إجابات عن أسئلة الأخت نور
بقلم: بسام جرار
توجهت أخت كريمة بمجموعة من الأسئلة تتعلق بمفهوم الابتلاء، ومفهوم استجابة الدعاء، ومسئولية الإنسان عن أفعاله، ومدى العدالة في تنوع الابتلاءات. وقد تم تلخيص إجابات الأستاذ بسام عن هذه الأسئلة في خمس مسائل:
مسألة في مفهوم الابتلاء:
في التصور الإسلامي الدنيا دار امتحان وابتلاء وليست دار جزاء، والتربية الإسلامية تقوم على هذا الأساس؛ وبالتالي فإنّ مسألة العدالة لا تتجلى حقيقتها إلا يوم القيامة. والابتلاء ليس عقوبة. وحتى عندما يكون الابتلاء عقوبة فإنه يكفر الذنوب ويرفع الدرجات، والنصوص في ذلك كثيرة.
جاء في الآية 35 من سورة الأنبياء:"... ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون": الفتنة في أصل اللغة: هي تعريض خام الذهب للنار والصهر لاستخراج الذهب وتمييزه عن الشوائب. والابتلاءات يقصد منها استخراج الخير من النفوس، أي من أجل أن تظهر حقيقة النفس، فإن كان فيها خير ظهر. والآية الكريمة تنص على أنّ الابتلاء قد يكون بأمور هي شر أو بأمور هي خير. وكل ذلك من أجل التمحيص لاستخراج الخير إن وجد؛ فمن ابتلي بفقر فصبر ولم يسرق ولم يغش... تجلت حقيقته الخيّرة. ومن ابتلي بكثرة المال فأكثر من الصدقة والبذل... تجلت أيضاً حقيقته الخيّرة. ولو خيّرتَ الناس لاختاروا أن يتم اختبارهم بالغنى، وذلك لأنّ الإنسان مفطور على حب المال. ولكن ليس من السهل أن نحكم أي الابتلائين أخطر على مصير الشخص؛ فكم من فقير صابر وكم من غني شاكر. في المقابل كم من غني قاده غناه إلى الانحراف والغرق في بحور الشهوات، وكم من فقير دفعه فقره إلى الانحراف والضلال. والنفوس أسرار، وليس في الابتلاء اختيار، وتتنوع الابتلاءات تنوعاً شديداً إلى درجة أنْ تتعدد تعدد الناس.
وقد يبتلى الإنسان بالنعم وبغيرها في آنٍ واحد؛ فكم من غني يتناوشه المرض، وكم من صحيح الجسم ابتلي بزوجة أو ولد عزيز. وكم من فقير استمتع بنجاح ولده وصلاحه، وكم من ضرير يتمنى أن يفقد المال وكل النّعم وتكون له نعمة النظر.... فهذه حقيقة الدنيا. وفي النهاية يموت الجميع ويفلح من أفلح، ويخفق من ظنّ أنّ الحياة هي نهاية المطاف. وحتى الذي يزعم بلسانه أنّ الحياة ليست نهاية المطاف فقد نجده في عواطفه وسلوكه يقول: بل إنّ الدنيا هي كل شيء ونهاية كل حي. وهذا يعني أنه بحاجة إلى هداية وتدريب ليصبح لديه الإيمان الحقيقي. فالأمر لا يحتمل إلا إجابة واحدة: هل هناك آخرة؟ من لم يكن مؤمناً بالآخرة فليفعل ما يشاء، وليحل مشكلته كما يشاء، بل إنّ انتحاره أفضل له، لأنّ الحياة عندها ستكون بلا معنى. أما من يؤمن بأنّ هناك آخرة وأنّ هناك خلوداً في عالم السعادة فليثبت أنّ إيمانه حقيقي. ولا يكون الإثبات كما يُحب هو ويشتهي، بل كما يريد من خلق ورزق واختبر:" لا يسألُ عما يفعل وهم يُسألون"الأنبياء 23
مسألة في الفطرة وعلاقتها بالتربية الإيمانية:
جاء في الآيات من 19 إلى 23 من سورة المعارج:" إنّ الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون....": هذه إذن طبيعة الإنسان، أنه يجزع عندما يصيبه الشر، ويَمنع ويبخل عندما يصيبه الخير، ولا بد لذلك من حكمة. ويمكن التخفيف من حدة سلبيات ذلك عن طريق التربية الإيمانية. ومن هنا نجد أنّ الآيات الكريمة تستثني المصلين الذين يواظبون على الصلاة.
حب الذات ضروري لاستمرار الحياة وقيام الحضارات، ولكنه قد يتحول إلى أنانية قاتلة. من هنا يحتاج الإنسان إلى تربية إيمانية تحدّ من غلواء حب الذات وتهذب هذا الحب ولكن لا تكبته. فلا بد إذن من حب الذات ولا بد من تربيةٍ تعين على تهذيبه. ولا يجوز لنا أن نكبت حب الذات ولا يجوز لنا في المقابل أن نطلقه. ولنعط على ذلك مثلاً من جسم الإنسان: فوجود الأظافر له فائدة عملية وأخرى جمالية، ولكن لا بد من تهذيبها. ومن هنا يسن في الإسلام تقليم الأظافر.
حتى يستطيع الإنسان مواجهة مشاكل الحياة الدنيا، والتي وجودها حتمي، يحتاج إلى بناء داخلي قوي، ويكون ذلك بمناهج تربوية شرعها الإسلام. ومن غير ذلك يقع الإنسان فريسة الهموم والإحباطات. والنظرة المادية للحياة لا يمكنها أن تضع الحلول المناسبة لمشاكل الفرد والمجتمع. والبعد الإيماني الأخروي هو الذي يُحصّل القناعات ويخلق الضوابط داخل النفس الإنسانية. ولا يكفي الإيمان، بل لا بد من العمل، فالفكرة التي لا تعمل تموت، كما الجسد الذي لا يعمل يضمحل حتى يموت.
مسألة في ضرورة التفاوت الفردي والاجتماعي:
واقع الحياة وضرورة قيام الحضارات واستمرارها يقتضي أن يكون أهل الغنى المادي هم الأقل. وليُترك الناس ليتنافسوا، بشرط أن يكون التنافس شريفاً ومنضبطاً. وفي الوقت الذي يصبح فيه الكل غنياً يتوقف كل شيء وينهار. ولنأخذ مثلاً البيوت التي نعيش فيها ونتفيأ ظلالها؛ لنفكر أولاً بالحجارة ومن استخرجها ومن هذبها ومن حملها ونقلها ومن شحنها ومن بناها. ثم بعد ذلك لنفكر في الإسمنت وبعمال مصانع الإسمنت والحمالين والإداريين وأصحاب الشاحنات ثم عمال البناء. وبعد ذلك لنفكر بالحديد ومن استخرجه من المناجم.....ألخ. لو كان كل هؤلاء أغنياء ما الذي سيجبرهم على مثل هذه الأعمال. بل إنّ الله تعالى لم يخلق من العباقرة إلا النسبة الأقل، ولم يجعل الطموح الجامح إلا في عدد محدود، ولم يجعل القادة المتميزين إلا ندرة في الناس... ولم... ولم...الخ. بل جعل سبحانه في الناس الميول المختلفة؛ فمنهم من يحب العمل الجسماني، ومنهم من يحب العمل الفكري، ومنهم من يحب الزراعة، ومنهم من يحب الصناعة.....ألخ. وحتى لا تكون ضرورة التفاوت مدخلاً للظلم والاستعباد جاء الدين ليعلن أنّ الناس سواسية كأسنان المشط، وشرّع الشرائع التي تكفل الكرامة الإنسانية وتمنع التفاوت المؤدي إلى انحصار الثروة في أيدي فئات قليلة من الناس، وتمنع أن يكون الفقر والحرمان ظاهرة من ظواهر المجتمع المؤمن.
من هنا ندرك لماذا أخفقت الشيوعية وانهارت. كيف لا، وقد كانت تفتقر بشدة إلى الواقعيّة. والمهم أن لا يكون هناك ظلم وأن لا يكون طغيان. أما أن يتماثل الناس فهذا مستحيل وغير واقعي. نعم لن يتماثل الناس في غناهم ولا في فقرهم، ولا في آمالهم ولا في طموحاتهم، ولا في ميولهم ولا في رغباتهم، ولا.. ولا ..،لأنّ المطلوب تكامل الأدوار من أجل الجميع.
من هنا لا بد من غرس مبادئ الدين والقناعات الأخروية في الناس حتى لا ينتشر الظلم والاعتداء والغش والسرقة والقتل والاغتصاب....ألخ. فالتربية الدينية إذن هي الحل لمشاكل الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي.
