«أدريفت».. هذا ما قاله كاتب «نيويورك تايمز» توماس فريدمان عن مصر، فى مقال نشره يوم الثلاثاء الماضى. كلمة إنجليزية واحدة (أدريفت) هى التى استخدمها للتعبير عن أحوالنا الحالية، فى سياق حديثه عن الفراغ القائم فى منطقة الشرق الأوسط. وهذه الكلمة قد تطلق على السائح التائه الطواف، الذى فقد بوصلته، أو على المركب الذى تعطل محركه فى أعالى البحار، أو ورقة الشجر العالقة وسط الرياح.
ربما أن النزعة السوقية المغرورة التى تتسم بها بعض كتابات توماس فريدمان قد أدت لانتقادات كثيرة، لكن لا شك أنه قد أصاب الهدف هذه المرة.. والدليل «أدريفت»! فعلًا، لماذا مصر اليوم «أدريفت»؟! لا شك أن القارئ يعرف معظم مقومات المأزق - بداية من مشاكل الأخلاقيات العامة والفوضى والفساد، وصولاً إلى القضاء والدستور ومستقبل السلطة - لذلك لا أريد الحديث مباشرة عن هذه المسائل.. وسأتخذ فى المقابل وجهة نظر «ماركسية»، تستند لفكرة أن تطور حالة وطبيعة الاقتصاد هو الذى يحدد ويعكس حال أى مجتمع.
فى النصف الأول من القرن العشرين، كانت تسيطر على اقتصاد مصر طبقة كبار الملاك، ومعها «رأسمالية قومية» مؤثرة، وأيضاً قطاع صناعى ومصرفى تديره فئة المتمصرين.. وكان رأى قيادات حركة يوليو أن هذه المصالح تؤثر بشكل جذرى على نظام الحكم، وتتآمر معه ومع المستعمر الأجنبى فى سبيل إخضاع الشعب وإبقائه تحت طائلة الجهل والفقر والضعف والهوان..
واعتبرت «الثورة» نفسها تعبيراً صادقًا عن آمال وتطلعات الناس، رغم انعدام المشاركة الشعبية فى عملية اتخاذ القرار، لأنها اعتبرت أنها حاربت أعداء الـ«شعب»، الذى من الضرورى أنه لا يمانع فى تقليص حرياته فى سبيل القضاء على أعدائه، ومن ثم حصوله على الـ«حرية الحقيقية» - وهناك كتاب رائع للدكتور شريف يونس (الحشد المقدس)،
يسرد تطور هذه الظاهرة خلال الحقبة الناصرية - مع ذلك، لم يتم تأميم الأغلبية العظمى من شركات ومصالح الرأسمالية القومية فى بداية الحكم الناصرى، على عكس عملية ضرب الإقطاع الفورية، لأن الأخير كان يهدد النظام الجديد بطريقة مباشرة.. على العكس، فإن عملية تمصير الاقتصاد وتخفيض الضرائب على المصانع وخفض الجمارك على الماكينات المستخدمة فيها أدت لتقوية الرأسمالية المحلية.
لكن، فى النهاية، وجدت حركة يوليو أن الرأسمالية التى تدعمها بدأت هى الأخرى فى تهديد النظام، لأنها كانت تتطلع لأوضاع أكثر انفتاحاً على العالم، لا تكون فيها العزلة الاقتصادية نتيجة من نتائج الاستقلال السياسى، وكانت تريد أن يكون لها دور أكبر فى اتخاذ القرار..
وكان ذلك من ضمن العوامل (الكثيرة) التى أدت لعملية التأميمات فى بداية الستينيات - وهناك دراسة مطولة للدكتور إبراهيم عودة، منشورة فى عدد شتاء ١٩٩٤ من دورية الدراسات العربية الربعية، تشرح تفاصيل ما حدث، وتؤكد أن من أهم أهداف تلك التأميمات إحكام السيطرة على «أداة الإنتاج»، فى سبيل تكريس الحكم التسلطى وحمايته من تهديد من قد يحاول استخدام نفوذه الاقتصادى لتحدى السلطة الوحدوية.. لذلك، فإن نوع الاشتراكية الذى نتج فى النهاية كان أقرب للاشتراكية القومية اليمينية وليس الاشتراكية الديمقراطية (أو حتى الماركسية التقليدية).
ثم فى السبعينيات، اتجهت القيادة السياسية نحو المعسكر الغربى، ومن ثم ظاهرة «الانفتاح» الاقتصادى، الذى حدث بطريقة فوضوية أتاحت لصغار النصابين جمع الأموال الطائلة.. ومع ذلك، بقيت مقاليد الاقتصاد الأساسية فى يد الدولة نفسها أو فى قبضة قلة من رجال الأعمال المقربين منها والتابعين لتعليماتها. وفى العقود التالية، زاد عدد هؤلاء الرجال لكن لم يتغير الوضع من الناحية النوعية.
أى أننا انتقلنا من الاشتراكية القومية شبه الفاشية إلى رأسمالية الدولة التسلطية، ولم ينتج عن التحرر الاقتصادى السطحى أى تحرر اجتماعى أو سياسى جذرى، حتى بعد عملية تعديل الدستور وإلغاء المواد الاشتراكية فيه لم يتم التخلى عن نسبة الـ٥٠٪ «عمال وفلاحين» فى مجلس الشعب، التى تساعد على ضمان استمرار سيطرة الحزب الحاكم، ناهيك عن إقرار تعديلات جذرية تسمح بالانفتاح السياسى الحقيقى.
والمشكلة الأساسية التى تواجه كل من تبنى هذا النهج - كما يشرح «إيان بريمر» بالتفصيل فى كتابه عن رأسمالية الدولة، الذى صدر مؤخراً - تكمن فى أن تلك الرأسمالية لا تحركها بالدرجة الأولى الحسابات الاقتصادية، إنما تسيطر عليها فكرة التسلط السياسى عن طريق الاقتصاد، حتى إذا جاء ذلك أحياناً على حساب الكفاءة الاقتصادية والتنمية..
وفى الفترة الأخيرة، رأينا أن بعض رجال الأعمال المقربين من الدولة صاروا جزءاً من السلطة التنفيذية، على الأقل على المستوى الإدارى. وأعتقد أن وضعهم فى هذه الأماكن نتج عنه نوع من الشد والجذب بين فطرتهم العملية، المبنية على حساباتهم كرجال أعمال، والقيود التى يفرضها عليهم العمل والتحرك فى سياق رأسمالية الدولة الخانق، الذى تتشبث به القوى الفعلية التى حكمت مصر منذ يوليو ٥٢، التى ربما تجد فى جيل رجال الأعمال والسياسيين الجدد تهديداً لها.. وربما فى ذلك الشد والجذب تكمن بعض مقومات وأسباب حالة التخبط والتوهان السائدة فى مصر، التى وصفها فريدمان بالـ«أدريفت».