خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } وأصل الختم : الطبع , والخاتم : هو الطابع , يقال منه : ختمت الكتاب , إذا طبعته . فإن قال لنا قائل : وكيف يختم على القلوب , وإنما الختم طبع على الأوعية لما جعل فيها من المعارف بالأمور , فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع التي بها تدرك المسموعات , ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات , نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف . فإن قال : فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها ؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار , أم هي بخلاف ذلك ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك , وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم . 250 - فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي , قال : حدثنا يحيى بن عيسى , عن الأعمش , قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بأصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بأصبع أخرى - فإذا أذنب ضم - وقال بأصبع أخرى هكذا - حتى ضم أصابعه كلها . قال : ثم يطبع عليه بطابع . قال مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك الرين . 251 - حدثنا أبو كريب , قال : حدثنا وكيع عن الأعمش , عن مجاهد , قال : القلب مثل الكف , فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها . وكان أصحابنا يرون أنه الران . 252 - حدثنا القاسم بن الحسن , قال : حدثنا الحسين بن داود , قال : حدثني حجاج , قال : حدثنا ابن جريج , قال : قال مجاهد : نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه , فالتقاؤها عليه الطبع , والطبع الختم . قال ابن جريج : الختم ختم على القلب والسمع . 253 - حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع , والطبع أيسر من الإقفال , والإقفال أشد ذلك كله . وقال بعضهم : إنما معنى قوله : { ختم الله على قلوبهم } إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق , كما يقال : إن فلانا لأصم عن هذا الكلام , إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا . والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما : 254 - حدثنا به محمد بن يسار , قال : حدثنا صفوان بن عيسى , قال : حدثنا ابن عجلان عن القعقاع , عن أبي صالح , عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه , فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه , فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه ; فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } 83 14 فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها , وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع , فلا يكون للإيمان إليها مسلك , ولا للكفر منها مخلص . فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها , فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم , إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها . ويقال لقائلي القول الثاني الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبرا : أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به , أفعل منهم , أم فعل من الله تعالى ذكره بهم ؟ فإن زعموا أن ذلك فعل منهم وذلك قولهم , قيل لهم : فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم , وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان وتكبره عن الإقرار به , وهو فعله عندكم ختما من الله على قلبه وسمعه , وختمه على قلبه وسمعه فعل الله عز وجل دون فعل الكافر ؟ فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك , لأن تكبره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه , فلما كان الختم سببا لذلك جاز أن يسمى مسببه به ; تركوا قولهم , وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم معنى غير كفر الكافر وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به , وذلك دخول فيما أنكروه . وهذه الآية من أوضح الأدلة على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله ; لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم , ثم لم يسقط التكليف عنهم ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه , بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون .
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
القول في تأويل قوله تعالى : { وعلى أبصارهم غشاوة } وقوله : { وعلى أبصارهم غشاوة } خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم , وذلك أن { غشاوة } مرفوعة بقوله : { وعلى أبصارهم } فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ , وأن قوله : { ختم الله على قلوبهم } قد تناهى عند قوله : { وعلى سمعهم } وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين , أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها , وانفراد المخالف لهم في ذلك وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون ; وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها . والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله , ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : { وختم على سمعه وقلبه } ثم قال : { وجعل على بصره غشاوة } 45 23 فلم يدخل البصر في معنى الختم , وذلك هو المعروف في كلام العرب . فلم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب الغشاوة لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت , وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية . وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل , روي الخبر عن ابن عباس . 255 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي الحسين بن الحسن , عن أبيه , عن جده , عن ابن عباس : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } والغشاوة على أبصارهم . فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟ قيل له : إن نصبها بإضمار " جعل " كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ; ثم أسقط " جعل " ; إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبا , وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على " غشاوة " ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا , كما قال تعالى ذكره : { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق } ثم قال : { وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين } 56 17 : 22 فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة إتباعا لآخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور , ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه :
علفتها تبنا وماء باردا
حتى شتت همالة عيناها
ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به , ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل . وكما قال الآخر :
ورأيت زوجك في الوغى
متقلدا سيفا ورمحا
وكان ابن جريج يقول في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله : { وعلى سمعهم } وابتداء الخبر بعده ; بمثل الذي قلنا فيه , ويتأول فيه من كتاب الله : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } 42 24 256 - حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , قال : حدثنا ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع , والغشاوة على البصر , قال الله تعالى ذكره : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } وقال : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } 45 23 والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص :
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة
فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلله وركبه . ومنه قول نابغة بني ذبيان :
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي
إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
يعني بذلك : إذا تجلله وخالطه . وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود , أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه , وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وعلى سمعهم فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته , فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه , مع علمهم بصدقه وصحة أمره ; وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل . 257 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك , حتى يؤمنوا به , وإن آمنوا بكل ما كان قبلك . 258 - حدثني موسى بن هارون الهمداني , قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } يقول فلا يعقلون , ولا يسمعون ويقول : وجعل على أبصارهم غشاوة , يقول : على أعينهم فلا يبصرون . وأما آخرون فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر . 259 - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج , قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس , قال : هاتان الآيتان إلى : { ولهم عذاب عظيم } هم : { الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } 14 28 وهم الذين قتلوا يوم بدر فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب , والحكم بن أبي العاص . 260 - وحدثت عن عمار بن الحسن , قال : حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس , عن الحسن , قال : أما القادة فليس فيهم مجيب , ولا ناج , ولا مهتد . وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب فكرهنا إعادته .
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولهم عذاب عظيم } وتأويل ذلك عندي كما قاله ابن عباس وتأوله 261 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم , قال : فهذا في الأحبار من يهود فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم .