ما حدث فى انتخابات مجلس الشورى يوم الثلاثاء الماضى (أول يونيو) سوف يدرج فى تاريخ الحياة السياسية المصرية المعاصرة، ضمن العلامات المهمة على احتضار النظام السياسى وقرب نهايته! ولا أعتقد أننى أبالغ على الإطلاق فى هذا التوصيف!
فإحدى العلامات الأساسية التى يستدل بها علماء وخبراء السياسة والعلوم السياسية على قرب نهاية نظام سياسى ما، هى وصوله إلى درجة عالية من الجمود والتصلب، وعجزه عن إبداء أى قدر من المرونة إزاء ضغوط ومطالب الإصلاح والتغيير. وكان ذلك بالتحديد هو المشهد العبثى المؤسف الذى ساد مصر طوال يوم الثلاثاء الماضى:
فقد تحولت مصر– فى ذلك اليوم- إلى مسرح كبير، يذكرنا بعبارة يوسف وهبى الشهيرة فى أحد أعماله «ما الدنيا إلا مسرح كبير!»، فربما كان يقصد تحديدا «أم الدنيا»؟!
نعم. مسرح بكل معنى الكلمة، وبتكلفة ملايين الجنيهات! ففُتحت آلاف اللجان الانتخابية فى طول مصر وعرضها، وجُند وانتُدب آلاف الموظفين للقيام بمهامهم فى تلك اللجان، وأنشئت «غرف العمليات» لمتابعة الانتخابات بأجهزة كمبيوتر حديثة تصلها البيانات أولا بأول لإحصاء ملايين الأصوات صوتا صوتا!
وأنشئت غرف عمليات أخرى للرقابة على الانتخابات والتأكد من حسن سيرها، تتلقى تقارير دورية مفصلة، وتم الترحيب بممثلى هيئات ودول أجنبية زاروا غرف العمليات هذه وراقبوا منها كيف تسير العملية الانتخابية بكل كفاءة ويسر ونزاهة! وجرى رصد حالات وشكاوى هنا وهناك، (كما يحدث طبعا فى أى انتخابات فى العالم؟!)
وبدأ التحقيق فى تلك الشكاوى. وجرت أعمال عنف هنا وهناك أيضا، مع التكالب على التصويت أو نتيجة بعض المشاحنات أو سوء الفهم (كما يحدث أيضا فى أى مكان فى العالم؟!)..
وصدرت الصحف الحكومية اليوم التالى تتحدث عن الانتخابات التى جرت فى أنحاء مصر، وعن بعض التجاوزات.. ولكن الانتخابات جرت، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله! وظهرت صور كبار رجال الدولة وهم يدلون بأصواتهم فى الانتخابات وعلى رأسها صورة الرئيس مبارك نفسه، والسيدة قرينته، ونجله السيد جمال مبارك.
ولا أعتقد أن أكثر المراقبين والمحللين فى العالم دهاء، وأعمقهم خبرة فى شؤون بلادنا، يتصور أن بلدا بأكمله يمكن أن ينغمس فى مسرحية أو تمثيلية إلى هذا الحد؟! ولكنها مصر، وكم فيها من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكا! إن السؤال الأهم، والأكثر جدية وإلحاحا هو: على من نمثل؟ وعلى من نضحك؟ هل على أنفسنا، نحن نعلم كل شىء! هل على العالم من حولنا؟ هم يعرفون أيضا كل شىء!
أقول هذا كله متذكرا الجدال الحاد الذى انغمسنا فيه فى حزب الجبهة الديمقراطية يوم ١١ مايو الماضى حول مسألة المشاركة فى الانتخابات، فالذين طالبوا بالمشاركة كانت حجتهم قوية وواضحة، وهى أننا كحزب سياسى لابد أن نمارس العمل وسط الناس وفى الشارع، وأماكن العمل، ويجب أن ننتهز فرصة الانتخابات لنتواصل مع الناس من خلال الأنشطة المتعددة التى تجرى بمناسبة الانتخابات بدءا من الجولات واللقاءات المباشرة مع الناس وحتى توزيع البرامج والمنشورات ... إلخ، وأن المقاطعة سوف تؤدى إلى حرماننا من تلك الفرصة المهمة للعمل والنشاط الجماهيرى، فضلا بالطبع عن الأهمية البديهية لوجود ممثلين فى المجالس النيابية!
أما وجهة النظر الأخرى التى دعت إلى المقاطعة فقد استندت إلى تقدير أكثر تشاؤما لموقف الحكومة والحزب الوطنى، وهو أنهما لن يسمحا– أصلا- بقيام انتخابات جادة ونظيفة، وأنهما سوف يتحكمان فيها بالكامل، بحيث سوف يقوم الحزب الوطنى– فى النهاية- بتحديد من سوف يدخل المجلس ومن لا يدخل، من خلال تدخل مباشر أتقنته أجهزة وزارة الداخلية، وبيروقراطية الحكم المحلى التى تتلقى أوامرها مباشرة من الحكومة والأمن! وبالتالى فإن دخول أى حزب «معارض» فى تلك الانتخابات سوف يكون بمثابة إضفاء لـ«الشرعية» على عملية لا شرعية، وتقديم صورة مزيفة للرأى العام الداخلى والخارجى، ولذا دعت وجهة النظر تلك إلى مقاطعة الانتخابات.
