اطلعت على إحدى مجلات الشعر الشعبي التي تملأ أرفف المكتبات ورأيت شيئاً عجباً! وجدت أن في صفحاتها الأولى مقالاً يدعو الشباب إلى عدم إزعاج البنات بالمعاكسات في الأسواق والشوارع، وحثتهم على احترامهن والكف عن التعرض لهن!!وحقيقة أنني استغربت هذا الطرح من مثل هذه المجلة ومثيلاتها، ولكني ما إن فتحت صفحة أخرى حتى وجدتها قصيدة غزلية غير عادية..وإذا الثالثة تملؤها صورة لفتاة في هيئة حالمة ملأت وجهها بالأصباغ،
والرابعة قصة حب نثرية، وما إن وصلت إلى الأخيرة إلا وفيها من وصف الحرمان ما يثير الشفقة!! بالله عليكم كيف سيكون تصرف من يقرأ هذه المجلة إذا عرضت له فتاة؟ وهل سيغض الطرف عن وجوه المذيعات في القنوات الفضائية في المقاهي امتثالاً لما قرأه في افتتاحية العدد التي تخلو من صورة جذابة وكلام يدغدغ المشاعر والحواس، أم أن الصفحات الستون بما فيها من إغراء الإخراج والألوان هي التي تستقر في ذهنه وتشكل كيفية تصرفه عند أول امتحان يتعرض له في الشارع أو السوق؟
ذكرتني هذه الفوضى في المجلة الشعبية إياها بكلام لأحد وزراء الإعلام السابقين في إحدى الدول العربية وقد سئل عن الإعلام في عهد خلفه فأجاب: "لايزال كما كان سمك لبن تمر هندي"!! كما تأملت في مطبوعة أخرى تبكي على حال المرأة، وتدعو إلى تحريرها في العدد ذاته الذي توضع فيه على الغلاف صورة لفتاة من أجل ضرورات التسويق..أي امتهان للمرأة وكيف يؤخذ بقوله وهو أهانها من أول ورقة؟ ولن تتعب في التعرف على ملامح هذه الفوضى في معظم المنابر الإعلامية اليوم.
برنامج فتاوى يحرم الغناء أو يحث على طاعة الله بعده نقل حي لمهرجان غنائي!! آخر يدعو إلى تماسك الأسرة وتحمل كل من الرجل والمرأة لمسؤولياتهما ثم إحدى المتحررات تريد نقل الفيروس الغربي إلى أرض جديدة بأن تجعل من الرجل عدواً للمرأة! أو تتهم البلاد الإسلامية بانها بلاد ذكورية!!
إن هذه الفوضى التي نعيشها تنتج شخصية غير متجانسة، مفككة، متضاربة التصورات، والنتيجة خلل في الفكر والسلوك، وقلق نفسي وحيرة. والحصيلة أيضاً مجتمعات متناقضة تجمع بين الشئ وضده، وتلم في كيان واحد بين أخلاقيات عالية السمو وبين أخرى تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير السلوك البشري. وهذا التناقض في التوجيه الفكري يسهم بلا شك في شل فاعلية مناهج التعليم والقضاء على توجيهات المربين في المدرسة أو الوالدين في البيت. هذه الفوضى الفكرية لا تدع لتأسيس الفكر والإيمان فرصة لإلتقاط الأنفاس، وتعمل- كونها تخاطب المراهقين- على إيجاد حصانة عكسية ضد التوجيه والتربية التي تنفع هذا الشاب أو تلك الشابة في حاضرهم ومستقبلهم.
والملاحظ أن الأسرة التي تريد أبناء وبنات على قدر من العلم والوعي لا بد أن تبذل جهوداً مضاعفة وحضوراً دائماً كما أنه يتطلب شرحاً دائماً لأسباب الازدواجية في التصرفات والتناقضات المزعجة، وهذا من المتعسر في واقع الحياة اليوم..إن هذا التناقض الذي تعيشه بعض مجتمعات المسلمين صنع خلال عشرات السنين ولا يمكن القضاء عليه في سنة أو سنتين. نظرة واحدة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدلنا كيف وعى نبي الأمة هذه المسألة وحرص على حصر التلقي بمصدر واحد وتربى الصحابة على أن القرآن يهدي للتي هي أقوم فاقتصروا عليه، ولما أراد عمر أن يأخذ من التوراة شيئاً تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم في إشارة واضحة أن التعدد في مصادر التلقى لا يستقيم مع متطلبات النهضة.
إن الحرية في طرح الفكر مهما كان لا يؤدي إلا إلى مزيد من التخبط والفوضوية وانقسام في المجتمع وتأصيل للتمزق، وليس صحيحاً أن الانفتاح بلا حدود يؤدي إلى إثراء العقل البشري. إن البلاد التي سمحت لحرية الخطأ باسم حرية الفكر قد جنت على مجتمعها وشبابها وتسببت من حيث تدري أو لا تدري إلى فوضى عارمة في وجدان أفرادها إلا ما شاء الله.
|