وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } يعني بقوله جل ثناؤه : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا , فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم , وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق ! فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم . ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم ; لأن اليهودية ضد النصرانية , والنصرانية ضد اليهودية , ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة , واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك , إلا أن تكون يهوديا نصرانيا , وذلك مما لا يكون منك أبدا , لأنك شخص واحد , ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة . وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل , لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل . وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل , فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل , وأما الملة فإنها الدين وجمعها الملل .
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } { إن هدى الله هو الهدى } يعني أن بيان الله هو البيان المقنع والقضاء الفاصل بيننا , فهلموا إلى كتاب الله وبيانه الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه , وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله , يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل , وأينا أهل الجنة , وأينا أهل النار , وأينا على الصواب , وأينا على الخطأ ! وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه , لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى , وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم , وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به .
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } . يعني جل ثناؤه بقوله : { ولئن اتبعت } يا محمد هوى هؤلاء اليهود والنصارى , فيما يرضيهم عنك من تهود وتنصر , فصرت من ذلك إلى إرضائهم , ووافقت فيه محبتهم من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم , ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة , { ما لك من الله من ولي } . يعني بذلك : ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك , وقيم يقوم به , ولا نصير ينصرك من الله , فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته , ويمنعك من ذلك أن أحل بك ذلك ربك . وقد بينا معنى الولي والنصير فيما مضى قبل . وقد قيل إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ; لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها , وقال كل حزب منهم : إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه غيرنا من سائر الملل . فوعظه الله أن يفعل ذلك , وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم .