بتـــــاريخ : 10/13/2009 10:10:03 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1479 0


    الوحدة الثامنة مجالات وميادين دالة على حقيقة الألوهية والوحدانية - في ظلال القرآن

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :

    مقدمة الوحدة

    مجالات حقيقة الألوهية هذه الموجه عودة إلى حقيقة الألوهية بعد بيان حقيقية الرسالة وحقيقة الرسول في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم ; وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى ; نجملها هنا قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية تتجلى في قلب رسول الله ص وهو يجد في نفسه بينة من ربه هو منها على يقين لا يزعزعه تكذيب المكذبين ومن ثم يخلص نفسه لربه ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا الله يقص الحق وهو خير الفاصلين وتتجلى في حلم الله على المكذبين وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها كما جرت سنته تعالى وهو قادر عليه ولو كان رسول الله ص يملك هذا الذي يستعجلون به ما أمسكه عنهم ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيته قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين وتتجلى في علم الله بالغيب ; وإحاطة هذاالعلم بكل ما يقع في هذا الوجود ; في صورة لا تكون إلا لله ; ولا يصورها هكذا إلا الله وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم في النوم والصحو في الموت والحياة في الدنيا والآخرة وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم حين يواجهون الهول ; فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم ثم هم مع ذلك يشركون وينسون أن الله الذي يدعونه لكشف الضر قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحد قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون

     

    الدرس الأول الأمر والحكم لله وحدوده صلاحيات الرسول

    قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها ومن بين هذه المؤثرات العميقة ذلك الإيقاع المتكرر قل قل قل خطابا لرسول الله ص ليبلغ عن ربه ما يوحيه إليه ; وما لا يملك غيره ; ولا يتبع غيره ; ولا يستوحي غيره قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل أتبع أهواءكم قد ظللت إذا وما أنا من المهتدين يأمر الله سبحانه رسوله ص أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أندادا لله ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم ولا عن حق وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال يأمر الله سبحانه نبيه ص أن يواجه المشركين هذه المواجهة وأن يفاصلهم هذه المفاصلة كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يقول أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أِشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برىء مما تشركون ولقد كان المشركون يدعون رسول الله ص أن يوافقهم على دينهم فيوافقوه على دينه وأن يسجد لآلهتم فيسجدوا لإلهه كأن ذلك يمكن أن يكون وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه وهو أمر لا يكون أبدا فالله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ; ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيرة في قليل أو كثير ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله ص بأنه منهي عن عبادة أي مما يدعون ويسمون من دون الله فإن التعبير ب الذين في قوله تعالى قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله يستوقف النظر فكلمة الذين تطلق على العقلاء ولو كان المقصود هي الأوثان والأصنام وما إليها لعبر ب ما بدل الذين فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر مع الأصنام والأوثان وما إليها نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول الذين فغلب العقلاء ووصف الجميع بوصف العقلاء وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ; ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد حيث يسنون لهم السنن ويضعون لهم التقاليد ; ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية فالإسلام يعتبر هذا شركا ; ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ; وجعلهم أندادا من دون الله وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ; فكلاهما في عرف الإسلام سواء شرك بالله ودعوة أنداد من دون الله ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولا بالإيقاع الأول ومتمما له قل إني على بينة من ربي ; وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين وهو أمر من الله سبحانه لنبيه ص أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ والدليل الداخلي البين والإحساس الوجداني العميق بربه ووجوده ووحدانيته ووحيه إليه وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريبا منه قالها نوح عليه السلام قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون وقالها صالح عليه السلام قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير وقالها إبراهيم عليه السلام وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان وقالها يعقوب عليه السلام لبنيه فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ; ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم ; فيجدونه سبحانه حاضرا فيها ; ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين ; الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه قل إني على بينة من ربي وكذبتم به كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ; وأن يفرق فرقانا كاملا بينها وبين حقيقة الألوهية ; وإن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه ; فالذي يملكه هو الله وحده ; وهو ليس إلها إنما هو رسول ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء ; ولله وحده الحكم والقضاء فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به ; وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه وبذلك يجرد الرسول ص نفسه من أن تكون له قدرة أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها وهو بشر يوحي إليه ليبلغ وينذر ; لا لينزل قضاء ويفصل وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به ; فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله سبحانه وخصائصه عن ذوات العبيد ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله ومتروك لمشيئة الله فلو أن أمر الخوارق بما فيها إنزال العذاب في مقدوره وهو بشر ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم وهم يلحفون هذا الإلحاف ولكن لأن الأمر بيد الله وحده فهو يحلم عليهم ; فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين إن للطاقة البشرية حدودا في الصبر والحلم والإمهال وما يحلم على البشر ويمهلهم على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم إلا الله الحليم القوي العظيم وصدق الله العظيم فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر وتبلغ منه الروح الحلقوم ثم ينظر فيجد الله سبحانه يسعهم في ملكه ويطعمهم ويسقيهم ويغدق أحيانا علهيم ويفتح عليهم أبواب كل شيء وما يجد الإنسان إلا أن يقول قوله أبي بكر رضي الله عنه والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ حتى ما يعرف له أنف من عين رب ما أحلمك رب ما أحلمك فإنما هو حلم الله وحده وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون والله أعلم بالظالمين فهو يمهلهم عن علم ويملي لهم عن حكمة ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون ثم ينزل بهم العذاب الأليم

     

    الدرس الثاني مفاتح الغيب ومجالات علم الله

    وبمناسبة علم الله سبحانه بالظالمين ; واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية ; يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة مجال الغيب المكنون وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ; ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ; الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان في الأرض ولا في السماء في البر ولا في البحر في جوف الأرض ولا في طباق الجو من حي وميت ويابس ورطب ولكن أين هذا الذي نقوله نحن بأسلوبنا البشري المعهود من ذلك النسق القرآني العجيب وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد من ذلك التصوير العميق الموحي إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول وعالم الغيب وعالم الشهود وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح ووراء حدود هذا الكون المشهود وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد وهو يرتاد أو يحاول أن يرتاد أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ; البعيدة الآماد والآفاق والأغوار مفاتحها كلها عند الله ; لا يعلمها إلا هو ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر المكشوفة كلها لعلم الله ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض لا يحصيها عد وعين الله على كل ورقة تسقط هنا وهنا وهناك ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض لا يند منه شيء عن علم الله المحيط إنها جولة تدير الرؤوس وتذهل العقول جولة في آماد من الزمان وآفاق من المكان وأغوار من المنظور والمحجوب والمعلوم والمجهول جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف يعيا بتصور آمادها الخيال وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات ألا إنه الإعجاز وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن ننظر إليها من ناحية موضوعها فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر ; فليس عليه طابع البشر إن الفكر البشري حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع موضوع شمول العلم وإحاطته لا يرتاد هذه الآفاق إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر في كل أنحاء الأرض إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ; ويعبر عنه الخالق وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ; فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ولا أن يلحظوا وجوده ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق ولا رطب ولا يابس إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة وكل حبة مخبوءة وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا وما فائدته لهم وما احتفالهم بتسجيله إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك الذي لا يند عنه شيء في ملكه الصغير كالكبير ; والحقير كالجليل ; والمخبوء كالظاهر ; والمجهول كالمعلوم ; والبعيد كالقريب إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعا والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ; وكذلك لا تلحظه العين البشرية ; ولا تلم به النظرة البشرية إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ; المشرف على كل شيء المحيط بكل شيء الحافظ لكل شيء الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء الصغير كالكبير والحقير كالجليل والمخبوء كالظاهر والمجهول كالمعلوم والبعيد كالقريب والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضا ويعلمون من تجربتهم البشرية أن مثل هذا المشهد لا يخطر على القلب البشري ; كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر على هذا المستوى السامق وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو آماد وآفاق وأغوار في المجهول المطلق في الزمان والمكان وفي الماضي والحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان ويعلم ما في البر والبحر آماد وآفاق وآغوار في المنظور على استواء وسعة وشمول تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب وما تسقط من ورقة إلا يعلمها حركة الموت والفناء ; وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل ومن حياة إلى اندثار ولا حبة في ظلمات الأرض حركة البزوغ والنماء المنبثقة من الغور إلى السطح ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين التعميم الشامل الذي يشمل الحياة والموت والأزدهار والذبول ; في كل حي على الإطلاق فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله في مثل هذا النص القصير من إلا الله ثم نقف أمام قوله تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو نقف لنقول كلمة عن الغيب و مفاتحه واختصاص الله سبحانه بالعلم بها ذلك أن حقيقة الغيب من مقومات التصور الإسلامي الأساسية ; لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية ; ومن قواعد الإيمان الرئيسية وذلك أن كلمات الغيب و الغيبية تلاك في هذه الأيام كثيرا بعد ظهور المذهب المادي وتوضع في مقابل العلم و العلمية والقرآن الكريم يقرر أن هناك غيبا لا يعلم مفاتحه إلا الله ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو سبحانه من طاقته ومن حاجته وأن الناس لا يعلمون فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه إلا ظنا وأن الظن لا يغني من الحق شيئا كما يقرر سبحانه أن الله قد خلق هذا الكون وجعل له سننا لا تتبدل ; وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها ; ويتعامل معها في حدود طاقته وحاجته وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها بحقيقة الغيب المجهول للإنسان والذي سيظل كذلك مجهولا ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله ينشى ء هذا الحدث ويبرزه للوجود في تناسق تام في العقيدة الإسلامية وفي تصور المسلم الناشى ء من حقائق العقيدة فهذه الحقائق بجملتها على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل تحتاج منا هنا في الظلال إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضا إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب ; فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون البقرة والإيمان بالله سبحانه هو إيمان بالغيب فذات الله سبحانه غيب بالقياس إلى البشر ; فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب يجدون آثار فعله ولا يدركون ذاته ولا كيفيات أفعاله والإيمان بالآخرة كذلك هو إيمان بالغيب فالساعة بالقياس إلى البشر غيب وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن تصديقا لخبر الله سبحانه والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة آمن الرسول بما إنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير البقرة فنجد في هذا النص أن رسول الله ص والمؤمنين كذلك كل آمن بالله وهو غيب وآمن بما أنزل الله على رسوله وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه ص على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله سبحانه كما قال في الآية الأخرى عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدًا إلا من ارتضى من رسول الجن وآمن بالملائكة وهي غيب لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله على قدر طاقتهم وحاجتهم ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به قدر الله وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع كما جاء في حديث الإيمان < والقدر خيره وشره > اخرجه الشيخان على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب غيب في الماضي وغيب في الحاضر وغيب في المستقبل غيب في نفسه وفي كيانه وغيب في الكون كله من حوله غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره وغيب في طبيعته وحركته غيب في نشأة الحياة وخط سيرها وغيب في طبيعتها وحركتها غيب فيما يجهله الإنسان وغيب فيما يعرفه كذلك ويسبح الإنسان في بحر من المجهول حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانة هو ذاته فضلا على ما يجري حوله في كيان الكون كله ; وفضلا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله ولكل ذره وكل كهرب من ذرة ; وكل خلية وكل جزئي من خلية إنه الغيب إنه المجهول والعقل البشري تلك الذبالة القريبة المدى إنما يسبح في بحر المجهول فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم ولولا عون الله له وتسخير هذا الكون وتعليمه هو بعض نواميسه ما استطاع شيئا ولكنه لا يشكر وقليل من عبادي الشكور بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن وبما آتاه من العلم القليل يتبجح فيزعم أحيانا أن الإنسان يقوم وحده ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه ويتبجح أحيانا فيزعم أن العلم يقابل الغيب وأن العلمية في التفكير والتنظيم تقابل الغيبية وأنه لا لقاء بين العلم والغيب ; كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية فلنلق نظرة على وقفة العلم أمام الغيب في بحوث وأقوال العلماء من بني البشر أنفسهم بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا الإسراء إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى النجم وأن الغيب كله لله وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الأنعام وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى أم عنده علم الغيب فهو يرى النجم وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها فلنلق نظرة على وقفة العلم أمام الغيب في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب والعلمية والغيبية إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا الثقافة و المعرفة ليعيشوا في زمانهم ; ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه وليستيقنوا أن الغيب هو الحقيقة العلمية الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته وأن العلمية في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما للغيبية أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو الجهلية الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر ربما ولكنها لا تعيش في القرن العشرين عالم معاصر من أمريكا يقول عن الحقائق التي يصل إليها العلم بجملتها إن العلوم حقائق مختبرة ; ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك وليس باليقين ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ; ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف وليست نهائية وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم والتي يمكن أن يصل إليها كذلك فطالما أن الإنسان بوسائله المحدودة بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج ; فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى ; وقابلة للخطأ والصواب والتعديل والتبديل على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس فهو يجرب ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس ; والقياس باعتراف العلم وأهله وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية ; ولا يمكن أبدا أن تكون قطعية ولا نهائية والوسيلة الأخرى وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف وسيلة غير مهيأة للإنسان وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له علما ظنيا لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال على أن الغيب ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك هذا الكون من حوله إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته وحول الزمان ما هو وحول المكان وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان والحياة ومصدرها ونشأتها وطبيعتها وخط سيرها والمؤثرات فيها وارتباطها بهذا الوجود المادي إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة الفكر وغير طبيعة الطاقة على العموم والإنسان ما هو ما الذي يميزه من المادة وما الذي يميزه عن بقية الأحياء وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف وما العقل الذي يتميز به ويتصرف وما مصيره بعد الموت والإنحلال بل هذا الكيان الإنساني ذاته ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة وكيف يجري إنها كلها ميادين للغيب يقف العلم على حافاتها ولا يكاد يقتحهما حتى على سبيل الظن والترجيح وإن هي إلا فروض واحتمالات ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه إلا قليلا في هذا القرن من حقيقة الألوهية وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله ومن حقيقة الموت وحقيقة الآخرة وحقيقة الحساب والجزاء لندع هذا كله لحظة ففي الغيب القريب الكفاية ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على العلم والتبجح على الإخلاص ونضرب بعض الأمثال في قاعدة بناء الكون وسلوكه الذرة فيما يقول العلم الحديث قاعدة بناء الكون وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم فهي مؤلفة من بروتونات طاقة كهربية موجبة والكترونات طاقة كهربية سالبة ونيوترونات طاقة محايدة مكونه من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب الإلكترونات ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكا حتميا موحدا فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدما وإنما هي تخضع لقانون آخر غير الحتمية هو قانون الاحتمالات وكذلك تسلك الذرة نفسها والمجموعة المحدودة من الذرات في صورة جزيئات هذا السلوك يقول سير جيمس جيننر الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول وألا مناص من أن الحالة أ تتبعها الحالة ب أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو أن الحالة أ يحتمل أن تتبعها ب أو ج أو د أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر نعم إن في استطاعته أن يقول إن حدوث الحالة ب أكثر أحتمالا من حدوث الحالة ج وإن الحالة ج أكثر احتمالا من الحالة د وهكذا بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات ب و ج و د بعضها بالنسبة إلى بعض ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين أي الحالات تتبع الأخرى لأنه يتحدث دائما عما يحتمل أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار مهما تكن حقيقة هذه الأقدار فمإذا يكون الغيب وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته ويضرب مثلا لذلك إشعاع ذرات الراديوم وتحولها إلى رصاص وهليوم وهي خاضعة تماما لقدر مجهول وغيب مستور يقف دونه علم الإنسان ولنضرب لذلك مثلا ماديا يريده وضوحا من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار ويحل مكانها رصاص وهليوم والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان إذا لم تجد عليهم مواليد وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن ; أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطا ومن غير أن يكون أحدهم مقصودا لذاته ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم فإن العلم لا يستطيع أن يقول كم منها يبقى حيا بعد عام بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء أو أو وهكذا وأكثر الأمور احتمالا في الواقع هو أن يكون العدد أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة هي التي تتحلل في العام التالي ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة وقد نشعر في بادى ء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي ولكن هذا كله غير صحيح لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة فإن في استطاعتها أيضا أن تفكك ال ذرة الباقية ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه ; ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل ; بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل من ذرات الراديوم ويضطرها إلى أن تتفكك وهذه هي نظرية التفكك التلقائي التي وضعها رذرفورد و سدي في عام فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد وعلى غير علم منها ولا من أحد إن الرجل الذي يقول هذا الكلام لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس بل إنه ليحاول جاهدا أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضا على النحو الذي نراه وكما تفرض حقيقة الغيب نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري يقول عالم الأحياء والنبات رسل تشارلز إرنست الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ; فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين أو من الفيروس أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة فهذا شأنه وحده ولكنه إذ يفعل ذلك فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله الذين خلق الأشياء ودبرها إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيمانا راسخًا والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله كنشأة الكون وحركته ; وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات وصدق الله العظيم ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليونا من الحيوانات المنوية كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة ولا يعلم أحد من الذي يسبق فهو غيب أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر ثم يصل السابق من بين ستين مليونا ويلتحم مع البويضة ليكونا معا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث ; فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة هو الذي يقرر مصير الجنين ذكرا أو أنثى وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال الرعد لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير الشورى يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأني تصرفون الزمر هذا هو الغيب الذي يقف أمامه العلم البشري ; ويواجهه في القرن العشرين بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن الغيبية تنافي العلمية وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية ذلك بينما العلم البشري ذاته علم القرن العشرين يقول إن كل ما يصل إليه من النتائج هو الاحتمالات وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك غيبًا لا شك فيه على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة الغيب في العقيدة الإسلامية وفي التصور الإسلامي وفي العقلية الإسلامية إن القرآن الكريم وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشى ء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا إن هنالك سننا ثابته لهذا الكون ; يملك الإنسان أن يعرف منها القدر اللازم له حسب طاقته وحسب حاجته للقيام بالخلافة في هذه الأرض وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ; وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة وتعمير الأرض وترقية الحياة والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها وإلى جانب هذه السنن الثابته في عمومها مشيئة الله الطليقة ; لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها فهي ليست آلية بحتة فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها ; وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها غيب لا يعلمه أحد علم يقين ; وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و الاحتمالات وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة ; وكلها غيب بالقياس إليه وهي تجري في كيانه ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله ; وهو لا يعلمها وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون وحاضره وحاضر الكون ومستقبله ومستقبل الكون وذلك مع وجود السنن الثابتة التي يعرف بعضها وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة وإن الإنسان ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله وكذلك كل شيء حي ومهما تعلم ومهما عرف فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئا إن العقلية الإسلامية عقلية غيبية علمية لأن الغيبية هي العلمية بشهادة العلم والواقع أما التنكر للغيب فهو الجهلية التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله ; وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض والتعامل معها على قواعد ثابته فلا يفوت المسلم العلم البشري في مجاله ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعية ; وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا إلا من شاء بالقدر الذي يشاء والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الفرد فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ; وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ; ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ; ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ; وأن وراء الكون ظاهرة وخافية حقيقة أكبر من الكون هي التي صدر عنها واستمد من وجودها وجوده حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان كجماعة الماديين في كل زمان يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ويسمون هذا تقدمية وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها فجعل صفتهم المميزة هي صفة الذين يؤمنون بالغيب والحمد لله على نعمائه ; والنكسة للمنتكسين والمرتكسين والذين يتحدثون عن الغيبية و العلمية يتحدثون كذلك عن الحتمية التاريخية كأن كل المستقبل مستيقن و العلم في هذا الزمان يقول إن هناك احتمالات وليست هنالك حتميات ولقد كان ماركس من المتنبئين بالحتميات ولكن أين نبوءات ماركس اليوم لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا في روسيا والصين وما إليها ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي وها هو ذا خليفتهما خروشوف يحمل راية التعايش السلمي ولا نمضي طويلا مع هذه الحتميات التنبؤية فهي لا تستحق جدية المناقشة إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب وكل ما عداها احتمالات وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو وإن هنالك مع هذا وذلك سننا للكون ثابته يملك الإنسان أن يتعرف إليها ويستعين بها في خلافة الأرض مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ ; وغيب الله المجهول وهذا قوام الأمر كله إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم

     

    الدرس الثالث خضوع الإنسان لقدر الله في دنياه وآخرته

    ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب وبما يجري في جنبات الكون ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل في ذوات البشر ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية بعد العلم المحيط وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بضع كلمات أخرى كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره وأشارات إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله سبحانه وفي علمه وقدره وتدبيره صحوهم ومنامهم موتهم وبعثهم حشرهم وحسابهم ولكن على طريقة القرآن المعجزة في الإحياء والتشخيص وفي لمس المشاعر واستجاشتها مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب وهو الذي يتوفاكم بالليل فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس ; هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحاس من غفلة وما يعتري الحس من سهوة وما يعتري العقل من سكون وما يعتري الوعي من سبات أي انقطاع وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث ; وإن عرفوا ظواهره وآثاره ; وهو الغيب في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول حتى من الوعي ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة ها هم أولاء في قبضه الله كما هم دائما في الحقيقة لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله فما أضعف البشر في قبضة الله ويعلم ما جرحتم بالنهار فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات ; لا يند عن علم الله منهم شيء مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم ; لتتم آجالكم التي قضاها الله وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله لا مهرب لهم منه ولا منتهى لهم سواه ثم إليه مرجعكم فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح ثم ينبئكم بما كنتم تعملون فهو عرض السجل الذي وعى ما كان وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء وهكذا تشمل الأية الواحدة ذات الكلمات المعدودة ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد والمقررات والحقائق والإيحاءات والظلال فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك وكيف تكون الآيات الخوارق إن لم تكن هي هذه التي يغفل عنها المكذبون ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم

     

