د . محمد حمدي الحجار .
مفهومنا للتربية والوالدية محصور في الوظائف التالية : تقديم الغذاء للأولاد ، تعليمهم ، تقديم اللباس والمأوى ،التربية الدينية والاجتماعية ، أو التأديب الاجتماعي . وإذا تم ذلك فتكون الأسرة قد أنجزت واجباتها تجاه أولادها . وأعطتهم حقوقهم في الوالدية .
والحقيقة أن الوالدية هي أكثر من ذلك في المهام والواجبات تجاه الأولاد . إنها المسؤولية الأقسى ، والأكثر إلزامية وتحدياً من أي عمل أو مهنة يمكن أن يتصوره أي فرد . توجد مدارس لها ، ولكن ليس فيها فحوص يتطلب اجتيازها والنجاح فيها . إنها بالتحديد " التعلم من خلال العمل " .
في ممارسة أية مهنة تقدم الخدمات فيها إلى الناس ، فإن هذا يتطلب ترخيصاً من الدولة لهذه الممارسة بعد أن يكون طالب هذا الترخيص مجازاً في المهنة التي تعلمها من الجامعة واجتاز فحوصها ونال الإجازة والترخيص . في الولايات المتحدة الأميركية يستوجب اجتياز فحص الولاية لنيل هذا الترخيص . وحتى الزواج يحتاج إلى ترخيص في بلادنا العربية من المحاكم الشرعية ( ولكن لا يحتاج إلى شهادة لإجازة الزواج – وللأسف – تثبت كفاءة الزوجين في الزواج ولا توجد فحوص لهذا الغرض ) .
إن جلب أشخاص إلى العالم من خلال الزواج ( أي الأولاد ) لا يتطلب إلا توافر جهازين تناسليين – عند الزوج والزوجة - . أي لا يوجد إعداد ولا تدريب ولا تعليم ولا شهادة ترخيص بالسماح بإنتاج الأولاد لهذين الزوجين .
إن تعليم المهارات الأساسية والمهمة للوالدين كي يكونا صالحين للوالدية وتربية الأولاد هو ركن مهم وخطير في مسألة التربية والإنجاب . وهو يحدد المسار الملاحي لنجاح الأولاد أو إخفاقهم مستقبلاً في حياتهم .
إن أهم وأكثر الهدايا قيمة تقدمها لأولادك هي ما يمكن تسميته " ببوصلة العمل " - أي المهارات والحقائق – التي تساعدهم في النجاح بالمدرسة والعمل ، وفي اللعب واللهو ، وفي الحب والرفقة والألفة الاجتماعية .
من سوء الحظ أن برنامجنا الدراسي في المدارس ( الصفوف الإعدادية والثانوية ) لا تعد الولد ، أو البنت ، ليكونا أزواجاً في المستقبل ، يمتلكان المعرفة التربوية والسيكولوجية لإعداد الولد للحياة . كما لا تعدانهما لاكتساب المهارات الاجتماعية وللتفكير العقلاني . وكيفية ضبط الانفعالات المنافية ( أي الأمور التي تتعلق بالتكيف والصحة النفسية ) أو لنقل : تبديل السلوك اللا تكيفي عموماً .
إن تعليم مهارات الوالدية الأساسية لإعداد الأولاد للحياة من شأنه زيادة الفرص للأولاد بقدرتهم على مسك " بوصلة الحياة " والتوجه السليم نحو أهدافهم .
يتعين تعليم الآباء والأمهات " أو تعليم أنفسهم " بكيفية حل الاختلافات بينهم ، وتأكيد الذات ، والتدبر بالشدة النفسية . كما ويحتاجون التخلي عن العرف التربوي السيئ في تنشئة الأولاد الموروث عن الآباء .
ومن المسلم به ، أن الأولاد لهم خصائصهم المختلفة ، ويمتلكون الأمزجة والحاجات وسمات الشخصية المتباينة . لذا لا توجد طريقة مطلقة صحيحة يمكن تعميمها في مسألة التربية والتنشئة تصلح لكل الأولاد . إلا أننا - مع ذلك – نتكلم عن المؤشرات والأسس ، السيكولوجية المفيدة التي تلافي القبول عند معظم السيكولوجيين والمربيين .
