بتـــــاريخ : 10/9/2009 2:10:02 AM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1715 0


    الحداثة والتفسير

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : بسّام جرار | المصدر : www.islamnoon.com

    كلمات مفتاحية  :
    التفسير الحداثة

     
    بسم الله الرحمن الرحيم
     
     :: الحداثة والتفسير  
     
          بقلم: بسّام جرار
     
     
     
             الحداثة من المفاهيم التي تختلف فيها الآراء، وتتضارب فيها وجهات النظر، وهذا أمر مألوف في العلوم الإنسانية، والتي تتأثر بقوة بالفلسفات المختلفة، وهي تختلف عن العلوم الطبيعيّة، والتي تتميز بإمكانية تحديد المفاهيم، وحسم الخلافات، وهي أيضاً على النقيض من الرياضيات، والتي هي عالم الحقائق غير القابلة للاختلاف. ونحن هنا نرغب في بلورة مفهوم الحداثة على ضوء كتابات المؤمنين بالحداثة الغربية من العلمانيين الذين لا يؤمنون بإمكانية التقاء العلمانية بالدين، بل إنّ الدّين في نظرهم هو نقيض للحداثة. وإليك تلخيصاً لما يمكن أن تعنيه الحداثة في منظار الكثيرين من الحداثيين المادّيين، سواء أكانوا ماركسيين أم كانوا علمانيين:
     
     
         1.       الحداثة تعني سيادة العقل، وسيادة العقل من أهم أسس فلسفة التنوير، والعلمانية من أبرز ثمار الحداثة.
     
         2.        تتعارض الحداثة مع كل ما هو تقليدي، وهي تنفي كل الثقافات السابقة عليها.
     
      3.    الحداثة تعني التغيير المستمر، وهذا التغيير يؤدي إلى أزمات داخل المجتمعات التي تجد نفسها مضطرة إلى مراجعة القديم على أساس من العقلانيّة، والعقلانية هي التي تؤدي إلى الحداثة وليس العكس.وهذا ما حدث تاريخياً في أوروبا.
     
      4.    الحداثة تعني أنّ الحقائق تستمد قيمتها من كونها نتاجاً للعقل البشري، وهي تعني حرية الاختيار للقيم والأساليب، وبالتالي تُحل العلم محل الإله.
     
    واضح أنّ الكثير من الحداثيين في بلادنا يجعلون من التجربة الغربيّة قانوناً عامّا، ومعلوم أنّ الحداثة الغربيّة تولّدت داخل الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانية في القرن التاسع عشر، وأدّت إلى القول بنفي العصمة عن الكتاب المقدّس، وإلى إعادة تأويل التعاليم الكاثوليكيّة، وثبت بعد مضي ما يقارب القرنين أنّ الحداثة الغربية هي ظاهرة تاريخية فريدة، وهي غير قابلة لأن تتكرر، بل هناك من فلاسفة الغرب من يقول بأن مرحلة الحداثة قد انتهت في الغرب، وأنهم الآن في مرحلة ما بعد الحداثة، وقد أصبح واضحاً الآن أنّ الحداثة قد ضحّت بالإنسان لحساب التّقنيّات والوسائل المادية، وأصبح واضحاً أنّ العلم لم يحقق الآمال التي عقدت عليه، وعلى رأس هذه الآمال الحريّة الجوهريّة، فقد أصبح الإنسان حراً في الشكل، مستعبداً في الجوهر، وأصبح آلة صغيرة في دولاب ضخم لا يتوقف عن الحركة، وتفاقمت مشكلات الإنسان، وعلى وجه الخصوص الاجتماعية منها، ووقف العلم عاجزاً عن تقديم الحلول في مجال الإنسانيّات، على خلاف واقع العلم في مجال الكونيّات.
     
     
    إذا كانت مرحلة ما بعد الحداثة هي وليدة مرحلة الحداثة، فإليك بعض تجليات هذه المرحلة:
     
     
      1.    الشكّ في كل شيء هو القانون، لا يقين على مستوى المعرفة، لا يستطيع الإنسان أن يؤكد شيئا، وهذا يعني أنه لا حقيقة.
     
      2.    يجب إسقاط أي سلطة فكريّة في المجتمع، وكذلك كل سلطة للقيم، ويجب أن تتلاشى كل القيم التي توجّه الثقافة وتحكمها.
     
      3.    هذا يعني أن الناس يركبون حافلة تسرع بلا فرامل، في طريق يغشاه الضباب الكثيف، والحافلة تسير على غير هدى، ولا هدف ولا غاية.
     
      4.    إنها الحريّة التي تقود إلى العبثيّة، والتي لا يدري أحد على أي صورة سيكون مولودها القادم، إنها الهروب من الإجابة عن السؤال الأزلي الهائل: لماذا الحياة؟ وما معنى الاستمرار؟ وماذا بعد؟
     
    قدّست الحداثة العقل فكانت النتيجة الكفر بالعقل وقدرته على الحسم، وعقدت الحداثة الآمال على العلم في حل مشكلات البشرية، فتفاقمت هذه المشكلات، ويحسن هنا الاستشهاد بما نسب إلى المسيح عليه السلام"من ثمارهم تعرفونهم". وغني عن البيان أنّ العلوم الإنسانية هي موضوع الحداثة، وما يثور حولها من نقاش وجدل، أمّا تحديث الوسائل المادّيّة والعلوم الكونيّة فليس محل جدل، بل هو محل لقاء وتعاون، لعدم خصوصية العلوم الكونيّة. أما الرغبة في الحريّة المطلقة فقد أدّت إلى تحطيم ضوابط القيم مما أدى إلى سقوط الإنسان الغربي في براثن القلق، والخوف، والشعور بانعدام الوزن، وفقدان الغاية، مما أدى إلى فقدان كل شيء معناه… نعم هذا ما تبشر به الحداثة ووليدتها العلمانيّة.
     
     
     
    الاجتهاد في الإسلام ودور العقل 
     
            يقسّم الفقهاء المسلمون الأحكام الشرعيّة من حيث مصادرها إلى أربعة أقسام:
     
     
                1.        أحكام تستمد من مصادرها القطعيّة(النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة) وهذه ليست محلاً للاجتهاد.
     
               2.        أحكام جاء فيها الإجماع وعلى وجه الخصوص إجماع الصحابة، وهذه أيضاً ليست محلاً للاجتهاد.
     
               3.    أحكام تستمد من مصادرها الظنيّة (النصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة، أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة) وهذه محل اجتهاد.
     
                4. أحكام لم ترد فيها نصوص من قرآن أو سنّة، وهذه أيضاً محل اجتهاد.
     
     
    نخلص من ذلك إلى القول بأن هناك ثابتاً ومتغيّرا، وهناك إطاراً واضح المعالم، وهناك روحاً تشيع يجب أن تصاحب كل من يجتهد، وغني عن البيان أن الاجتهاد هو إعمال العقل في فهم النّص، ويكون ذلك في إطار من الثوابت، والتي هي من إبداع العقل المؤهل، وعندما يغلب على الظن أنّ فهماً ما هو الأقرب إلى الصواب فإن الدين يلزمك بما رجح لديك، ولا يوجد مسوغ عقلي للأخذ بالمرجوح. وهذا يعني أنّ الدين يرضى منك في كثير من المسائل بما هو أقل من اليقين، وعلى وجه الخصوص في غير أساسيّات العقيدة والشريعة. أمّا الأساسيات فكان لا بد أن تقوم على الدليل القطعي باعتبارها المنطلق، وباعتبارها الإطار. وهذا كله يتناقض مع أسس الفلسفة الحداثية الغربيّة التي لا تