وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت , لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل والموت بهم حال , ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل وهم به مكذبون , وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر , فهم يحذرون أن يتمنوا الموت خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب , كالذي : 1306 - حدثني محمد بن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : حدثني محمد بن إسحاق , قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر , عن سعيد بن جبير أو عكرمة , عن ابن عباس : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } الآية , أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب , فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } أي لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك . 1307 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , قال : ثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك عن ابن عباس : { ولن يتمنوه أبدا } يقول : يا محمد ولن يتمنوه أبدا لأنهم يعلمون أنهم كاذبون , ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي , فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم . 1308 - حدثني القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج قوله : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } وكانت اليهود أشد فرارا من الموت , ولم يكونوا ليتمنوه أبدا . وأما قوله : { بما قدمت أيديهم } فإنه يعني به بما أسلفته أيديهم . وإنما ذلك مثل على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها , فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها : نالك هذا بما جنت يداك , وبما كسبت يداك , وبما قدمت يداك ; فتضيف ذلك إلى اليد , ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد . قال : وإنما قيل ذلك بإضافته إلى اليد ; لأن عظم جنايات الناس بأيديهم , فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى أيديهم حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده إلى أنها عقوبة على ما جنته يده , فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب : { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } يعني به : ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم من حياتهم من كفرهم بالله في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله , وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة , ويعلمون أنه نبي مبعوث . فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم وأضمرته أنفسهم ونطقت به ألسنتهم من حسد محمد صلى الله عليه وسلم , والبغي عليه , وتكذيبه , وجحود رسالته إلى أيديهم , وأنه مما قدمته أيديهم , لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها , إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها . وروي عن ابن عباس في ذلك ما : 1309 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثمان بن سعيد , قال : ثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس : { بما قدمت أيديهم } يقول : بما أسلفت أيديهم . 1310 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج : { بما قدمت أيديهم } قال : إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
وأما قوله : { والله عليم بالظالمين } فإنه يعني جل ثناؤه : والله ذو علم بظلمة بني آدم : يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها , وما يعملون . وظلم اليهود كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه , وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم . وقد دللنا على معنى الظالم فيما مضى بما أغنى عن إعادته .