بتـــــاريخ : 10/12/2009 11:25:45 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1412 0


    سورة المائدة - الوحدة الأولى مجموعة من التشريعات والتوجيهات - في ظلال القرآن

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :

    الدرس الأول الوفاء بالعقود وبعض أحكام الإحرام

    يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إنه لا بد من ضوابط للحياة حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه ; وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة الناس من الأقربين والأبعدين من الأهل والعشيرة ومن الجماعة والأمة ; ومن الأصدقاء والأعداء والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض ثم حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس يقيمها ويحددها بدقة ووضوح ; ويربطها كلها بالله سبحانه ; ويكفل لها الاحترام الواجب فلا تنتهك ولا يستهزأ بها ; ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة ; ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد أو تراها مجموعة أو تراها أمة أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي المصلحة ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس هي المصلحة ولو رأى فرد أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها فإلله يعلم والناس لا يعلمون وما يقرره الله خير لهم مما يقررون وأدنى مراتب الأدب مع الله سبحانه أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله وألا يكون له مع تقدير الله إلا الطاعة والقبول والاستسلام مع الرضى والثقة والاطمئنان هذه الضوابط يسميها الله العقود ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها والحكم فيها بما أنزل الله كله ; والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله ; والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن افتتاح السورة على هذا النحو والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة العقود معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله وفي أولها عقد الإيمان بالله ; ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه ومقتضى العبودية لألوهيته هذا العقد الذي تنبثق منه وتقوم عليه سائر العقود ; وسائر الضوابط في الحياة وعقد الإيمان بالله ; والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ; ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم عليه السلام وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض بشرط وعقد هذا نصه القرآني قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذي كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله ; وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله باطلا بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف وتحتم على كل مؤمن بالله يريد الوفاء بعقد الله أن يرد هذا الباطل ولا يعترف به ; ولا يقبل التعامل على أساسه وإلا فما أوفى بعقد الله ولقد تكرر هذا العقد أو هذا العهد مع ذرية آدم وهم بعد في ظهور آبائهم كما ورد في السورة الأخرى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون فهذا عقد آخر مع كل فرد ; عقد يقرر الله سبحانه أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم وليس لنا أن نسأل كيف لأن الله أعلم بخلقة ; وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم بما يلزمهم الحجة وهو يقول إنه أخذ عليهم هذا العهد على ربوبيته لهم فلا بد أن ذلك كان كما قال الله سبحانه فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل كما سيجيء في السورة يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم وسنعلم من السياق كيف لم يفوا بالميثاق ; وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق والذين آمنوا بمحمد ص قد تعاقدوا مع الله على يديه تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا تنازع الأمر أهله وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول ص من مكة إلى المدينة كان هناك عقد مع نقباء الأنصار وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو بيعة الرضوان وعلى عقد الإيمان بالله والعبودية لله تقوم سائر العقود سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا بصفتهم هذه أن يوفوا بها إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء مستحثة لهم كذلك على الوفاء ومن ثم كان هذا النداء يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح وفي الأنواع وفي الأماكن وفي الأوقات إن هذا كله من العقود وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده ; ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره ومن ثم نودوا هذا النداء في مطلع هذا البيان وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم وبمقتضى هذا الإحلال من الله ; وبمقتضى إذنه هذا وشرعه لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول بهيمة الأنعام من الذبائح والصيد إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها وهو الذي سيرد ذكره محرما إما حرمة وقتية أو مكانية ; وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم ; ويضاف إليها الوحشي منها كالبقر الوحشي والحمر الوحشية والظباء ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام غير محلي الصيد وأنتم حرم والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها فالإحرام للحج أو للعمرة تجرد عن أسباب الحياة العادية واساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام الذي جعله الله مثابة الأمان ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية ; تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة ; وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء ; وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله ; لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام يربط هذا العقد بالعقد الأكبر ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق إن الله يحكم ما يريد طليقة مشيئته حاكمة إرادته متفردا سبحانه بالحكم وفق ما يريد ليس هنالك من يريد معه ; وليس هنالك من يحكم بعده ; ولا راد لما يحكم به وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى شعائر الله في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ; فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ; لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر وقد نسبها السياق القرآني إلى الله تعظيما لها وتحذيرا من استحلالها والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ; وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقد حرم الله فيها القتال وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ; فينسئونها أي يؤجلونها بفتوى بعض الكهان أو بعض زعماء القبائل القوية من عام إلى عام فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها وأقام هذه الحرمة على أمر الله يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم وقرر أن النسيء زيادة في الكفر واستقام الأمر فيها على أمر الله ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ; وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم وهم لا يرعون حرمتها ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ثم يذهبون ناجين وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ; وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة فينهي بها شعائر حجه أو عمرته وهي نافة أو بقرة أو شاة وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ; ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ; بل يجعلها كلها للفقراء والقلائد وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها أي يضعون في رقبتها قلادة علامة على نذرها لله ; ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه ومنها الهدي الذي يشعر أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ; فلا تنحر إلا لما جعلت له وكذلك قيل إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ; فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان وأصحاب هذا القول قالوا إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقوله فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم والأظهر القول الأول ; وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ; وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة للمناسبة بين هذا وذاك كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله حجاجا أو غير حجاج وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام في غير البيت الحرام فلا صيد في البيت الحرام وإذا حللتم فاصطادوا إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ; كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى وأن يروعها العدوان إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ; استجابة لدعوة إبراهيم أبي هذه الأمة الكريم ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام في ظل الإسلام وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ; ليحرص عليه بشروطه وليحفظ عقد الله وميثاقه وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام وفي كل مكان وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان يدعو الله الذين آمنوا به وتعاقدوا معه أن يفوا بعقدهم ; وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم دور القوامة على البشرية ; بلا تأثر بالمشاعر الشخصية والعواطف الذاتية والملابسات العارضة في الحياة يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ; وقبله كذلك ; وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ; وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض فهذا كله شيء ; وواجب الأمة المسلمة شيء آخر شيء يناسب دورها العظيم ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب إنها قمة في ضبط النفس ; وفي سماحة القلب ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ; تجذب الناس إليه وتحببهم فيه وهو تكليف ضخم ; ولكنه في صورته هذه لا يعنت النفس البشرية ولا يحملها فوق طاقتها فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ومن حقها أن تكره ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ; لا في الإثم والعدوان ; ويخوفها عقاب الله ويأمرها بتقواه لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط وعلى التسامي والتسامح تقوى لله وطلبا لرضاه ولقد استطاعت التربية الإسلامية بالمنهج الرباني أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية والاعتياد لهذا السلوك الكريم وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا كانت حمية الجاهلية ونعرة العصبية كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ; وكان الحلف على النصرة في الباطل قبل الحق وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ; ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور انصر أخاك ظالما أو مظلومًا وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى وهو يقول وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ثم جاء الإسلام جاء المنهج الرباني للتربية جاء ليقول للذين آمنوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب جاء ليربط القلوب بالله ; وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله جاء ليخرج العرب ويخرج البشرية كلها من حمية الجاهلية ونعرة العصبية وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء وولد الإنسان من جديد في الجزيرة العربية ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله وكان هذا هو المولد الجديد للعرب ; كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء انصر أخاك ظالما أو مظومًا كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية وأفق الإسلام ; هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور انصر أخاك ظالما أو مظلومًا وقول الله العظيم ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وشتان شتان