    الدرس الرابع قهر الله لعباده ورقابته عليهم وحسابهم يوم البعث

    ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية لمسة القوة القاهرة فوق العباد والرقابة الدائمة التي لا تغفل والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين وهو القاهر فوق عباده فهو صاحب السلطان القاهر ; وهم تحت سيطرته وقهره هم ضعاف في قبضة هذا السلطان ; لا قوة لهم ولا ناصر هم عباد والقهر فوقهم وهم خاضعون له مقهورون وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا ومن العلم ليعرفوا ومن القدرة ليقوموا بالخلافة إن كل نفس من أنفاسهم بقدر ; وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة ويرسل عليكم حفظة لا يذكر النص هنا ما نوعهم وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة ; ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري ; وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون الظل نفسه في صورة أخرى فكل نفس معدودة الأنفاس متروكة لأجل لا تعلمه فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه بينما هو مرسوم محدد في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر لا يغفو ولا يغفل ولا يهمل فهو حفيظ من الحفظة وهو رسول من الملائكة فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة والنفس غافلة مشغولة أدى الحفيظ مهمته وقام الرسول برسالته وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري ; وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به ; ويعرف أنه في كل لحظة قد يقبض وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة مولاهم الذي أنشأهم والذي أطلقهم للحياة ما شاء في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط ثم ردهم إليه عندما شاء ; ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين فهو وحده يحكم وهو وحده يحاسب وهو لا يبطى ء في الحكم ولا يمهل في الجزاء ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري فهو ليس متروكا ولو إلى مهلة في الحساب وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم في هذه الأرض في أمر العباد إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ; ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه ; وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله ; فعلام يحاسبون في الآخرة أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ; ويتحاكمون إليها أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ; ولا يتحاكمون إليها إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد وأنهم إن لم ينظموا حياتهم ويقيموا معاملاتهم كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم وفق شريعة الله في الدنيا فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله سبحانه إلها في الأرض ; ولكنهم اتخذوا من دونه أربابا متفرقة وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وفي المعاملات والارتباطات والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء

     

    الدرس الخامس عودة الإنسان عند الشدة إلى الله وتضرعه إليه

    ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية ; وتلتجى ء إلى إلهها الحق في ساعة الشدة ; ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب ; وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء في مشهد قصير سريع ولكنه واضح حاسم وموح مؤثر إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائض ليس مؤجلا دائما إلى يوم الحشر والحساب فهم يصادفون الهول في ظلمات البر والبحر فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله ; ولا ينجيهم من الكرب إلا الله ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون إن تصور الخطر وتذكر الهول قد يردان النفوس الجامحة ويرققان القلوب الغليظة ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة ; كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكون من الشاكرين إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة أو رأى المكروبين في لحظة الضيق وظلمات البر والبحر كثيرة وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات فالمتاهة ظلام والخطر ظلام والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام ; فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها حقيقة الألوهية الواحدة وتتجه إلى الله الحق بلا شريك ; لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك وتدرك انعدام الشريك ويبذل المكروبون الوعود لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين والله سبحانه يقول لرسوله ص ليذكرهم بحقيقة الأمر قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب فليس هنالك غيره يستجيب ويقدر على دفع الكروب ثم ليذكرهم بتصرفهم المنكر العجيب ثم أنتم تشركون

     

    الدرس السادس عجز الناس عن دفع عذاب الله وبأسه عنهم

    وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة فما هي مرة وتنتهي ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وتصور العذاب الغامر من فوق أو النابع من تحت أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال أما العذاب الذي يصب عليه من فوق أو يأخذه من تحت فهو عذاب غامر قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله ; والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء ; لونا آخر بطيئا طويلا ; لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ; الذي يذوقونه بأيديهم ويجرعونه لأنفسهم ; إذ يجعلهم شيعا وأحزابا متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ولا يفاصل بعضها بعضا فهي أبدا في جدال وصراع وفي خصومة ونزاع وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعا وشرائع وقوانين وقيما وموازين من عند أنفسهم ; يتعبد بها الناس بعضعهم بعضا ; ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر والبعض الآخر يأبى ويعارض وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم فيذوق بعضهم بأس بعض ويحقد بعضهم على بعض وينكر بعضهم بعضا لأنهم لا يفيئون جميعا إلى ميزان واحد ; يضعه لهم المعبود الذي يعنوا له كل العبيد حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ثم يزاول هذا الحق فعلا إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة ; لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ; ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها لأنها غير مقيدة بشريعة من الله ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض وهم شيع ; ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ; باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي الأمة المسلمة وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج ; وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ولم تتميز هذا التميز حق عليها وعيد الله هذا وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ولا تتبين نفسها ولا يتبينها الناس مما حولها وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ; دون أن يدركها فتح الله الموعود إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم لم يقع في مرة واحدة قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة أي الدين وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها أي نظام حياتها وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا وطريق هذه الدعوة واحد ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعا صلوات الله عليهم وسلامه انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()