من المعلوم أن الأولاد لا يدركون حق الإدراك ما يفيدهم . لذا يتعين من حيث المبدأ أن يقوم الأهل بعملية التوجيه وذلك وفق توجيهات صحية مناسبة اجتماعيا .
ونعني بالتوجيهات الإعدادية التربوية الاجتماعية مراعاة التدريب على مواجهة المشكلات البيئية التي يواجهها الولد ، والتعليم بالتعامل معها بنفسه ، ولكن وفق الإرشادات الوالدية وليس أن يحلها الأهل نيابة عن أولادهم . أي إعدادهم لمواجهة مشكلاتهم الحياتية بأنفسهم وتدريبهم على طرق التعامل معها .
إن أكبر مشكلة يواجهها الأهل في تعاملهم مع أولادهم هي عندما يمارس الأولون ، أي الأهل ، الضغط على أولادهم الصغار بأن يفعلوا ما هو لصالح الأهل وليس تلبية لرغبة أولادهم . فهناك فرق كبير مثلاً بين تحديد الساعة الثامنة مساء للولد للذهاب إلى الفراش ؛ لأن عليه الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى المدرسة ، وبين إلحاح الوالدين على أن ينام الولد في هذه الساعة لأنهما يرغبان في الاختلاء لوحدهما بمشاهدة أنواع خاصة من الأفلام في التلفاز لا يرغبان أن يشاهدها الولد لأسباب عديدة .
كما أن كثيراً من الأهل يرون أولادهم امتدادا لذواتهم ويطالبون أولادهم بالامتثال لأوامرهم بدون تساؤل إطلاقاً . إلا أنهم لا يدركون أن لأولادهم تفكيراً حراً ، وهم أفراد ذووا استقلالية ذاتية يعملون ويفكرون وفقاً لحوافزهم ودوافعهم الذاتية . وعندما يكون الأهل ملحين وفارضين فرضاً كبيراً لمطالبهم على أولادهم يتوجب على الآخرين التنفيذ بدون أي نقاش فإن النتيجة غالباً ما تكون التحدي والتمرد على أوامر الأهل ومطالبهم وتعليماتهم ، أو ينعكس التسلط على شخصية الولد بأعراض القلق وعدم الأمن .
* إن نمو الذات نمواً صحياً عند الولد يتطلب أن يكون له صوت في الأسرة ويناقش ويقبل هذا الصوت ، وليس من الضروري أن يكون موافقاً عليه .
وبالمقابل إن الأهل المتساهلين الذين لا يفرضون ضوابط على أولادهم ، ويتركونهم يسيرون مع رغباتهم بدون محاسبة أو اعتراض ، فإن هؤلاء الأولاد يشبون بتحمل ضعيف للإحباط ، سريعو الانهيار العصبي ، ولديهم مشاعر الارتباط والاتكال على الغير . لذا فإن التوازن والاعتدال بين هذين الحدين المتطرفين في التربية ( لا إفراط ولا تفريط ) هو أمر لازم ومن سمات التربية القائمة على مراعاة الصحة النفسية .
ولعل المفتاح هنا يكمن متى تكون متساهلاً ، ومتى تكون ضابطاً مسيطراً في العملية التربوية .
* إن الأخذ بالنتائج الطبيعية بالنسبة لفعل أو فرضه هو تساهل بموقف ولكن فيه تحفظ .
عندما أصر ماهر على أن يبقى ساهراً متجاوزاً الساعة النظامية التي يأوي فيها إلى الفراش ، تساهل معه والده بأنه لديه الوقت لأن يستريح بعد انتهاء دوام المدرسة مهما كان تعبا في اليوم التالي . فإعطاء التبرير لماهر من قبل والده يعد نتيجة صنعيه . ولكن إذا أبان الوالد لماهر أن خياره بالتأخير في الذهاب إلى الفراش يترتب عنه أنه سيكون متعباً لا يستطيع أن يتعامل مع مسؤولياته المدرسية في الصف . وهذا ما يسمح لماهر أن يبصر العلاقة من الفعل والنتيجة ويسمح للولد أن يتعلم من أخطائه .
