الجزء الثاني: ((فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ))
كيف نغرس الحياء في نفس الفتاة؟
سؤال أحتاج إلى كثير من البحث للإجابة عنه، فلم أجد جوابًا شافيًا إلا في النصوص النبوية التي تشير بومضات إلى كيفية بناء الحياء في النفوس والوسائل المستخدمة لذلك.
[1] الوقفة الأولى مع الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) [صححه الألباني].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) [متفق عليه].
انظري إلى تفسير الإمام أبي عبيد الهروي لهذا الحديث بقوله: (معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، ومن يستحي يتعفف عن فعل كل قبيح، ونجد هنا الارتباط الوثيق بين الحياء والإيمان).
ولما كان الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن الحياء يزيد وينقص، يزيد بالطاعات المؤكدة على معنى الحياء، وينقص بالمعاصي التي تخدش الحياء.
ويؤكد هذا المعنى ما رواه الحاكم في مستدركه: ((الحياء والإيمان قرناء جميعًا؛ فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) [صححه الألباني]، إذن فنفهم من الحديث أن من وسائل بناء الحياء في النفوس زيادة الإيمان، وبالتالي عليك أيتها الفتاة العناية الشديد بوسائل الثبات عل دين الله.
[2] الوقفة الثانية:
ما ورد في صحيح البخاري في كتاب الأدب، عن بشير بن كعب في قوله: (مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينة) [صححه الألباني].
(قال القرطبي: معنى كلام بشير: أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار؛ بأن يوقر غيره ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة) [فتح الباري، ابن حجر].
وبذا نصل إلى وسيلة أخرى من وسائل غرس الحياء؛ وهي الوقار والسكينة.
بمعنى أن توقري غيرك أيتها الفتاة وتوقري نفسك باحترامها، ولا تكوني كمن لا تراعي قيمًا ولا تقاليدًا ولا أعرافًا؛ فتصوني نفسك عن كل ما يهين نفسك.
وأيضًا يعني أن تسكن عن كثير من الأفعال التي يُعاب على صاحبتها، ونراها الآن كثيرة منها: لبس الضيق والشفاف، والمعاكسات في التليفون، والصداقات التي يزعمن أنها بريئة مع الشباب، والروائح في الطرقات، وغير ذلك كثير ومشاهد.
والفتاة المسلمة لها شخصيتها وسمتها، ولا تكون إمعة تجري وراء كل ناعق أو تقليد كل سفيهة، وتقول: (كل البنات هكذا، إن أحسن أحسنت وإن أسأن أسأت)، ولكن عودي نفسك إن أحسن الناس أن تحسني، وإن أساءوا أن تتجنبي إساءتهم.
[3] الوقفة الثالثة:
عن أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه قال: (الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير؛ فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء) [رياض الصالحين].
عزيزتي الفتاة:
إن النفس مجبولة على الحياء ممن أسدى إليها معروفًا، ومجبولة أيضًا على رد النعمة بمثلها، فمن الأمور التي تعظم الحياء في نفسك استشعار عظم نعم الله عليك بغير أداء لحقها ورد بمثلها، فهل تقابلي هذه النعم بالجرأة على الله سبحانه وعدم الأدب معه؟! فهذا الشعور يولد الحياء.
[4] الوقفة الرابعة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استحيوا من الله حق الحياء)).
قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله.
قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) [صححه الألباني].
((استحيوا)): الألف والسين والتاء في اللغة للطلب؛ أي اسعوا وابذلوا الجهد في طلب تحصيل منزلة حق الحياء، والمراد هنا هو الحياء المكتسب الذي أُمِرنا بتحصيله وبذل الجهد لتحصيل أعلى مراتبه.
وينبهنا هنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحياء ـ وهو خلق قلبي ـ لا بد وأن يبدو أثره على الجوارح.
((الرأس وما وعى)): أي الأنف والأذن واللسان والعين ويشمل أيضًا الفكر، فعليك أيتها الفتاة أن تحفظي هذه الجوارح عن المعصية، ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا)) [الإسراء:36]، واتخذي هذه الجوارح وسيلة لإرضاء الله، لا وسيلة للجرأة على محارم الله وسببًا لغضب الله عليكِ.
((البطن وما حوى)): أي الحياء في طيب المطعم وطهارة اليد.
((ذكر الموت والبلى)): وهو الشعور بأن الآخرة حاضرة عيان ليست غيبًا بعيدًا، ومن وسائل تحقيق الحياء تذكرك بملاقاة الله والملائكة، وإذا تذكرت أن الله سيقبضك على خاتمتك التي كنت تعملين وما كنت تفكرين فيه في الدنيا فيزيد الشعور بالحياء في قلبك.
((ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى)): فالحيية تشعر بالقيمة الحقيقية للدنيا وتؤثر الآخرة عليها، وتحاسب على أفعالها، وتستحي من الله أن تُرى في غير ما يحب الله، ومن الملائكة التي تسجل أعمالها.
وقد نبه سبحانه وتعالى على هذا المعنى بقوله: ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ[10]كِرَاماً كَاتِبِينَ[11]يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)) [الانفطار:10-12]، (أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم، فإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان يعمل مثل عمله فما الظن بأذى الملائكة؟) [الجواب الكافي، ابن القيم].
وبذلك تصل إلى درجة الإحسان وهي أعلى المراتب في الإيمان كما جاء في الحديث الشريف تعريف الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [رواه مسلم].
عزيزتي الفتاة المسلمة...
((إن الله عز وجل حليم حيي ستير، يحب الحياء والستر)) [صححه الألباني]، كما ورد في صحيح سنن النسائي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح يحل معها التكشف والفضائح.
واعلمي أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وزوال النعمة تكون في معصيته.
فأي جهل وحمق وظلم للنفس إذا تخليت عن حيائك وطاعتك لربك.
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
ولك في رسول الله أسوة حسنة؛ حيث وصف لنا أبو سيعد الخدري الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذارء في خدرها) [متفق عليه].
أليس حريًا بك أن تكوني في حياء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رجل وأنت امرأة؟
ألا تـتشبهين بإحدى ابنتي شعيب التي كرمها الله بذكرها في القرآن ووصفها بهذا الخلق الكريم خلق الحياء عندما قال تعالى: ((فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)) [القصص:25].
فتاتي .. ابذلي الجهد واعزمي وجاهدي نفسك لتصلي إلى مرتبة الحياء الحق.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69].