لا بد أن تعرف تلك العقبات التي تحول دون النكاح؛ لنتلافى النتائج السيئة التي تترتب على تركه، وإن أهم هذه العقبات فيما أرى ثلاث:
الأولى - عزوف كثير من الشباب الذكور والإناث عن النكاح، أي: أن كثيراً من الشباب الذكور والإناث لا يرغبون في النكاح بحجة أن النكاح يحول بينهم وبين دراستهم، وهذه حجة واهية بل حجة داحضة، فإن النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة أو النجاح فيها والتحصيل، بل ربما يكون النكاح عوناً على ذلك، فإن الإنسان إذا وفق لزوجة صالحة وسادت بينهما روح المودة صار كل واحد منهما عوناً للآخر على دراسته وعلى مشاكل حياته، وأكثر الناس تتكلل زواجاتهم بالتوفيق - ولله الحمد -، وكم من شباب ذكور وإناث رأوا من الراحة وتفرغ الفكر والنفس للدراسة ما كان عوناً لهم عليها، فعلى الشباب الذين اغتروا بهذه الحجة الباطلة أن يعيدوا النظر مرة بعد أخرى؛ حتى يصححوا من خطئهم، وليسألوا زملاءهم الذين تزوجوا ماذا رأوا من الخير والطمأنينة من وراء النكاح، وبهذا تتذلل هذه العقبة، ولتنظر المرأة ماذا يفيدها إذا أكملت دراسة ليست بحاجة إليها في كثير من موادها؟ وفاتتها سعادة النكاح، وعقمت من الأولاد، وأصبحت من الأرامل، ولم تسعد في حياتها ولا أولاد لها يذكرونها بعد وفاتها.
الثانية - احتكار بعض الأولياء الظلمة لبناتهم ومن لهم ولاية تزويجهن، أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله، ولا يرعون أمانتهم، ولا يرحمون عباد الله، أولئك الأولياء الذين اتخذوا من ولايتهم على تلك المرأة الضعيفة مورداً للكسب المحرم، وأكل المال بالباطل، تجد الخاطب الكفء في دينه وخلقه يخطب منهم فيفكرون ويقدرون ثم يقولون الكلمة الأخيرة البنت فائتة، البنت صغيرة، شاورتها فأبت وهو كاذب في ذلك، لكنه يرتكب هذه الأقوال الكاذبة يفتريها، يرد ذلك الخاطب الكفء إما لعقد نفسية تثقل عليه الإجابة، وإما لطلب مال يحصله من وراء ولايته، وإما لعداوة شخصية بينه وبين الخاطب.
إن الولاية دين وأمانة يجب النظر فيها على مصلحة المولى عليه لا على أغراض الولي، إن دفع الخاطب للكفء في دينه وخلقه بمثل هذه الأقوال الكاذبة والعلل الباطلة إنما هو معصية لله ورسوله، وخيانة للأمانة، وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته، وسوف يحاسب على ذلك يوم القيامة، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88-89]، ولقد حدثني بعض من أثق به أن رجلا كان يمنع الخطاب من بناته، وأن إحداهن مرضت من أجل هذا، فلما كانت في سياق الموت قالت لمن حولها من النساء: أبلغن أبي السلام وقلن له: إن بيني وبينه الله والموقف يوم القيامة بيننا وليس ببعيد، فتأمل هذه المسكينة التي كانت في سياق الموت تحاسب والدها؛ لأنه - والعياذ بالله - يمنع الكفء فلا يقبل الخطبة، أفلا يكون عند هذا وأمثاله دين ورحمة؟ أفلا يفكر الواحد منهم لو أن أحداً منعهم النكاح مع رغبتهم فيه فماذا يكون رد الواحد منهم؟ أفلا يعتبر بذلك فيمن تحت يده من النساء الراغبات في النكاح وهو يمنعهن الأكفاء خلقاً وديناً؟ سبحان الله! ماذا جنى هؤلاء الأولياء على أنفسهم وماذا جنوا على من تحت ولايتهم؟ ولقد أوجد أهل العلم - رحمهم الله - تذليلاً لهذه العقبة حيث قالوا: إن الولي إذا امتنع من تزويج موليته كفئاً ترضاه فإن ولايته تسقط وتكون لمن بعده، فمثلاً لو امتنع أبو المرأة من تزويجها كفئاً في دينه وخلقه وقد رضيت به ورغبت فيه فإنه يزوجها أولى الناس بها بعده، فإن كان لها جد زوجها، وإن لم يكن لها جد زوجها أخوها أو عمها أو غيرهم ممن له ولاية، الأولى فالأولى، فإن أبوا كلهم خوفاً من أبيها فإن الولاية تنتقل عنهم إلى القاضي الشرعي فيزوجها رغماً عن أنوف أوليائها؛ وذلك لأن النكاح حق للمرأة وليس حقاً لأبيها ولا لأخيها ولا لابنها ولا لأحد من أقاربها، نعم، لو كان الخاطب غير كفء في دينه فرضيته المرأة وأبى وليها فله الحق في ذلك ولا إثم عليه، ولو بقيت لم تتزوج إلى الموت؛ لأن إباءه تزويجها لمصلحتها ومن مقتضى أمانته.
الثالثة- غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها، حتى صار النكاح من الأمور المستحيلة أو الشاقة جداً لدى كثير من الراغبين في الزواج، إلا بديون تشغل ذمته وتذله فتجعله أسيراً لدائنه، وإن تذليل هذه العقبة أن يفكر ذووا الرأي من الأولياء ما هو المقصود بالنكاح؟ وما هي مكانة المرأة التي جعلك الله ولياً عليها؟ هل المقصود بالنكاح المال؟ هل المرأة سلعة تباع أو تمنع بحسب ما يبذل فيها من المال؟ كل هذا لم يكن، فليس المقصود بالنكاح المال، وإنما المال وسيلة إليه، وليست المرأة سلعة بل هي أمانة عظيمة وجزء من أهلها، هي بضعة من أبيها، وإذا فكرنا هذا التفكير وبلغنا هذه النتيجة عرفنا أن المال لا قيمة له، وأن المغالاة في المهور ونفقات الزواج لا مبرر لها، فلنرجع إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وما كان عليه أصحابه، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أَلا لا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلاكُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَصْدَقَ قَطُّ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلا مِنْ بَنَاتِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"، وإن الرجل ليغلو في صداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول كلفت إليك علق القربة، أي: تكلفت كل شيء عندي إليك حتى علق القربة وهو: الحبل الذي تعلق به، فإذا رجعنا إلى ما كان عليه السلف الصالح من تقليل المهور تيسرت أمور الزواج، وعظمت بركاته، وانتفع بذلك الرجال والنساء، إن هذه المغالاة في المهور تُوجب تعطل كثير من الرجال والنساء عن النكاح، أو محاولة الزواج من الخارج الذي قد يسبب له مصاعب ومتاعب كثيرة، وربما يحصل به تغيير المجتمع في عاداته وأحواله وربما في عباداته وعقائده؛ لأن للخلطة تأثيراً كثيراً في تغيير هذه الأمور.
إن المهر إذا كان كبيراً فإن الرجل مهما كان بالنسبة لزوجته سوف يضيق صدره إذا تذكر عظم هذا الصداق، ولا سيما إن كان ديناً، وإذا حصل بينهما مشكلة فإنه لا يمكن أن يفارقها؛ لأنه خسر عليها خسائر كبيرة إلا أن يعطوه مهره، وهم ربما قد يكونون فقراء وقد أخرجوا المهر في أمور أخرى.
إن كثيراً من الأولياء - الآباء أو غيرهم - يشترطون على الزوج الخاطب مالاً يدفعه إليهم، وسيكون هذا المال بالتأكيد على حساب مهر المرأة، وهذا أكل للمال بالباطل، فالمهر كله للزوجة ليس لأبيها ولا لأخيها ولا لعمها ولا لأحد من أوليائها ليس له فيه حق، المهر كله للزوجة، واسمعوا الله - تعالى - يقول:(وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء: 4]، فأضاف الله الصداق إليهن، وجعل التصرف فيه إليهن، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال:"أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح - أي: بعد عقده - فإنه لمن أعطيه"(6)، فلا يشترط شيئاً من مهر المرأة ولا من غير مهر المرأة على الزوج، إنه ليس لكم حق في ذلك، إنكم إن فعلتم أكلتم المال بالباطل، دعوا مهور النساء لهن، إنكم إن اشترطتم لأنفسكم شيئاً منه فإنه اقتطاع بغير حق، وسبب للتلاعب بولاية النكاح؛ حيث يلاحظ الولي هذا الشرط فيزوج من يعطيه أكثر ويمنع من لا يعطيه، ضارباً بمصلحة وليته عرض الحائط، وهذا إهدار للأمانة وخيانة للولاية، و(لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 27-28