     

    الدرس الثاني نعمة إكمال الدين وتوحيد مصدر التلقي

    ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم والميتة والدم ولحم الخنزير سبق بيان حكمها وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات ص ص من الجزء الثاني من الظلال وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ; وهذا وحده يكفي فالله لا يحرم إلا الخبائث وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد وأما ما أهل لغير الله به فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان فالإيمان يوحد الله ويفرده سبحانه بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ; وأن يهل باسمه وحده في كل عمل وكل حركة ; وأن تصدر باسمه وحده كل حركة وكل عمل فما يهل لغير الله به ; وما يسمى عليه بغير اسم الله وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد حرام ; لأنه ينقض الإيمان من أساسه ; ولا يصدر ابتداء عن إيمان فهو خبيث من هذه الناحية ; يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير وأما المنخنقة وهي التي تموت خنقا والموقوذة وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت والمتردية وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت والنطيحة وهي التي تنطحها بهيمة فتموت وما أكل السبع وهي الفريسة لأي من الوحش فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح إلا ما ذكيتم فحكمها هو حكم الميتة إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم التذكية ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ; فبعض الأقوال يخرج من المذكاة البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا أو يقتلها حتما فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح أيا كان نوع الإصابة والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة واما ما ذبح على النصب وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ومثلها غيرها في أي مكان فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام حتى لو ذكر اسم الله عليه لما فيه من معنى الشرك بالله ويبقى الاستقسام بالأزلام والأزلام قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه وهي ثلاثة في قول وسبعة في قول وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب ; فتقسم بواسطتها الجزور أي الناقة التي يتقامرون عليها إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ثم تدار فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح فحرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه نوع من الميسر المحرم وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم فالمضطر من الجوع وهو المخمصة الذي يخشى على حياته التلف له أن يأكل من هذه المحرمات ; ما دام أنه لا يتعمد الإثم ولا يقصد مقارفة الحرام وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل هل هو مجرد ما يحفظ الحياة أو هو ما يحقق الكفاية والشبع أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ; والتقوى الموكولة إلى الله فمن أقدم مضطرا لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد فلا إثم عليه إذن ولا عقاب فإن الله غفور رحيم وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ليعلن كمال الرسالة وتمام النعمة فيحس عمر رضي الله عنه ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل أن أيام الرسول ص على الأرض معدودة فقد أدى الأمانة وبلغ الرسالة ; ولم يعد إلا لقاء الله فيبكي رضوان الله عليه وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح ; وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها ما دلالة هذا إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ كل متكامل سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد ; وما يختص بالشعائر والعبادات ; وما يختص بالحلال والحرام ; ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية وأن هذا في مجموعة هو الدين الذي يقول الله عنه في هذه الآية إنه أكمله وهو النعمة التي يقول الله للذين آمنوا إنه أتمها عليهم وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد ; وما يختص بالشعائر والعبادات ; وما يختص بالحلال والحرام ; وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية فكلها في مجموعها تكون المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا ; والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه كالخروج عليه كله خروج على هذا الدين وخروج من هذا الدين بالتبعية والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره ; من أن رفض شيء من هذا المنهج الذي رضيه الله للمؤمنين واستبدال غيره به من صنع البشر ; معناه الصريح هو رفض ألوهية الله سبحانه وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر ; واعتداء على سلطان الله في الأرض وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى الحاكمية وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين ; والخروج من هذا الدين بالتبعية اليوم يئس الذين كفروا من دينكم يئسوا أن يبطلوه أو ينقصوه أو يحرفوه وقد كتب الله له الكمال ; وسجل له البقاء ولقد يغلبون على المسلمين في موقعة أو في فترة ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور ولا يناله التحريف أيضا على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه ; وعلى شدة ما كادوا له وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة ; تعرف هذا الدين ; وتناضل عنه ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا ; حتى تسلمه الى من يليها وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين فلا تخشوهم واخشون فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه ; فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ; ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته ; ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة لا يقتصر على ذلك الجيل ; إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان نقول للذين آمنوا الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين بمعناه الكامل الشامل ; الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها وهؤلاء وحدهم هم المؤمنون اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع أكمل الله هذا الدين فما عادت فيه زيادة لمستزيد وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل ورضي لهم الإسلام دينا ; فمن لا يرتضيه منهجا لحياته إذن فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ; فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة وتوجيهات عميقة ومقتضيات وتكاليف إن المؤمن يقف أولا أمام إكمال هذا الدين ; يستعرض موكب الإيمان وموكب الرسالات وموكب الرسل منذ فجر البشرية ومنذ أول رسول آدم عليه السلام إلى هذه الرسالة الأخيرة رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين فماذا يرى يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل موكب الهدى والنور ويرى معالم الطريق على طول الطريق ولكنه يجد كل رسول قبل خاتم النبيين إنما أرسل لقومه ويرى كل رسالة قبل الرسالة الأخيرة إنما جاءت لمرحلة من الزمان رسالة خاصة لمجموعة خاصة في بيئة خاصة ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ; متكيفة بهذه الظروف كلها تدعو إلى إله واحد فهذا هو التوحيد وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد فهذا هو الدين وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد فهذا هو الإسلام ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ; أرسل إلى الناس كافة رسولا خاتم النبيين برسالة للإنسان لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة في زمان خاص في ظروف خاصة رسالة تخاطب الإنسان من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ; لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها وفي كل جوانب نشاطها ; وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ; وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة الإنسان منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ; من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات لكي تستمر وتنمو وتتطور وتتجدد ; حول هذا المحور وداخل هذا الإطار وقال الله سبحانه للذين آمنوا اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فأعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معا فهذا هو الدين ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين بمعناه هذا نقصا يستدعي الإكمال ولا قصورا يستدعي الإضافة ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير وإلا فما هو بمؤمن ; وما هو بمقر بصدق الله ; وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان لأنها بشهادة الله شريعة الدين الذي جاء للإنسان في كل زمان وفي كل مكان ; لا لجماعة من بني الإنسان في جيل من الأجيال في مكان من الأمكنة كما كانت تجيء الرسل والرسالات الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ; دون أن تخرج عليه إلا أن تخرج من إطار الإيمان والله الذي خلق الإنسان ويعلم من خلق ; هو الذي رضي له هذا الدين ; المحتوى على هذه الشريعة فلا يقول إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ; وبأطوار الإنسان ويقف المؤمن ثانيا أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين بإكمال هذا الدين ; وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة النعمة التي تمثل مولد الإنسان في الحقيقة كما تمثل نشأته واكتماله فالإنسان لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه و الإنسان لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ; وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه إن معرفة الإنسان بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد الإنسان إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ; يمكن أن يكون حيوانًا أو أن يكون مشروع إنسان في طريقه إلى التكوين ولكنه لا يكون الإنسان في أكمل صورة للإنسان إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية لهو الذي يحقق للإنسان إنسانيته كاملة يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات إلى دائرة التصور الإنساني الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات عالم الشهادة وعالم الغيب عالم المادة وعالم ما وراء المادة وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف ويحققها له بالمنهج الرباني حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء والاستعلاء على نوازع الحيوان ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ولا يقدرها قدرها من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها ويلاتها في التصور والاعتقاد وويلاتها في واقع الحياة هو الذي يحس ويشعر ويرى ويعلم ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى وويلات الحيرة والتمزق وويلات الضياع والخواء في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ; والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى وويلات التخبط والاضطراب وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن كانوا قد ذاقوا الجاهلية ذاقوا تصوراتها الاعتقادية وذاقوا أوضاعها الاجتماعية وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ; وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ; وسار بهم في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ; نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام والملائكة والجن والكواكب والأسلاف ; وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ; لينقلهم إلى أفق التوحيد إلى أفق الإيمان بإله واحد قادر قاهر رحيم ودود سميع بصير عليم خبير عادل كامل قريب مجيب لا واسطة بينه وبين أحد ; والكل له عباد والكل له عبيد ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ومن سلطان الرياسة يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية من الفوارق الطبقية ; ومن العادات الزرية ; ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه لأن قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ; وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ; ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء وقد قيل عن عزة كليب وائل إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه وقيل لا حر بوادي عوف لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره فكلهم أحرار في حكم العبيد وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة والمرأة المنكودة والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها والثارات والغارات والنهب والسلب مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة وتخاذل وخذلان القبائل كلها هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ; تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح في كل جانب من جوانب الحياة في جيل واحد عرف السفح وعرف القمة عرف الجاهلية وعرف الإسلام ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ويقف المؤمن ثالثا أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا يقف أمام رعاية الله سبحانه وعنايته بهذه الأمة حتى ليختار لها دينها ويرتضيه وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها حتى ليختار لها منهج حياتها وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا يكافى ء هذه الرعاية الجليلة أستغفر الله فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ومعرفة المنعم وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل بله أن يرفض ما رضيه الله له ليختار لنفسه غير ما اختاره الله وإنها إذن لجريمة نكدة ; لا تذهب بغير جزاء ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة فالأمر يطول فنقنع بهذه اللمحات في هذه الظلال ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد

     

    الدرس الثالث من أحكام الصيد والذبح والطعام والزواج

    يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم ; يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة ; ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية ; خشية أن يكون الإسلام قد حرمه ; وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية لقد هزها هزا عنيفا نفض عنها كل رواسب الجاهلية لقد أشعر المسلمين الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة أنهم يولدون من جديد ; وينشأون من جديد كما جعلهم يحسون إحساسا عميقا بضخامة النقلة وعظمة الوثبة وجلال المرتقى وجزالة النعمة فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم وأن يحذروا عن مخالفته وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق وثمرة تلك الهزة العنيفة لذلك راحوا يسألون الرسول ص بعد ما سمعوا آيات التحريم ماذا أحل لهم ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه وجاءهم الجواب قل أحل لكم الطيبات وهو جواب يستحق التأمل إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة إنهم لم يحرموا طيبا ولم يمنعوا عن طيب ; وإن كل الطيبات لهم حلال فلم يحرم عليهم إلا الخبائث والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية كالميتة والدم ولحم الخنزير أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب أو كان الاستقسام فيه بالأزلام وهو نوع من الميسر ويضيف إلى الطيبات وهي عامة نوعا منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم ; وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي ومثلها كلاب الصيد أو الفهود والأسود مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة أي يكبلها ويصطادها وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكبلة المعلمة المدربة أن تمسك على صاحبها أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد ; فلا تأكل منه عند صيده ; إلا إذا غاب عنها صاحبها فجاعت فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها لا تكون معلمة ; وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله ; ولو جاءت به حيا ولكنها كانت أكلت منه ; فلا يذكى ; ولو ذبح ما كان حلالا والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة ; فقد علموها مما علمهم الله فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح ; وأقدرهم على تعليمها ; وعلمهم هم كيف يعلمونها وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ولا مناسبة تعرض حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء هو الذي خلق وهو الذي علم وهو الذي سخر ; وإليه يرجع الفضل كله في كل حركة وكل كسب وكل إمكان يصل إليه المخلوق فلا ينسى المؤمن لحظة أن من الله وإلى الله كل شيء في كيانه هو نفسه ; وفيما حوله من الأشياء والأحداث ; ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه وكل هزة عصب وكل حركة جارحة ويكون بهذا كله ربانيًا على الاعتبار الصحيح والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ; فيكون هذا كالذبح له ; واسم الله يذكر عند الذبح فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله ; ويخوفهم حسابه السريع فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن ; والذي يحول الحياة كلها صلة بالله وشعورا بجلاله ومراقبة له في السر والعلانية واتقوا الله إن الله سريع الحساب ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله اليوم أحل لكم الطيبات فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه ; ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع فهي من الطيبات وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية ; في التعامل مع غير المسلمين ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي في دار الإسلام أو تربطهم به روابط الذمة والعهد من أهل الكتاب إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ; ثم يعتزلهم فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين أو منبوذين إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية والمودة والمجاملة والخلطة فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر طيبات للمسلمين ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية أو البروتستانتية أو المارونية المسيحية ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية ; ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة التي تظلها راية المجتمع الإسلامي فيما يختص بالعشرة والسلوك أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة وشرط حل المحصنات الكتابيات هو شرط حل المحصنات المؤمنات إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ذلك أن تؤدى المهور بقصد النكاح الشرعي الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل ; والمخادنه أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية ومعترفا بهما من المجتمع الجاهلي قبل أن يطهره الإسلام ويزكيه ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة ويعقب على هذه الأحكام تعقيبا فيه تشديد وفيه تهديد ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان ; وتنفيذها كما هي هو الإيمان ; أو هو دليل الإيمان فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح ردا عليه لا يقبل منه ولا يقر عليه والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساما وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا وهذا التعقيب الشديد والتهديد المخيف يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج ; وأن كل جزئية فيه هي الدين الذي لا هوادة في الخلاف عنه ولا قبول لما يصدر مخالفا له في الصغير أو في الكبير

