بتـــــاريخ : 5/27/2010 7:44:52 PM
الفــــــــئة
  • الأخبـــــــــــار
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 913 0


    نهاية كفاية وبداية محاكم التفتيش

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : د. عمرو الشوبكى

    كلمات مفتاحية  :

    ظلت حركة «كفاية» فى نزعها الأخير تقاوم الموت فى السنوات الثلاث الأخيرة إلى أن أعلنت عن نهايتها، بعد أن نصب بضع عشرات ممن تبقوا فيها أنفسهم كأوصياء على المجتمع والقلة القليلة التى بقيت من أعضائها، وأسسوا لكهنوت جديد يوزع صكوك الوطنية، وينشئ محاكم تفتيش تخوِّن من تريد، معتبرة زيارة مؤسسها جورج إسحق للقاء وفد من المصريين الأمريكيين استقواء بالخارج، فى واحد من أكثر مشاهد السياسة المصرية سوءاً وجهلاً وتربصاً.

    والمؤكد أن دور إسحق فى تأسيس «كفاية» كحركة احتجاج سياسى ضمت رموزاً محترمة من النخبة المصرية ومن مختلف التيارات السياسية- لا ينكر، ونجح بجهد وموهبة فى الحفاظ على توازنات دقيقة بين قلة «ثورية» اعتمدت الصوت العالى وتخوين الناس، وبين أغلبية تمسكت بالديمقراطية والتنوع واحترمت الرأى والرأى الآخر، ولكن سرعان ما تركتها بعد أن طردت العملة الرديئة العملة الجيدة، وألغت أهم قيمة أرستها «كفاية» وهى تداول موقع منسقها العام الذى انتقل بسلاسة من إسحق إلى د. عبدالجليل مصطفى، إلى أن ألغى هذا التقليد وسيطرت شلة على مقاليدها، واستبعدت كل مخالفيها فى الرأى وأنهت أى علاقة لها بالجماهير إلا من بعض النوايا الطيبة وبعض الهتافات الحماسية.

    ورغم أن كفاية ظلت تدعو الجميع ليل نهار للنزول إلى الشارع، وتنقد الجالسين فى المكاتب المكيفة، فإنها نست أو تناست كيف أنها تحولت لنموذج يُدرس لنفور الجماهير منها، التى قاطعت وقفاتها الاحتجاجية، حتى تحول آخر مؤتمر صحفى عقدته الحركة إلى مجرد حضور لزعمائها مع الكراسى وغاب حتى الصحفيون عن الحضور.

    كيف يمكن أن تتصور حركة ولدت فى الشارع دون سلطة أو رخصة قانونية أن تتحدث بهذا الفخر عن تجميد عضوية مؤسسها لأنه سافر والتقى بمصريين فى أمريكا، ولم يلتق بشخص واحد من الإدارة أو حتى الخبراء الأمريكيين؟. هل هذا موقف طبيعى؟ أم هو أسوأ من مواقف الحكومة والنظام السياسى، الذى أثبت أنه أكثر رحابة فى التعامل مع مخالفيه فى الرأى من بقايا حركة «كفاية»، فماذا كان يمكن أن تفعل لو- لا قدر الله- وصلت للسلطة، فهل كانت ستعتقل جورج إسحق لأنه خالف قادتها فى الرأى، وهل كانت ستحول البلاد إلى سجن كبير تجمد وتفصل وتعتقل كل من له رأى مخالف لقادتها؟!

    ولعل السؤال الذى ردده الكثيرون همساً ما شكل مصر التى يرغب فى بنائها هؤلاء؟ هل ستكون هى مصر التى ستضع أبناءها فى سجن كبير، وتعيد إنتاج نظم القمع والقهر والشمولية، وهل يتصور البعض بسذاجة أو بسوء نية أن الوطنية الحقيقية هى فى ممارسة وصاية على الناس، فيصبح الحوار مع المصريين فى الخارج أو حتى مع السياسيين الأجانب أمراً محرماً لأننا شعوب قاصرة وسياسيينا مطعون فى شرفهم، وهم لا يذهبون للخارج إلا لتلقى أوامر أو أموال، ولهذه الدرجة فقدنا ثقتنا فى أنفسنا ونتصور أن كل من يتواصل مع العالم الخارجى هو عميل محتمل، وأن أوروبا وأمريكا صنعتا تقدمهما من خلال أجهزة مخابرات تجند الناس، وليس عبر نموذج يحتذى فى الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات.

    إن الورقة الأساسية التى سوّقها الحزب الوطنى فى الخارج، هى أنه يمثل نموذجاً لحكم معتدل، وأن بدائله من بقايا «كفاية» و«الإخوان المسلمين» هى جماعات معادية للغرب فاشية التوجه، وستقضى على الاستقرار، وتحكم البلاد على طريقة «طالبان»، بصورة تمثل مصدراً للتخلف وعدم الاستقرار فى المنطقة والعالم، وقد أعطى هذا النمط من «المعارضة» أكبر دعم للحكم حين تركه محتكرا ساحة الفعل الخارجى، مستغلاً خطايا المعارضة وخاصة قواها الجديدة.

