وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ
القول في تأويل قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } فقال بعضهم : عنى بذلك النصارى . ذكر من قال ذلك : 1544 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله جل وعز : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } قال : النصارى تقوله . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله ; وزاد فيه { وقال الذين لا يعلمون } النصارى . وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك : 1545 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يونس بن بكير . وحدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة بن الفضل , قالا جميعا : ثنا محمد بن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد , قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس , قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت رسولا من عند الله كما تقول , فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه ! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } الآية كلها . وقال آخرون : بل عنى بذلك مشركي العرب . ذكر من قال ذلك : 1546 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } وهم كفار العرب . 1547 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } قال : هم كفار العرب . 1548 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } أما الذين لا يعلمون : فهم العرب . وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل : إن الله تعالى عنى بقوله : { وقال الذين لا يعلمون } النصارى دون غيرهم ; لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم , وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا . فقال جل ثناؤه , مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله : { اتخذ الله ولدا } تمنوا على الله الأباطيل , فقالوا جهلا منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون : لولا يكلمنا الله كما يكلم رسوله وأنبياءه , أو تأتينا آية كما أتتهم ! ولا ينبغي الله أن يكلم إلا أولياءه , ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده . فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له , فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه , أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه . وقال الزاعم : إن الله عنى بقوله : { وقال الذين لا يعلمون } العرب , فإنه قائل قولا لا خبر بصحته ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب . والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه , لأنه ادعى ما لا برهان على صحته , وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد . وأما معنى قوله : { لولا يكلمنا الله } فإنه بمعنى : هلا يكلمنا الله ! كما قال الأشهب بن رميلة :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
بمعنى : فهلا تعدون الكمي المقنع ؟ كما : 1549 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { لولا يكلمنا الله } قال : فهلا يكلمنا الله . قال أبو جعفر : فأما الآية فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة . وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : هلا تأتينا آية على ما نريده ونسأل , كما أتت الأنبياء والرسل ! فقال عز وجل : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } .
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } . اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } , فقال بعضهم في ذلك بما : 1550 - حدثني به محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } هم اليهود . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { قال الذين من قبلهم } اليهود . وقال آخرون : هم اليهود والنصارى , لأن الذين لا يعلمون هم العرب . ذكر من قال ذلك : 1551 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة : { قال الذين من قبلهم } يعني اليهود والنصارى وغيرهم . 1552 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : قالوا يعني العرب , كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم . 1553 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } يعني اليهود والنصارى . قال أبو جعفر : قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } هم النصارى , والذين قالت مثل قولهم هم اليهود , وسألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة , وأن يسمعهم كلام ربهم , كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا , وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم , وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات . فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها , وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله . فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه , فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه , وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام . وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد . 1554 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { تشابهت قلوبهم } قلوب النصارى واليهود . وقال غيره : معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم . ذكر من قال ذلك : 1555 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { تشابهت قلوبهم } يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم . 1556 - حدثني المثنى , ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { تشابهت قلوبهم } يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم . وغير جائز في قوله : { تشابهت } التثقيل , لأن التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله : " تفاعل " , وإن ثقلت صارت تاءين ; ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد , وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما , لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال , والأخرى منها التي في " تفاعل " , ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل فيقال : تشابه بعد اليوم قلوبنا . فمعنى الآية : وقالت النصارى الجهال بالله وبعظمته : هلا يكلمنا الله ربنا كما كلم أنبياءه ورسله , أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد ؟ قال الله جل ثناؤه : فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم , قال من قبلهم من اليهود , فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة , ويؤتيهم آية , واحتكموا عليه وعلى رسله , وتمنوا الأماني . فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله , كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها .
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } . يعني جل ثناؤه بقوله : { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير , وأعد لهم العذاب المهين في معادهم , والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا , وأعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة , والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها . فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك , وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون ; لأنهم أهل التثبت في الأمور , والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة . فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه , ويعلم حقيقة الأمر ; إذ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه , وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه . وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب , وذلك منفي عن خبر الله عز وجل .