والواقع أن كلا من وجهتى النظر كانت لها وجاهتها– كما قال بذلك بحق د. صلاح فضل الذى أدار الاجتماع المشار إليه- ولكن كان من المهم فى النهاية الوصول إلى قرار ما، وهو ما تم بالفعل حيث فاز من نادوا بالمقاطعة بفارق صوت واحد عن الذين دعوا للمشاركة!
الآن فى ظل ما جرى فى انتخابات مجلس الشورى، والذى هو بالقطع يشير إلى نوايا الحزب الوطنى والحكومة بشأن انتخابات مجلس الشعب، أقول إننا كنا على صواب عندما انحزنا إلى خيار المقاطعة، بالرغم من الثمن الفادح الذى يدفعه أى حزب نتيجة الإحجام عن المشاركة فى انتخابات الهيئة التشريعية.
غير أننا كنا نعلم جميعا أن خيار «المقاطعة» لا يمكن أن يكون مجديا وفعالا، إلا إذا صدر بشكل جماعى عن قوى المعارضة جميعها، أو على الأقل قواها الرئيسية. ولكن للأسف لم يكن ذلك هو موقف الآخرين: حزب الوفد، أو التجمع، أو الناصرى، أو الغد، أو الإخوان المسلمين.
وأسهموا جميعا– من الناحية الفعلية، وأيا كانت وجهات نظرهم- فى إضفاء الشرعية على عملية انتخابية لا علاقة لها بالشرعية من قريب أو بعيد! ولكننا- فى حزب الجبهة- تمسكنا بالمقاطعة كتعبير عن موقف سياسى ومبدئى لا مساومة عليه، دفاعا عن حق الشعب المصرى فى انتخابات ديمقراطية حقيقية جادة ونظيفة!
ويتوجب علينا، بعد أن انتهت «المعركة» الانتخابية، أن نسأل رفاقنا فى المعارضة بصراحة: هل المقعد اليتيم الذى تفضل به الحزب الوطنى على بعض منكم يساوى «الشرعية» التى أضفيتموها على عملية انتخابية، تعلمون تماما أنها غير جادة، وغير شرعية؟ ما هو المكسب السياسى الذى حصلتم عليه من قيامكم بلعب دور الكومبارس فى مسرحية كاتبها وبطلها وجمهورها هو الحزب الوطنى؟
هل كان «الوفد» ذو الأعوام الخمسة والثمانين، والتاريخ الحافل، فى حاجة لتلك المعركة الانتخابية ليثبت دوره ويمارس حضوره فى الشارع السياسى، أم أن هذا الحضور كان يمكن أن يكون أقوى وأوقع من خلال حملة سياسية حقيقية ضد التزوير والانتخابات الشكلية ومن أجل إصلاح يرسى حدا أدنى لعملية انتخابية جادة ونظيفة؟
هل كان التجمع الذى بناه بعض من أفضل مناضلى اليسار المصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين فى حاجة لتلك المعركة ليلتحم من خلالها بالجماهير ويعبر عن آمالها وآلامها؟ إن هذا الموقف كان يمكن تأكيده وتدعيمه من خلال رفض قوى ومبدئى للمساومة فى حق الشعب فى انتخابات حقيقية ونزيهة؟ والأمر نفسه ينطبق على الحزب الناصرى، الذى فاز هو أيضا بمقعد ثمين!
غير أن «المفاجأة»- إذا استعرنا التعبير الذى استخدمه الأستاذ صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطنى- التى أسفرت عنها الانتخابات لم تكن طبعا هى «فوز أحزاب المعارضة فى عدة دوائر»، وإنما هى ما دللت عليه النتائج من تأكيد شائعة سرت منذ فترة بأن تلك المقاعد التى ذهبت (للمعارضة) ستكون –هذه المرة- على حساب الإخوان المسلمين. وأن «النية تتجه» (حسب التعبير الشائع لوصف القرارات السرية للحزب الواحد!) لتوزيع مقاعد الإخوان المسلمين على أحزاب «المعارضة»!
ولابد هنا من الاعتراف بأن ذلك الأسلوب من الحزب الوطنى إزاء الإخوان المسلمين ينطوى على فهم عميق لدوافعهم واتجاهاتهم. فالإخوان مثلا نأوا دائما بأنفسهم عن أى دعوة «لمقاطعة الانتخابات» بالرغم من أن حضورهم فى الحياة العامة فى مصر قوى ومعروف، وأن استراتيجيتهم دائما كانت هى النزول والمشاركة فى الانتخابات للحصول على شرعية سياسية تعوض افتقادهم الشرعية القانونية.
غير أن الأمر الجوهرى هنا هو أن هذه المشاركة تلعب –أكثر من أى عامل آخر- دورا أساسيا فى إضفاء الشرعية والمصداقية على تلك العملية الانتخابية، خاصة فى نظر العالم الخارجى، لأن المعارضة فى مصر بالنسبة إليهم هى «الإخوان المسلمين» أولا وأخيرا!
ولكن المفاجأة القاسية هنا أن الحزب الوطنى حصل من الإخوان على هذا الصك بالشرعية، ولكنه لم يقدم لهم –على الأقل حتى الآن- المقابل ولو بمقعد واحد! ولكن لا بأس، فتلك –على أى حال- هى قواعد أو عواقب الانتهازية السياسية فى كل زمان ومكان!