    والمفارقة أن هذا الخطاب لم يمنع القطاع الأكبر من المهتمين بالشأن العام من المصريين من التعاطف مع «نموذج البرادعى» لأنه (وعلى عكس ما يروج مشروع محاكم التفتيش لبقايا كفاية) رجل اعتدال وتواصل وليس قطيعة مع الغرب، وأيضا رجل قانون ورئيس سابق لمنظمة دولية مرموقة فنال هذا الدعم لأن أغلب الناس ترغب فى بناء نظام ديمقراطى معتدل لا يعيد إنتاج تجارب الفشل فى العالم العربى من صدام حسين فى العراق إلى طالبان فى أفغانستان وحزب المؤتمر الشعبى فى السودان، خاصة أن أمامه تجارب النجاح فى تركيا وماليزيا والبرازيل وكوريا وغيرها الكثير من الدول التى واجهت السياسات الأمريكية بالإنجاز على أرض الواقع وليس بشعارات التخوين والشتائم.

    إن الناس فى مصر وعت أن الغرب وأمريكا (باستثناء إسرائيل الحريصة على بقاء مصر متخلفة وغير ديمقراطية) ستقبل وربما ستحترم أى نظام على قمته رجل يحترم نفس القيم والقواعد التى يعرفها العالم فى الديمقراطية وحقوق الإنسان ويبنى دولة مؤسسات، ولن يحترم دولا موالية غارقة فى الفساد وسوء الإدارة.

    من المؤكد أن رحلة كفاية مثل كثير من حركات الاحتجاج السياسى عرفت نمواً وأثارت صخباً وجدلاً، ولكنها تراجعت حتى اختفت، وعجزت عن التأثير فى الحياة العامة ولو حتى إعلاميا أو «صراخيا»، فلم تعد تلفت نظر أحد، وسقطت من حسابات حركات الاحتجاج الاجتماعى والعمال والموظفين المضربين، وتجاهلتها رموز الموجة الثانية من الحراك السياسى، فتفرغت لقرارات الفصل والتجميد مثل الدكاكين الشمولية والتنظيمات الفاشلة، وتحركت كأنها سلطة فتوزع صكوك الوطنية على من تريد وتخوّن من تريد حتى جعلت بعض شبابها السابقين يتمنون بقاء النظام إذا كانت- كفاية- محاكم التفتيش هى بديله.

    والمؤكد أن أى حركة سياسية «بجد»، تراجع خطابها وأساليبها بعد أى فشل أو تعثر، ولكن كفاية لم تفعل وظلت على حالها فتراجعت حتى توارت، ومن حق القائمين عليها أن يتمسكوا بهذا الخطاب، ولكن من حقنا أن نراه كارثياً، مع فارق رئيسى أن من تركوا كفاية لم يخونوا قادتها، على عكس ما فعلوا، فهم لم يتركوا سياسياً واحداً محترماً فى مصر إلا وشتموه أو خونوه (تماما مثلما تفعل صحف الحكومة الصفراء) حتى ماتت الحركة، وصارت مسار تندر الناس على كل هذا الضجيج الذى بلا طحن.

    ويبقى بالتأكيد خطأ جورج إسحق ليس فى أنه سافر لأمريكا، ولكن لأنه قال لمن دعوه معتذرا عن عدم المشاركة فى لقاءاتهم وتفضيله التواصل المباشر مع المصريين فى الخارج: «اعتبرونى ضحكت عليكم»، وحتى لو كان هذا التعبير مجازاً وابن اللحظة والموقف، فهو يخرج من مشجع «شاطر» فى نادى المصرى البورسعيدى، وليس من سياسى بأهميته.

    لكنه أصاب، بالتأكيد، بالسفر و«الاستقواء بالمصريين» أينما كانوا، وأصاب لأنه، وهو رجل تجاوز الستين من عمره، صال وجال كل محافظات مصر من أجل أن يؤسس واحدة من أهم حركات الاحتجاج السياسى التى ضمت أهم من فى النخبة السياسية المصرية وأكثرهم إخلاصاً واحتراماً، وسيصيب إذا أغلق ملف كفاية التى أسسها ويتركها دون أى مرارة لمن خربوها وقضوا على معناها ورمزيتها، فهنيئاً لهم أنهم، وهم جماعة خارج السلطة وبلا جمهور ولا حتى أعضاء، يجمدون من جعلها فى يوم من الأيام حركة حقيقية ملء السمع والبصر نالت احترام حتى من اختلفوا معها.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()