هل الأصح والأسلم أن نحرّض الفقير ليسرق الغني، أم نحرّضه ليبذل جهده الشريف ليخرج من فقره؟! وهل الأصح أن نحرّض من عنده زوجة قبيحة المنظر أن يطلقها ثم يسعى إلى زوجة آخر لأنها جميلة، أم نربيه ليكون صبوراً وعفيفاً وملتزماً مع أطفاله لما في ذلك من الثواب العظيم؟! فإذا كانت نسبة الجميلات في أي مجتمع 10% ،على سبيل المثال، فكيف نحل مشكلة 90% من الرجال؟! هل نقول لهم لا ترضوا بهذا الواقع الظالم وعليكم أن تثوروا وتغتصبوا الجميلات!! وإذا فعلوا ذلك هل تحل مشكلة كل الرجال بهذه الطريقة؟! أم يجب علينا أن نحل مشكلتهم من الداخل بإيجاد القناعات وتدريبهم على الصبر وغض البصر والبعد عن الظلم، وأن نفهمهم أن في ذلك الثواب العظيم، وإلا فإنّ الله هو المنتقم الجبار؟!
من يؤمن بالآخرة فلديه دوافع حقيقية للصبر والقناعة والتضحية... أما من يفقد هذا البعد فلماذا يصبر، ولماذا يضحّي، بل ولماذا يعيش، ولماذا يلتزم القيم والمبادئ؟!
والخلاصة: بغير تربية دينية ستتفاقم معاناة الناس ومشاكلهم، ولا يمكن حل مشاكل البشر إلا بالوعي والتربية الإيمانية والإيمان الأخروي.
مسألة في المسئولية:
" يتناسب الإثم تناسباً عكسياً مع الضغوط، ويتناسب الثواب تناسباً طردياً مع الضغوط".
والضغوط يمكن أن تكون داخلية، ويمكن أن تكون خارجية؛ فالأمراض النفسيّة والغضب، مثلاً، هي من الضغوط الداخلية، والإكراه هو صورة من صور الضغوط الخارجيّة. وعليه فكلما زادت الضغوط قلّت المسئولية، حتى تتلاشى عند حد ما، فلا يكون المرء عندها مسئولاً عن تصرفاته، كما هو الأمر في الإكراه. وفي المقابل، إذا صبر الإنسان وقاوم الضغوط يكون ثوابه أعظم.
أما فيما يتعلق بالعلم فيمكن صياغة القانون كالآتي:
" تتناسب المسئولية تناسباً طردياً مع العلم"، فكلما زاد العلم زادت المسئوليّة، فمسئوليّة الذي درس وعاين البراهين هي أكبر من مسئولية غيره ممن هم أقل منه علماً وإحاطة.
عندما سألَ الحواريون أن تُنزل عليهم مائدة من السماء، دعا عيسى، عليه السلام، قائلاً: "اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ..."، فجاءت الاستجابة في الآية 115 من سورة المائدة:" قال الله إنّي مُنزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإنّي أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"، أي يُعذّبُ عذاباً لا يعذبه حتى طغاة الكفرة وقتلتهم، لأنّ العلم الذي تحصّل لديهم نتيجة مشاهدتهم نزول المائدة يجعل مسئوليتهم أكبر من غيرهم ممن لم يشاهدوا مثل هذا البرهان. ثمّ إنّ هذا البرهان قد جاءهم وعندهم ما عندهم من الإيمان، على خلاف ما كان عند فرعون مثلاً.
من هنا ندرك أنّ العدالة كاملة، إذ إنّ البشر بذلك يتعرضون للاختبار والامتحان نفسه، فكلما زادت الضغوط زاد الثواب وقلّ الإثم، وكلما زاد العلم زاد إثم العاصي، مقارنة بمن هم دونه في العلم....
تنص التشريعات والقوانين البشريّة على معاقبة من يخالفها، وهناك ظروف مخففة. ولا يُعقل أن يعاقب من يرتكب جريمة في حالة الغضب الشديد بمثل عقوبة من يرتكب الجريمة نفسها عن سابق إصرار وتخطيط.
هذا في عالم الواقع، أمّا في عالم النظريات، فهناك بعض الفلسفات تحاول أن تعذر المجرم، على اعتبار أنه اكتسب ميله الإجرامي وراثياً. وهناك من يرى أنّ الإنسان من صنع بيئته. وهناك من يرى أنه من صنع البيئة والوراثة معاً. وقد يروق للبعض أن يتبنّى مثل هذه النظريات لتبرير سلوكه وانحرافه. ونحن هنا لا نريد أن نثبت خطأ أو صواب مثل هذه النظريات، وإنما نريد أن نُسلّم جدلاً بصحتها، لعل فيها قدراً من الصحة.
عندما نراقب سلوك الناس يلفت انتباهنا أنّ سلوك الأفراد يختلف باختلاف المواقف؛ فالأم تصبر كثيراً على سلوك وانحراف ولدها، ولكنها هي نفسها تثور بسهولة في وجه حماتها، مثلاً، أو في وجه كل من تُبغضه. وإذا كانت هذه المرأة لا تسيطر على أعصابها في مقابل من تكرهه نجدها تسيطر على غضبها في مواجهة من تحبه، أو في مواجهة من تخافه. هذا يعني أنّ كل إنسان منا يملك في داخله قوة تضبط وتسيطر على الدوافع والرغبات والنزوات والشهوات.
فالمجرم يبادر إلى الجريمة في حال القوة والأمن من العقوبة، ولا يسهل عليه في هذه الحالة أن يسيطر على دوافعه. وفي المقابل إذا كان هذا الشخص ضعيفاً ويخشى وقوع العقوبة نجده يُصَعّد من قوته الداخلية فيضبط نفسه ويتكلّف السلوك الإيجابي.
لاحظ سلوك السكرتير في مواجهة مديره، ثم لاحظ سلوك السكرتير نفسه مع الموظف الذي هو تحت إمرته. ولاحظ سلوك الزوج مع زوجته التي يحبها، ثم لاحظ سلوكه معها لو كان يُبغضها. لاحظ سلوك الناس في حالة الخوف الشديد، ثم لاحظ سلوكهم في حالة الأمن والرفاه.
نعم، هناك قوة هائلة داخل كل إنسان تساعده على الانضباط، وهي تجعلنا قادرين على السيطرة على غرائزنا وشهواتنا ودوافعنا، بغض النظر عن دور المجتمع أو الوراثة.
يحتاج كل إنسان منا أن يضبط ويسيطر على نوازعه ودوافعه. من هنا لا بد من التربية التي تقوي فينا الإرادة. جاء في الآية 45 من سورة العنكبوت:" إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، وجاء في الآية 183 من سورة البقرة: " كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" .
وكذلك فإننا بحاجة إلى العلم الذي يجعلنا أكثر وعياً وإحساساً بالمسئوليّة. ثم نحن بحاجة إلى نظام العقوبات الذي يساعدنا في السيطرة على أنفسنا، سواء كانت هذه العقوبات دنيويّة أم أخرويّة.
مسألة تتعلق بمفهوم الاستجابة:
جاء في الآية 60 من سورة غافر:" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم...": لكل دعاء صادق يصدر عن خضوع لله واعتراف بربوبيته استجابة. والمقصود بالاستجابة أن يكون هناك إجابة تدل على قبول. ويتصور البعض أنّ ذلك يعني تحقيق المطلوب كما طلب. والصحيح أنّ معنى الاستجابة أنّ هناك جواباً إيجابياً لطلبك. وقد جاءت السنة وبيّنت أنّ الجواب يكون على صور: استجابة فورية وحصول المطلوب، كمن يطلب النجاة في حالة الخوف على الحياة. أو تأخير ذلك إلى الآخرة فيثاب عليه بأعظم مما طلب، فقد ورد أنه في الآخرة يقال له:" هذا ما طلبْتَه في الدنيا، وقد ادْخرتُه لك لهذا اليوم. حتى ليتمنى العبدُ أنه ليته لم يُعطَ شيئاً في الدنيا قط"، أو أن يدفع عنه من الشر ما هو أنفع له من إعطائه المطلوب، أو أن يستجاب له بأفضل مما طلب. وعليه فأي دعاء له إجابة والإجابة لها صور.
جاء في صحيح البخاري- في الحديث القدسي- وذلك في حق الولي: "... ولئن سألني لأعطينه...": هنا كلام عن إعطاء السائل ما سأل، أو زيادة، وليس الكلام عن إجابته، لأنّ الكلام هنا عن الولي الذي بلغ مرتبة رفيعة.
جاء في الآية 41 من سورة الأنعام:" بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء...": والكلام هنا موجه للمشركين، فقد يدعو المشرك فيستجاب له. والأمر هنا – كما هو ملاحظ - مبني على المشيئة الإلهية، وهذا ليس فقط لأنّ الداعي هنا هو المشرك، بل أيضاً لأنّ سياق الكلام هنا عن الكشف وليس عن الاستجابة للدعاء.
ولو كان كل من دعا أعطي مطلوبه على الفور، لأصبحت الدنيا دار ثواب ولم تعد دار امتحان. ولما وجدنا هناك من يكفر، ولما وجدنا هناك من يعصي، ولما وجدنا أحداً يكد في الحياة ويتعب، لأنّ الأسهل من ذلك أن يرفع يده ويدعو.