أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى
القول في تويل قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى , وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه , والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك , فنذكر ما قالوا فيه , ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله . 321 - حدثنا محمد بن حميد , قال : حدثنا سلمة بن الفضل , عن محمد بن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي الكفر بالإيمان . 322 - وحدثني موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . 323 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } : استحبوا الضلالة على الهدى . 324 - وحدثني محمد بن عمرو , قال : حدثنا أبو عاصم , قال : حدثنا عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } آمنوا ثم كفروا . * وحدثنا المثنى , قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله . قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى , وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشتري مكان الثمن المشترى به , فقالوا : كذلك المنافق والكافر قد أخذا مكان الإيمان الكفر , فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى , وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها وأما الذين تأولوا أن معنى قوله : " اشتروا " : " استحبوا " , فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى , فقال : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } 41 17 صرفوا قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } إلى ذلك وقالوا : قد تدخل الباء مكان " على " , و " على " مكان الباء , كما يقال : مررت بفلان ومررت على فلان بمعنى واحد , وكقول الله جل ثناؤه : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } 3 75 أي : على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه : { اشتروا } إلى معنى " اختاروا " , لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا , و " اشتريته " يعنون اخترته عليه . ومن الاشتراء قول أعشى بني ثعلبة :
فقد أخرج الكاعب المشترا
ة من خدرها وأشيع القمارا
يعني بالمشتراة : المختارة . وقال ذو الرمة في الاشتراء بمعنى الاختيار :
يذب القصايا عن شراة كأنها
جماهير تحت المدجنات الهواضب ش يعني بالشراة : المختارة . وقال آخر في مثل ذلك :
إن الشراة روقة الأموال /و وحزرة القلب خيار المال
قال أبو جعفر : وهذا وإن كان وجها من التأويل فلست له بمختار لأن الله جل ثناؤه قال { فما ربحت تجارتهم } فدل بذلك على أن معنى قوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض على عوض . وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا , فإنه لا مؤنة عليهم لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم , لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيمان , واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع , ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ولا دخلوا في ملة الإسلام , أو ما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم إلى أن أتى على صفتهم إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به , خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين , وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون , لقول الله جل جلاله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ثم اقتص قصصهم إلى قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟ . فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر , فلذلك قيل لهم : اشتروا ; فإن ذلك تأويل غير مسلم له , إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره , وقد يكون بمعنى الاختيار وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها . قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا باكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلا من الإيمان الذي أمر به . أو ما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } 2 108 وذلك هو معنى الشراء , لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلا منه , فكذلك المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق , فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون .
فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين بشرائهم الضلالة بالهدى خسروا ولم يربحوا , لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى والخوف والرعب على الحفظ والأمن , فاستبدلا في العاجل بالرشاد الحيرة , وبالهدى الضلالة , وبالحفظ الخوف , وبالأمن الرعب ; مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب , فخابا وخسرا , ذلك هو الخسران المبين وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول . 325 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة : { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة , ومن الجماعة إلى الفرقة , ومن الأمن إلى الخوف , ومن السنة إلى البدعة . قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : { فما ربحت تجارتهم } وهل التجارة مما تربح أو تنقص فيقال ربحت أو وضعت ؟ قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت ; وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم لا فيما اشتروا ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيك ونام ليلك , وخسر بيعك , ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله ; خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام فقال : { فما ربحت تجارتهم } إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة كما النوم في الليل , فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم , وإن كان ذلك معناه , كما قال الشاعر :
وشر المنايا ميت وسط أهله
كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره
يعني بذلك : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ; فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره وكما قال رؤبة بن العجاج :
حارث قد فرجت عني همي
فنام ليلي وتجلى غمي
فوصف بالنوم الليل , ومعناه أنه هو الذي نام . وكما قال جرير بن الخطفي :
وأعور من نبهان أما نهاره
فأعمى وأما ليله فبصير
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار , ومراده وصف النبهاني بذلك .
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
القول في تأويل قوله تعالى : { وما كانوا مهتدين } يعني بقوله جل ثناؤه : { وما كانوا مهتدين } ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى , واستبدالهم الكفر بالإيمان , واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار .