وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } يعني جل ثناؤه بذلك : وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم ذو عسرة , يعني معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء , فأنظروهم إلى ميسرتهم . وقوله : { ذو عسرة } مرفوع " ب " كان , فالخبر متروك , وهو ما ذكرنا , وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها , ولو وجهت كان في هذا الموضع إلى أنها بمعنى الفعل المكتفي بنفسه التام , لكان وجها صحيحا , ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم , فنظرة إلى ميسرة . وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : " وإن كان ذا عسرة " بمعنى : وإن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا لخلافه خطوط مصاحف المسلمين . وأما قوله : { فنظرة إلى ميسرة } فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة , كما قال : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام } 2 196 وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل , فأغنى عن تكريره . والميسرة : المفعلة من اليسر , مثل المرحمة والمشأمة . ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة , فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم , فيصير من أهل اليسر به . وبنحو الذي قلنا في ذلك , قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 4915 - حدثني واصل بن عبد الأعلى , قال : ثنا محمد بن فضيل , عن يزيد بن أبي زياد , عن مجاهد , عن ابن عباس في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : نزلت في الربا . 4916 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : ثنا هشام , عن ابن سيرين : أن رجلا خاصم رجلا إلى شريح قال : فقضى عليه , وأمر بحبسه . قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر , والله يقول في كتابه : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا , وإن الله قال في كتابه : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } 4 58 ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه . 4917 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا مغيرة , عن إبراهيم في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : ذلك في الربا . 4918 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا مغيرة , عن الحسن : أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق , فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان إن كنت موسرا فأد , وإن كنت معسرا فإلى ميسرة . * - حدثنا يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن أيوب , عن محمد , قال : جاء رجل إلى شريح , فكلمه , فجعل يقول : إنه معسر , إنه معسر , قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس . فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار , فأنزل الله عز وجل : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وقال الله عز وجل : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } 4 58 فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه , أدوا الأمانات إلى أهلها . 4919 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن سعيد , عن قتادة في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله . 4920 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر , وليست النظرة في الأمانة , ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها . 4921 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وإن كان ذو عسرة فنظرة } برأس المال , { إلى ميسرة } يقول : إلى غنى . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال ابن عباس : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } هذا في شأن الربا . 4922 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ , قال : أخبرنا عبيد بن سلمان , قال : سمعت الضحاك في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } هذا في شأن الربا , وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون , فلما أسلم من أسلم منهم , أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم . 4923 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } يعني المطلوب . 4924 - حدثني ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن إسرائيل , عن جابر , عن أبي جعفر في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : الموت . * - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا إسرائيل , عن جابر , عن محمد بن علي , مثله . * - حدثني المثنى , قال : ثنا قبيصة بن عقبة , قال : ثنا سفيان , عن المغيرة , عن إبراهيم : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : هذا في الربا . 4925 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا شريك , عن منصور , عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة , قال : إلى الموت أو إلى فرقة . * - حدثنا أحمد , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا هشيم , عن مغيرة , عن إبراهيم : { فنظرة إلى ميسرة } . قال : ذلك في الربا . 4926 - حدثنا أحمد , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا مندل , عن ليث , عن مجاهد : { فنظرة إلى ميسرة } . قال : يؤخره ولا يزد عليه , وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه وأخره . 4927 - وحدثنا أحمد بن حازم , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا مندل , عن ليث , عن مجاهد : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : يؤخره ولا يزد عليه . وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا . ذكر من قال ذلك : 4928 - حدثني يحيى بن أبي طالب , قال : أخبرنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك , قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة , وأن تصدقوا خير لكم ; قال : وكذلك كل دين على مسلم , فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه , وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك . 4929 - حدثني علي بن حرب , قال : ثنا ابن فضيل , عن يزيد بن أبي زياد , عن مجاهد , عن ابن عباس : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : نزلت في الدين . والصواب من القول في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية , فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم , فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا , وبقبض رءوس أموالهم , ممن كان منهم من غرمائهم موسرا , وإنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له , فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا , ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه , أو لزمه من قبل الإرباء إليه إن كان موسرا , وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته , وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه . غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا وإياهم عنى بها , فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه , وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته , لأن دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته , فإذا عدم ماله , فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع , وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه , أو في ذمته يقضيه من ماله , أو في مال له بعينه ; فإن يكن في مال له بعينه , فمتى بطل ذلك المال وعدم , فقد بطل دين رب المال , وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته , فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه , فقد بطل دين رب الدين , وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك , وذلك أيضا لا يقوله أحد , فقد تبين إذ كان ذلك كذلك أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله , فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته , لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا , وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل , لأنه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل , فيعاقب بظلمه إياه بالحبس .
وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } . يعني جل وعز بذلك : وأن تتصدقوا برءوس أموالكم على هذا المعسر , خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر , { إن كنتم تعلمون } موضع الفضل في الصدقة , وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , فقال بعضهم : معنى ذلك : وأن تصدقوا برءوس أموالكم على الغني والفقير منهم خير لكم . ذكر من قال ذلك : 4930 - حدثني بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية ; فأما الربح والفضل فليس لهم , ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا . { وأن تصدقوا خير لكم } . يقول وإن تصدقوا بأصل المال , خير لكم . 4931 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن سعيد عن قتادة : { وأن تصدقوا } أي برأس المال فهو خير لكم . 4932 - وحدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن مغيرة , عن إبراهيم : { وأن تصدقوا خير لكم } قال : من رءوس أموالكم . * - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا يحيى , عن سفيان , عن المغيرة , عن إبراهيم بمثله . * - حدثني المثنى , قال : ثنا قبيصة بن عقبة , قال : ثنا سفيان , عن مغيرة , عن إبراهيم : { وأن تصدقوا خير لكم } قال : أن تصدقوا برءوس أموالكم . وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم ; نحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك : 4933 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وأن تصدقوا خير لكم } قال : وأن تصدقوا برءوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم , فتصدق به العباس . 4934 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم } يقول : وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك . 4935 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ , قال أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك في قوله : { وأن تصدقوا خير لكم } يعني على المعسر , فأما الموسر فلا , ولكن يؤخذ منه رأس المال , والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل . 4936 - حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو بن عون , قال : أخبرنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك : وأن تصدقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة , فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة . 4937 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم } قال : من النظرة { إن كنتم تعلمون } . * - حدثني يحيى بن أبي طالب , قال : أخبرنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك : { فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم } والنظرة واجبة , وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة , والصدقة لكل معسر ; فأما الموسر فلا . وأولى التأويلين بالصواب , تأويل من قال معناه : وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم ; لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين , وإلحاقه بالذي يليه أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه . وقد قيل : إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت من القرآن . ذكر من قال ذلك : 4938 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا ابن أبي عدي , عن سعيد , وحدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن سعيد , عن قتادة , عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا , وإن نبي الله قبض قبل أن يفسرها , فدعوا الربا والريبة . 4939 - حدثنا حميد بن مسعدة , قال : ثنا بشر بن المفضل , قال : ثنا داود , عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام , فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : أما بعد : فإنه والله ما أدري , لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم , وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم ; وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلا آيات الربا , فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا , فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم . 4940 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة , قال : ثنا قبيصة , قال : ثنا سفيان الثوري , عن عاصم , عن الأحول , عن الشعبي , عن ابن عباس , قال : آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا , وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا , وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس .