فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
القول في تويل قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } وأصل المرض : السقم , ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان ; فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا . وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد - ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب أنه معنى به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بالخبر عن القلب بذلك - والكناية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم ; كما قال عمر بن لجأ : ش وسبحت المدينة لا تلمها /و رأت قمرا بسوقهم نهارا
يريد وسبح أهل المدينة . فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسي :
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك /و إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : يا خيل [ الله ] اركبي , يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا . والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب , وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه . فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : { في قلوبهم مرض } إنما يعني في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم , وبما جاء به من عند الله مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم . والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم في أمر محمد , وما جاء به من عند الله وتحيرهم فيه , فلا هم به موقنون إيقان إيمان , ولا هم له منكرون إنكار إشراك ; ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء , كما يقال : فلان تمرض في هذا الأمر , أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه . وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك تظاهر القول في تفسيره من المفسرين . ذكر من قال ذلك : 270 - حدثنا محمد بن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { في قلوبهم مرض } أي شك . 271 - وحدثنا عن المنجاب , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : المرض : النفاق 272 - حدثني موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { في قلوبهم مرض } يقول : في قلوبهم شك . 73 - حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : { في قلوبهم مرض } قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد . قال : هم المنافقون . 274 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة في قوله : { في قلوبهم مرض } قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه . 275 - وحدثت عن عمار بن الحسن , قال حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس : { في قلوبهم مرض } قال : هؤلاء أهل النفاق , والمرض الذي في قلوبهم الشك في أمر الله تعالى ذكره . 276 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال عبد الرحمن بن زيد : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } حتى بلغ : { في قلوبهم مرض } قال المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا
القول في تأويل قوله تعالى : { فزادهم الله مرضا } قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين : هو الشك في اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون . فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم هو نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة , فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة إذ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك , كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به , إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : { وإذا أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } 9 124 : 125 فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا , والزيادة التي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بينا , وذلك هو التأويل المجمع عليه . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل : 277 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت . عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { فزادهم الله مرضا } قال : شكا . 278 - حدثني موسى بن هارون , قال : أخبرنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { فزادهم الله مرضا } يقول : فزادهم الله ريبة وشكا . 279 - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : حدثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة : { فزادهم الله مرضا } يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله . 280 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قول الله : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } قال : زادهم رجسا . وقرأ قول الله عز وجل : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } 9 124 : 125 قال : شرا إلى شرهم , وضلالة إلى ضلالتهم . 281 - وحدثت عن عمار بن الحسن , قال : حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { فزادهم الله مرضا } قال زادهم الله شكا .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولهم عذاب أليم } قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع , ومعناه : ولهم عذاب مؤلم , فصرف " مؤلم " إلى " أليم " , كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع , والله بديع السموات والأرض بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
أمن ريحانة الداعي السميع
يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى المسمع . ومنه قول ذي الرمة :
ويرفع من صدور شمردلات
يصد وجوهها وهج أليم
ويروى " يصك " , وإنما الأليم صفة للعذاب , كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم , والألم : الوجع . كما : 282 - حدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق , قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع , قال : الأليم : الموجع . 283 - حدثنا يعقوب , قال : حدثنا هشيم , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك قال : الأليم , الموجع . 284 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك في قوله { أليم } قال : هو العذاب الموجع وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { بما كانوا يكذبون } اختلفت القراءة في قراءة ذلك , فقرأه بعضهم : { بما كانوا يكذبون } مخففة الذال مفتوحة الياء , وهي قراءة معظم أهل الكوفة . وقرأه آخرون : " يكذبون " بضم الياء وتشديد الذال , وهي قراءة معظم أهل المدينة والحجاز والبصرة . وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم وبما جاء به , وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب , فكيف بالأليم منه ؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا ; وذلك أن الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين , فقال : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا } بذلك من قيلهم مع استسرارهم الشك والريبة , { وما يخدعون } بصنيعهم ذلك { إلا أنفسهم } دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين , { وما يشعرون } بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم في قلوبهم شك أي نفاق وريبة , والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم : { آمنا بالله وباليوم الآخر } وهم في قيلهم ذلك كذبة لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم . في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم , فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم , دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم ; إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل . وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم , ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم . فكذلك الصحيح من القول في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم , فهذا مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا , وأن الصواب من التأويل ما تأولنا من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب , وذلك قول الله تبارك وتعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون } 63 1 : 2 والآية الأخرى في المجادلة : { اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } 58 16 فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم , مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون , كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } لكانت القراءة في السورة الأخرى : والله يشهد إن المنافقين لمكذبون , ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب , لا على الكذب . وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } بمعنى الكذب , وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم , أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : { بما كانوا يكذبون } بمعنى الكذب , وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حق , لا على التكذيب الذي لم يجز له ذكر نظير الذي في سورة المنافقين سواء . وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " ما " من قول الله تبارك اسمه : { بما كانوا يكذبون } اسم للمصدر , كما أن أن والفعل اسمان للمصدر في قولك : أحب أن تأتيني , وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل " كان " ليخبر أنه كان فيما مضى , كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله . فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه , وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول : إنما ألغيت " كان " في التعجب لأن الفعل قد تقدمها , فكأنه قال : " حسنا كان زيد " , " وحسن كان زيد " يبطل " كان " , ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء إذا جاءت قبل " كان " ووقعت " كان " بينها وبين الأسماء . وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبه الصفات والأسماء بفعل ويفعل اللتين لا يظهر عمل كان فيهما , ألا ترى أنك تقول : " يقوم كان زيد " , ولا يظهر عمل " كان " في " يقوم " , وكذلك " قام كان زيد " . فلذلك أبطل عملها مع فاعل تمثيلا بفعل ويفعل , وأعملت مع فاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت " كان " الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها , فخطأ عنده أن تكون " كان " مبطلة ; فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه , وتأول قول الله عز وجل : { بما كانوا يكذبون } أنه بمعنى : الذي يكذبونه .