تجفيف المنابع
جملة ينبغي أن نقف عندها قليلًا في رحلتنا مع علاج طغيان الشهوة أخي الشاب، فإذا جففنا منابع المعصية وقطعنا الطرق المؤدية إليها؛ سيكون من الصعب أو من المستحيل أن نقع فيها؛ لأن الوقاية خير من العلاج، وأهم منبعين للشهوة: هما إطلاق البصر، والاسترسال مع الخواطر.
(1) غض البصر
والبصر هو باب القلب الأول، وأقرب الحواس إليه؛ ولذا أراد الله أن يُحكم الإنسان رقابته على هذا الممر، ويفحص ما يدخل منه؛ لأنه سرعان ما يدخل إلى القلب.
والعين التي صبرت عن الحرام؛ يُكتب لها السعادة والفرح، ولا تعرف الدمع أبدًا يوم القيامة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لاترى أعينهم النار يوم القيامة: عين بكت من خشية الله، وعين حرست في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله)) [صححه الألباني].
كما أن العين التي يكفها صاحبها عن محارم الله لا تمسها النار يوم القيامة أبدًا؛ فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله)) [حسنه الألباني].
وأيضًا ـ عزيزي الشاب ـ إذا غضضت بصرك؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يضمن لك الجنة؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) [صححه الألباني].
وتأمل كيف فصل النبي صلى الله عليه وسلم بين حفظ الفرج وغض البصر على الرغم من الترابط الشديد بينهما، وكأنه تأكيد على خطورة غض البصر كمدخل وبريد لما قد يؤدي بعد ذلك إلى عدم حفظ الفرج.
ولنا من سلفنا الصالح القدوة والأسوة في غض البصر؛ فقد ضربوا لنا أروع الأمثلة في هذا الأمر:
فعن أنس رضي الله عنه قال: (إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك) [الورع لابن أبي الدنيا، ص (74)].
وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: ( إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن! قال: اصرف بصرك عنهن؛ [رواه البخاري].
وعن قيس قال: (كان يُقال: النظرة الأولى لا يملكها أحد، ولكنِ الذي يدس النظر دسًّا) [مصنف ابن أبي شيبة، (3/409)], (وعن داود بن أبي هند قال: قال رجل لابن سيرين: أستقبلُ القبلة في الطريق؛ أليس لي النظرة الأولى ثم أصرف عنها بصري؟ قال: أما تقرأ القرآن:[مصنف ابن أبي شيبة، (3/410)].
وقال وكيع بن الجراح: (خرجنا مع الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر) [حلية الأولياء، أبو نعيم، (3/157)].
(وخرج حسان بن عطية رحمه الله إلى العيد فقيل له: ما رأينا عيدًا أكثر نساء منه، فقال: ما تلقتني امرأة منذ خرجتُ، وقالت له امرأته يوم العيد: كم من امرأة مستحسنة نظرت اليوم؟ فلما أكثرت عليه قال: ويحكِ! ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعتُ إليكِ) [ذم الهوى، ابن الجوزي، ص (77)].
وقالَ سُفيانُ: (كان الربيع بن خثيم رحمه الله يغضُّ بصره، فمر نسوة؛ فأطرق بصره حتى ظن النسوة أنه أعمى؛ فتعوذن بالله من العمى) [ذم الهوى، ابن الجوزي، ص(80)].
منافع غض البصر العديدة كما ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله:
(وفي غض البصر عدة منافع:
أحدها: أنه امتثال لأمر الله، الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده؛ وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تعالى.
الثانية: أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
الثالثة: أنه يورث القلب أُنسًا بالله؛ فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله.
الرابعة: أنه يقوِّي القلب ويُفرحه.
الخامسة: أنه يكسب القلب نورًا، وإذا استنار القلب؛ أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية.
السادسة: أنه يورث فِراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، والصادق والكاذب, والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئًا؛ عوضه الله خيرًا منه.
فإذا غض بصره عن محارم الله؛ عوَّضه الله بأن يطلق نور بصيرته مَعْوَضَةً عن حبسه بصره لله، ويُفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفِراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تُنال ببصيرة القلب.
السابعة: إنه يورث القلب ثباتًا وشجاعة وقوة.
فجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة، وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته والذل قرين ، أي: من كان يريد العزة؛ فليطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح, وفي دعاء القنوت: ((إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت)) [صححه الألباني].
الثامنة: أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب؛ فإنه يدخل مع النظرة، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي.
التاسعة: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها.
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر، تطلعك على ما وراءها) [الداء والدواء، ابن القيم، ص(182-185)].
كيف السبيل؟
وإليك عزيزي الشاب، خطوات عملية للتحكم في بصرك:
1- أُحِبُّ أولًا أن نتفق على أمر معين يؤثر بشكل كبير على تحكمك في بصرك وهو مسألة (الجمال النسبي)؛ فمعايير الجمال تختلف من شخص لآخر ومن ذوق إلى ذوق، فأنت على سبيل المثال قد تستهويك ملابس معينة وتكون في نظرك من أجمل الملابس وأكثرها أناقة، ولكن هناك غيرك من يعتقد أن هذه الملابس ليست جميلة بالقدر الكافي، بل وهناك من يعتقد أنها قبيحة.
ولذلك ما تراه أنت جميلًا قد لا يكون جميلًا في نظر الآخرين، أو قد لا يكون جميلًا على الإطلاق.
وأضرب لك مثلًا آخر لتوضيح الصورة أكثر؛ هب أن هناك رجلًا ـ حفظكم الله ـ يدمن المخدرات، فهو يعتقد بأنها أفضل شيء في هذا الكون، ولكن أنت تعرف حقيقة المخدرات؛ وبالتالي لن تقول أبدًا: إن المخدرات ربما تكون جميلة لأن هناك من يعتقد أنها جميلة.
وهكذا أخي الحبيب، ما تراه من منظر يعتقد الكثيرون أنه جميل هو في الحقيقة ليس بالجميل، وإلا فأخبرني بالله عليك: أي جمال في امرأة تغضب الله عز وجل وتعصيه مجاهرة وتتحدى أوامره؟
بل أي جمال في منظر تمتع به قبلك الكثير، وسيتمتع به بعدك أكثر؟
أي جمال في امرأة تعرض نفسها وكأنها سلعة تباع؛ فتبرز مفاتنها لكي تغري المشتري حتى يشتريها؟
أي جمال هذا وهو من فعل الشيطان؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي تخرج من بيتها متزينة ومتعطرة وكأنها تتزين لزوجها فقال صلى الله عليه وسلم: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) [صححه الألباني]، و"استشرفها": أي زينها في نظر الرجال؛ فهل المرأة التي أشرف الشيطان على تزيينها لك ولغيرك تعتبر جميلة مهما كان شكلها؟
فاعرف حقيقة ما تراه؛ تعف عينك عن رؤياه.
2- التحكم في العين وحركتها، فبعض الناس خاصة من اعتادوا على عدم غض أبصارهم إذا تأملوا في أنفسهم؛ سيرون أن أعينهم تقودهم وليسوا هم الذين يقودونها، وترى بصره يذهب يمنة ويسرة.
ويتم ذلك عن طريق تعويد العين أن تنظر في مكان محدد لفترات تطول تدريجيًا؛ حتى يصل المرء إلى أن يحكم نظره على الشيء فلا يكون إلا لحاجة.
3- إذا أفلت منك بصرُك مرة، فأتبع هذه النظرة بطاعة فورية؛ كالاستغفار مئة مرة مثلًا، أو قول "سبحان الله وبحمده" مئة مرة، أو تصدق بصدقة، وهذا العلاج من أنفع العلاجات؛ لأنك تراغم الشيطان فيه، وتجعله بعد ذلك يندم إذا أوقعك في الذنب؛ لأنك تتبعه بالتوبة والمزيد من الحسنات.
4- عاقب نفسك كلما أفلت منك بصرُك بأن تتصدق بمبلغ معين، ويُفضل أن يكون كبيرًا حتى يؤثر في النفس.
5- ضع لنفسك هدفًا تحققه؛ كأن تحاول أن تغض بصرك يومين مثلًا أو أسبوعًا كاملًا، فإذا حققت هدفك فكافئ نفسك أي مكافأة تراها ولو كانت بسيطة، كأن تأكل أكلة تشتهيها، ثم بعد ذلك ضاعف المدة وضاعف المكافأة.
6- خاطب نفسك دائمًا أنها عزيزة ولا ينبغي أن تلتفت إلى هذه الدناءات؛ (فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ) [الفوائد، ابن القيم، ص (113)].
كما أن إطلاق البصر ليس من شيم الرجال؛ كما قال عنترة العبسي:
وأغضُّ طَرْفي حين تبدو جارتي حتى يُواري جارتي مَأواها!
فإذا كان عنترة ـ وهو الذي كان يعيش في الجاهلية ـ يغض بصره؛ فأولى لك ـ عزيزي الشاب المسلم ـ أن تغض بصرك.
وأختم بهذه القصة الطريفة التي حدثت مع أحد أصدقائي، وكيف كان تفكيره في تفاهة هذا الأمر وفي عزة نفسه سببًا في تحكمه في بصره بعد عون الله وتوفيقه: سافر صديقي هذا بعد التزامه بفترة وجيزة إلى بريطانيا مع والده لأمر ما، وكنا نحذره بشدة من الغَرْب، وندعو له بالثبات وأن يعينه الله على الفتن، وكنا نعتقد أنه يخوض امتحانًا غاية في الصعوبة خاصة أنه كان في سن المراهقة.
وبالفعل سافر صديقي مصحوبًا بالدعوات الحارة والقلق الشديد لدى إخوانه على التزامه, وعندما وصل إلى بريطانيا شعر بالخوف الحقيقي؛ لأن هذه المناظر لم يعتدها من قبل، وربما تزل قدمه ويتخلى عن عفته؛ فوقف مع نفسه وقفة وخاطبها بهذا الخطاب الظريف.
(وماذا بعد؟ أتريد أن تنظر إلى بعض اللحم؟ حسنًا فلتذهب إلى الجزار وتشتري لحمًا وتنظر إليه؟ فالنتيجة واحدة في الحالتين، والمآل في النهاية إلى لا شيء).
وبالفعل وجد صديقي أثرًا بالغًا لهذا الخطاب في نفسه، وكلما روادته نفسه أن ينظر إلى المتبرجات خاطبها بهذا الخطاب؛ وبحمد الله عاد من هناك محافظًا على عفته والتزامه, فتفكر أخي الحبيب في تفاهة المعصية وأنها لا تستحق منك المعاناة أو بذل الجهد.
7- استعن بالله عز وجل، وأكثر من الدعاء أن يرزقك العفاف وأن يحفظ عينك من النظر الحرام، ولا تخجل من أن تسأل الله عز وجل أن يعينك على غض بصرك.