من جهة أخرى ، أن تكون والداً فعالاً ليس بالأمر السهل وذلك أن كثيراً من الآباء يرتكبون الأخطاء ذاتها مع أولادهم . وبحق ، يمكن القول إن الميل في اتهام الوالدين بالأمر السيئ الذي يلحق بالأبناء هو شيء أو حكم غير عادل وغير صحيح . فجميعنا ورثنا بعض الميول من أهلنا الذين لا سلطان لهم عليها بهذا التوريث ، ولا يمكن تبديلها . إلا أن تأثير الجماعات من العمر نفسه يكون أكثر قوة من الفوائد وحتى من الوالدية المثالية .
ومع ذلك ، فإن الوالدين الجيدين يمكن أن يخلقا شيئاً مختلفاً وذلك عندما يتجنبان ارتكاب بعض الأخطاء الرئيسية وغيرهما يفعلانها . فالوالدان الجاهلان مثلاً يخلقان عند أولادهما مشاعر الإثم إذا ما تصرفوا تصرفاً خاطئاً .
بينما مشاعر الذنب الخفيفة عادة تردع من ارتكاب التصرفات الخاطئة ، ونسميها " محاسبة الذات " . وفي عائلات أخرى ، فإن الأداء المدرسي السيئ يتحول بنظر الوالدين إلى خطيئة أو ذنب جسيم فالولد الذي تغرس فيه شعور الأخلاق السيئة من أجل قصور بسيط سينظر إلى ذاته بكونها سيئة ، ويفشل في تكوين إحساسه بقبول ذاته . " أنت ولد كسول سيئ ، وسوف لن تحصل على أي شيء . قلت لك رتب غرفتك قبل الذهاب للعب " . ماذا تسمى الوالدية عندما تتهم أم ابنها بالولد السيئ عندما يركض في الشارع ؟ هل يستحق معاقبته بهذه التسمية ؟ ألا توجد طريقة أخرى في تحذيره من الركض خشية الدهس مثلاً . إن الوالدين العاقلين يوجهان تحذيراً حازماً لهذا الولد من مغبة ومخاطر هذا السلوك ولكن بدون المساس باحترامه لذاته .
والعمل الأكثر فعالية ، والأقل إيذاء في تربية الولد هو في التمييز بين ما يفعله الولد ، وما هي هويته وذاته . وعدم التمييز بين الفعل والهوية في العملية التربوية هو الذي يخلط الأوراق وتصبح التربية موجهة لتدمير احترام الذات عند الولد وإحساسه بالذنب ، وتعمق مشاعر الصغار والدونية والرفض لذاته .
* لذا لا تخلط السلوك غير المناسب فتنقله إلى ذات الولد وكيانه وشخصه . فالفرق كبير بين السلوك الخاطئ والواجب أن يعيه الولد ، وبين ذاته . فإن أخطأ فهو ليس سيئاً بل سلوكه هو السيئ لذا يجب التركيز على السلوك السيئ وتصحيحه وليس مهاجمة ذات الولد واحترامه .
قل لولدك : سلوكك سيء . ولكن لا تقل له أنت سيء . والفرق كبير بين تسمية الولد : " بالولد الغبي الأناني ، أو المقيت " أو تسمي سلوكه بالأناني ، أو الغبي أو المقيت .
وأخيراً خذ بعين الاعتبار التالي : إذا كانت المشكلات الجزئية البسيطة تتلقى منك عقوبات رئيسية ، فماذا تبقى إذن للمشكلات الكبيرة من عقوبات ؟
• احتفظ بالعقوبة للأعمال العدائية العدوانية .
• فكر ملياً وطويلاً : هل العقوبة التي سأنزلها بولدي تساعده على النمو نمواً صحيحاً وسوياً ، وتجعله قادراً على اتخاذ أحكام مستقلة وصحيحة ، وسوية ، في حياته المستقبلية ؟ .
المصدر : موقع حياتنا النفسية .
|