     

    الدرس الرابع من أحكام الوضوء والتيمم

    وفي ظل الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء يجيء ذكر الصلاة وأحكام الطهارة للصلاة يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه إنما هو يجيء في موضعه من السياق ولحكمته في نظم القرآن إنها أولا لفتة إلى لون آخر من الطيبات طيبات الروح الخالصة إلى جانب طيبات الطعام والنساء لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله في جو من الطهر والخشوع والنقاء فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة ; استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان والتي بها يتكامل وجود الإنسان ثم اللفتة الثانية إن إحكام الطهارة والصلاة ; كأحكام الطعام والنكاح ; كأحكام الصيد في الحل والحرمة ; كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب كبقية الأحكام التالية في السورة كلها عبادة لله وكلها دين الله فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا في الفقة على تسميته بأحكام العبادات وما اصطلح على تسميته بأحكام المعاملات هذه التفرقة التي اصطنعها الفقة حسب مقتضيات التصنيف و التبويب لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ولا في أصل الشريعة الإسلامية إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه ; وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع لا بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء كلها عقود من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء وكلها عبادات يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله وكلها إسلام وإقرار من المسلم بعبوديته لله ليس هنالك عبادات وحدها و معاملات وحدها إلا في التصنيف الفقهي وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي كلها عبادات و فرائض و عقود مع الله والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني ; وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة إن الصلاة لقاء مع الله ووقوف بين يديه سبحانه ودعاء مرفوع إليه ونجوى وإسرار فلا بد لهذا الموقف من استعداد لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي ومن هنا كان الوضوء فيما نحسب والعلم لله وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية غسل الوجه غسل الأيدي إلى المرافق ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيره أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به أم هي تجزى ء على غير ترتيب قولان هذا في الحدث الأصغر أما الجنابة سواء بالمباشرة أو الاحتلام فتوجب الاغتسال ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء والغسل أخذ في بيان حكم التيمم وذلك في الحالات الآتية حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق وحالة المريض المحدث حدثا أصغر يقتضي الوضوء أو حدثا أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه وحالة المسافر المحدث حدثا أصغر أو أكبر وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله أو جاء أحد منكم من الغائط والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولا أو تبرزا وعبر عن الحدث الأكبر بقوله أو لامستم النساء لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث حدثا أصغر أو أكبر الصلاة حتى يتيمم فيقصد صعيدا طيبا أي شيئا من جنس الأرض طاهرا يعبر عن الطهارة بالطيبة ولو كان ترابا على ظهر الدابة أو الحائط فيضرب بكفيه ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين ضربة للوجة واليدين أو ضربتين قولان وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى أو لامستم النساء أهو مجرد الملامسة أم هي المباشرة وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة خلاف كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم أم المرض الذي يؤذيه الماء خلاف ثم هل برودة الماء من غير مرض ; وخوف المرض والأذى يجيز التيمم الأرجح نعم وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون والتطهير حالة واجبة للقاء الله كما أسلفنا وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه ; ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء ذلك أن الله سبحانه لا يريد أن يعنت الناس ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف إنما يريد أن يطهرهم وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة ; وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة ليضاعفها لهم ويزيدهم منها فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا ولكن يريد ليطهركم وليتم تعمته عليكم لعلكم تشكرون تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ليقول متفلسفة هذه الأيام إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات كما كان العرب البدائيون لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد ; وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه وجانب التطهر الروحي أقوى لأنه عند تعذر استخدام الماء يستعاض بالتيمم الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات وجميع البيئات وجميع الأطور بنظام واحد ثابت فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطور ; في صورة من الصور بمعنى من المعاني ; ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله ; فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة ; وإزالة كل عائق يمنع منها فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة ; وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها ; ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء لقاء العبد بربه وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب إنها نداوة القلب واسترواح الظل وبشاشة اللقاء

