ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
القول في تأويل قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } يعني بذلك كفار بني إسرائيل , وهم فيما ذكر بنو أخي المقتول , فقال لهم : ثم قست قلوبكم : أي جفت وغلظت وعست , كما قال الراجز :
وقد قسوت وقسا لداتي
يقال : قسا وعسا وعتا بمعنى واحد , وذلك إذا جفا وغلظ وصلب , يقال منه : قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقساء . ويعني بقوله : { من بعد ذلك } من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي ادارءوا في قتله . فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها أنهم فيما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله , فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته بعد إخباره إياهم بذلك , وبعد ميتته الثانية . كما : 1088 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال : لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا , فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قبض , فقال بنو أخيه حين قبض : والله ما قتلناه . فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه , فقال الله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } يعني بني أخي الشيخ , { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } . 1089 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } يقول : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى , وبعد ما أراهم من أمر القتيل ما أراهم , فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
القول في تأويل قوله تعالى : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } . يعني بقوله : { فهي } قلوبكم . يقول : ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم , فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة , أو أشد صلابة ; يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حق الله عليهم , والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة . فإن سأل سائل فقال : وما وجه قوله : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } وأو عند أهل العربية إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك , والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك ؟ قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه , ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عباده الذين هم أصحابها الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم , وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا : فقال بعضهم : إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب " أو " , كقوله : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } 37 147 وكقول الله جل ذكره : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } 34 24 فهو عالم أي ذلك كان . قالوا : ونظير ذلك قول القائل : أكلت بسرة أو رطبة , وهو عالم أي ذلك أكل ولكنه أبهم على المخاطب , كما قال أبو الأسود الدؤلي :
أحب محمدا حبا شديدا
وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه
ولست بمخطئ إن كان غيا
قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد , ولكنه أبهم على من خاطبه به . وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله ! ثم انتزع بقول الله عز وجل { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } 34 24 فقال : أو كان شاكا من أخبر بهذا في الهادي من الضلال ؟ وقال بعضهم : ذلك كقول القائل : ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا , وقد أطعمه النوعين جميعا . فقالوا : فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما , ولكنه أراد الخير عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين . قالوا : فكذلك قوله : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } إنما معناه : فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة , وإما أن تكون أشد منها قسوة . ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة , وبعضها أشد قسوة من الحجارة . وقال بعضهم : " أو " في قوله : { أو أشد قسوة } بمعنى : وأشد قسوة , كما قال تبارك وتعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } 76 24 بمعنى : وكفورا . وكما قال جرير بن عطية :
نال الخلاقة أو كانت له قدرا
كما أتى ربه موسى على قدر
يعني نال الخلافة وكانت له قدرا . وكما قال النابغة :
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا أو نصفه فقد
يريد ونصفه وقال آخرون : " أو " في هذا الموضع بمعنى " بل " , فكان تأويله عندهم فهي كالحجارة بل أشد قسوة , كما قال جل ثناؤه : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } 37 147 بمعنى : بل يزيدون . وقال آخرون : معنى ذلك : فهي كالحجارة أو أشد قسوة عندكم . قال أبو جعفر : ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب , غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا , ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى : فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشد , على تأويل أن منها كالحجارة , ومنها أشد قسوة ; لأن " أو " وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن , فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين , فتوجيهها إلى أصلها من وجد إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها ومعناها المعروف لها . قال : وأما الرفع في قوله : { أو أشد قسوة } فمن وجهين : أحدهما أن يكون عطفا على معنى الكاف التي في قوله : { كالحجارة } لأن معناها الرفع , وذلك أن معناها معنى مثل : فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة . والوجه الآخر : أن يكون مرفوعا على معنى تكرير " هي " عليه فيكون تأويل ذلك : فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة .
وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } . يعني بقوله جل ذكره : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار , فاستغنى بذكر الماء عن ذكر الأنهار , وإنما ذكر فقال " ومنه " للفظ " ما " . والتفجر : التفعل من فجر الماء , وذلك إذا تنزل خارجا من منبعه , وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك , ومنه قول عمر بن لجأ :
ولما أن قرنت إلى جرير
أبى ذو بطنه إلا انفجارا
يعني : إلا خروجا وسيلانا .
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } . يعني بقوله جل ثناؤه وإن من الحجارة تشقق . وتشققها : تصدعها . وإنما هي : لما يتشقق , ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة . وقوله : { فيخرج منه الماء } فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية .
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } . قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن من الحجارة لما يهبط : أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته . وقد دللنا على معنى الهبوط فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وأدخلت هذه اللامات اللواتي في " ما " توكيدا للخبر . وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به من أن منها المتفجر منه الأنهار , وأن منها المتشقق بالماء , وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل مثلا , معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والجحود لآياته بعد الذي أراهم من الآيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر , ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار ومنه ما يتشقق بالماء ومنه ما يهبط من خشية الله , فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق . كما : 1090 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك : 1091 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } قال : كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء , أو يتردى من رأس جبل , فهو من خشية الله عز وجل , نزل بذلك القرآن . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله . 1092 - حدثني بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم , فقال : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أحبرنا معمر , عن قتادة مثله . 1093 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قال : ثم عذر الله الحجارة قال : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } . 1094 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج أنه قال : فيها كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردى من جبل , فمن خشية الله نزل به القرآن . ثم اختلف أهل النحو في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله . فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله : تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه . وقال بعضهم : ذلك كان منه ويكون بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم , فعقل طاعة الله فأطاعه ; كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فلما تحول عنه حن . وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن " . وقال آخرون : بل قوله : { يهبط من خشية الله } كقوله : { جدارا يريد أن ينقض } ولا إرادة له , قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله , كما قال زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له يريد أنه ذليل
: ساجد المنخر لا يرفعه
خاشع الطرف أصم المستمع
وكما قال جرير بن عطية :
لما أتى خبر الرسول تضعضعت
سور المدينة والجبال الخشع
وقال آخرون : معنى قوله : { يهبط من خشية الله } أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه كما قيل : ناقة تاجرة : إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها , كما قال جرير بن عطية :
وأعور من نبهان أما نهاره
فأعمى وأما ليله فبصير
فجعل الصفة لليل والنهار , وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه , من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل , فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها ; فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها . وقد دللنا فيما مضى على معنى الخشية , وأنها الرهبة والمخافة , فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع .
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } . يعني بقوله : { وما الله بغافل عما تعملون } وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود , عما تعملون من أعمالكم الخبيثة وأفعالكم الرديئة ; ولكنه يحصيها عليكم , فيجازيكم بها في الآخرة أو يعاقبكم بها في الدنيا . وأصل الغفلة عن الشيء : تركه على وجه السهو عنه والنسيان له , فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة ولا ساه عنها , بل هو لها محص , ولها حافظ .