل للتعيين فى القضاء لأن قرابته وحدها تشفع له. لا أريد أن أستفيض فى ذلك حتى لا يستخدم سيف القانون لقمع من يطالب بتحقيق العدل، وقد حدث ذلك مرارا.
(آسِ بين الناس فى مجلسك ووجهك).. هكذا خاطب عمر بن الخطاب أبى موسى الأشعرى عندما ولّاه القضاء. القاضى إن اقتص لنفسه مستخدما سلطته فَقَد صلاحيته للقضاء. لّا يمكن أن يكون نقد ممثلى الرأى العام لنظام التعيينات فى القضاء سببا للمساءلة القضائية. ولا يقبل أدنى إحساس بالعدل أن يحكم على محام بالحبس خمس سنوات بتهمة التعدى على وكيل نيابة، فى جلسة سريعة، لا يمكن فيها للمحامى إبداء دفاعه. هناك فرق بين السلطة والتسلط: الأولى تستند إلى العدل، أما الثانى فيستند إلى القهر. إن اختلطت معانى العدل والقهر فلنقل على الجميع السلام.
ومن يلقى نظرة تحليلية على مجتمع أهل القانون اليوم سرعان ما سيكتشف نتيجة مفزعة، هى أن الطبقية فى مجال التعليم القانونى قد انعكست بوضوح شديد على الجماعة القانونية. تخرج كليات الحقوق الجامعية كل عام آلافاً من الخريجين العاديين، منهم المتفوقون ومنهم غير المتفوقين،
ويجمعهم أنهم بلا حول ولا قوة ولا حسب ولا نسب ولا جاه، وهؤلاء لا مكان لهم إلا القيد فى نقابة المحامين ليزاحموا حوالى نصف مليون محام مشتغل فى مصدر الرزق. فى مقابل هؤلاء يتخرج بضع عشرات من أبناء أصحاب السطوة والنفوذ من خريجى التعليم العادى والمتميز، وهؤلاء يحتلون المناصب القضائية والمتميزة فى إخلال صريح بمبدأ المساواة أمام القانون.
تنص المادة ٤٧ من قانون السلطة القضائية على ضرورة أن تشتمل التعيينات فى المناصب القضائية على نسبة محددة من المحامين، ومع ذلك يمتنع عن عمد تطبيق هذا النص لسبب لا يعرفه أحد. هل تجوز مخالفة القانون ويمر الأمر فى صمت؟!
كتبت الصحف أن المحامى المعتدى عليه فى الواقعة الأخيرة قال لوكيل النيابة: (أنا حاصل على تقدير جيد جدا وأنت حاصل على تقدير مقبول)، ويبدو الأمر كما لو كان شباب المحامين يمثلون فى مجتمع أهل القانون طبقة بروليتاريا القانونيين بكل ما تحمله البروليتاريا من سمات التذمر والإحساس بالقهر،
فى حين يمثل شباب رجال القضاء، الذين شغل بعضهم مناصبهم لاعتبارات القرابة، أرستقراطية الجماعة القانونية.. الاتجاهات النفسية المتبادلة بين كل من البروليتاريا والأرستقراطية شائعة ومعروفة، يمكن اختزالها فى ثنائية الغضب والإحساس بالقهر من ناحية، والاستعلاء والتكبر من ناحية أخرى.
تزيد من حدة هذه الثنائية مجموعة من العوامل، منها: أن نقابة المحامين قد كفت ـ ومنذ عقود ممتدة ـ عن أن تضبط سلوك شباب المحامين بما يحفظ كرامة المهنة ويبقى على هيبتها فى نفوس القضاة والمتقاضين، وأصبح كل من يبحث عن لقمة عيش من خريجى الحقوق يجد فى المحاماة ضالته وفقا لمبدأ «أن أكل العيش (يحب الخفّيّة)».
وولى منذ زمن بعيد مظهر المحامى المهاب الذى يحفظ لنفسه ولمهنته كرامتها وشموخها (أحد تلاميذى استأجر دكانا فى مركز من مراكز محافظات الريف وكتب لافتة عليها اسمه وأسفلها عبارة - محاماة وحدايد وبويات).
من ناحية ثانية، غاب لدى الشباب من رجال القضاء، الذين تربوا على التمييز فى تلقى العلم وشغل الوظائف، الفارق الجوهرى بين السلطة والتسلط: السلطة يتمتع بها الموظف العام لتطبيق حكم القانون وتحقيق وظائف الدولة، والتسلط هو استخدام السلطة فى غير ما شرّعت له بالمخالفة للقانون وتحقيقا لمآرب شخصية أقلها الاستعلاء والسعى فى الأرض تيها واستكبارا.
هذا الفارق بين السلطة والتسلط أو بين الحكّم والتحكم هو آفة الكثير من شباب السلطة العامة اليوم، أيا كان موقعهم، ويرجع بالدرجة الأولى إلى غيبة ثقافة الشرعية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
«فهل من سبيل بعد هذا كله لإصلاح تلك الشروخ الجوهرية التى أصابت بنياننا القانونى.. أم أن الإصلاح قد بات أكبر من قدرة الجميع على النهوض بتبعاته؟».. سؤال يبحث عن إجابات معروفة. الإصلاح يبدأ من أول الخيط.