     

    الدرس الخامس مطالبة بالإلتزام بالميثاق

    ويعقب على أحكام الطهارة وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام كما تقدم كما يذكرهم تقوى الله وعلمه بما تنطوي عليه الصدور واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون كما قدمنا قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم وفي حياتهم وفي مجتمعهم وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم ومن ثم كانت الإشارة مجرد الإشارة إلى هذه النعمة تكفي إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله وهو أمر هائل جليل في حسن المؤمن حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى إلى إحساس القلب بالله ومراقبته في خطراته الخافية واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور والتعبير بذات الصدور تعبير مصور معبر موح نمر به كثيرا في القرآن الكريم فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء وذات الصدور أي صاحبة الصدور الملازمة لها الملاصقة بها وهي كناية عن المشاعر الخافية والخواطر الكامنة والأسرار الدفينة التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله المطلع على ذات الصدور

     

    الدرس السادس الأمر بالعدل والإنصاف مع المخالف

    ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة القوامة على البشرية بالعدل العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن ; ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور ومن ثم فهذا النداء يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام على الاعتداء وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده ; تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة فيقدم له بما يعين عليه يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ويعقب عليه بما يعين عليه أيضًا واتقوا الله إن الله خبيرا بما تعملون إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله حين تقوم لله متجردة عن كل ما عداه وحين تستشعر تقواه وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق ويثبتها عليه وما غير القيام لله والتعامل معه مباشرة والتجرد من كل اعتبار آخر يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين كما يكفله لهم هذا الدين ; حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر ; وأن يتعاملوا معه متجردين عن كل اعتبار وبهذه المقومات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير ; الذي يتكفل نظامه للناس جميعا معتنقيه وغير معتنقيه أن يتمتعوا في ظله بالعدل ; وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه يتعاملون فيها مع ربهم مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية مهما يكن فيها من مشقة وجهاد ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة ; وأدت تكاليفها هذه ; يوم استقامت على الإسلام ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ولا مجرد مثل عليا ولكنها كانت واقعا من الواقع في حياتها اليومية واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجا في عالم الواقع يؤدي ببساطة ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة إنها لم تكن مثلا عليا خيالية ولا نماذج كذلك فردية إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقا آخر سواه وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها بما فيها جاهلية العصور الحديثة ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر ومناهج يصنعها الناس للناس ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة إن الناس قد يعرفون المبادى ء ; ويهتفون بها ولكن هذا شيء وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر وهذه المبادى ء التي يهتف بها الناس للناس طبيعي ألا تتحقق في عالم الواقع فليس المهم أن يدعى الناس إلى المبادى ء ; ولكن المهم هو من يدعوهم إليها المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادى ء وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادى ء التي تدعو إليها هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله فما يقوله فلان وعلان علام يستند وأي سلطان له على النفوس والضمائر وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادى ء يهتف ألف هاتف بالعدل وبالتطهر وبالتحرر وبالتسامي وبالسماحة وبالحب وبالتضحية وبالإيثار ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس ; ولا يفرض نفسه على القلوب لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان ليس المهم هو الكلام ولكن المهم من وراء هذا الكلام ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادى ء والمثل والشعارات مجردة من سلطان الله ولكن ما أثرها إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان ولا يكون لها في كيانهم من هزة ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر ثم إن قيمة هذه الوصايًا في الدين أنها تتكامل مع الإجراءات لتكييف الحياة فهو لا يلقيها مجردة في الهواء فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا ; وإلى مجرد شعائر ; فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق كما نرى ذلك الآن في كل مكان إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين ; وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات وهذا هو الدين في المفهوم الإسلامي دون سواه الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة وحين تحقق الدين بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة ; والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة ; كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء وحين تحول الدين إلى وصايا على المنابر ; وإلى شعائر في المساجد ; وتخلى عن نظام الحياة لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة

     

    الدرس السابع اختلاف مصير المؤمنين عن مصير الكافرين

    ولا بد من جزاء للمؤمنين من الله الذي يتعاملون معه وحده ; يشجع ويقوي على النهوض بتكاليف القوامة ; وعلى الوفاء بالميثاق ولا بد أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا وهم ينهضون بالتكاليف العليا والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله ; وتتذوق حلاوة هذا الرضى ; كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعا مع الطبيعة البشرية والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم وحاجتها كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين إن هذا وذلك يرضي هذه الطبيعة يطمئنها على مصيرها وجزائها ; ويشفي غيظها من أفاعيل الشريرين وبخاصة إذا كانت مأمورة بالعدل مع من تكره من هؤلاء بعد أن تلقى منهم ما تلقى من الكيد والإيذاء والمنهج الرباني يأخذ الطبيعة البشرية بما يعلمه الله من أمرها ; ويهتف لها بما تتفتح له مشاعرها وتستجيب له كينونتها ذلك فوق أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم ; وفيهما مذاق الرضى فوق مذاق النعيم ويمضي السياق يقوي في الجماعة المسلمة روح العدل والقسط والسماحة ; ويكفكف فيها شعور العدوان والميل والانتقام فيذكر المسلمين نعمة الله عليهم في كف المشركين عنهم حين هموا في عام الحديبية أو في غيره أن يبسطوا إليهم أيديهم بالعدوان يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وتختلف الروايات في من تعنيهم هذه الآية ولكن الأرجح أنها إشارة إلى حادثة المجمعة التي همت يوم الحديبية أن تغدر برسول الله ص وبالمسلمين فتأخذهم على غرة فأوقعهم الله أسارى في أيدي المسلمين كما فصلنا ذلك في تفسير سورة الفتح وأيا ما كان الحادث فإن عبرته في هذا المقام هي المنشودة في المنهج التربوي الفريد وهي إماته الغيظ والشنآن لهؤلاء القوم في صدور المسلمين كي يفيئوا إلى الهدوء والطمأنينة وهم يرون أن الله هو راعيهم وكالئهم وفي ظل الهدوء والطمأنينة يصبح ضبط النفس وسماحة القلب وإقامة العدل ميسورة ويستحي المسلمون أن لا يفوا بميثاقهم مع الله ; وهو يرعاهم ويكلؤهم ويكف الأيدي المبسوطة إليهم ولا ننس أن نقف وقفة قصيرة أمام التعبير القرآني المصور إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم إيديهم فكف أيديهم عنكم في مقام إذ هم قوم أن يبطشوا بكم ويعتدوا عليكم فحماكم الله منهم إن صورة و حركة بسط الأيدي وكفها أكثر حيوية من ذلك التعبير المعنوي الآخر والتعبير القرآني يتبع طريقة الصورة والحركة لأن هذه الطريقة تطلق الشحنة الكاملة في التعبير ; كما لو كان هذا التعبير يطلق للمرة الأولى ; مصاحبا للواقعة الحسية التي يعبر عنها مبرزا لها في صورتها الحية المتحركة وتلك طريقة القرآن

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()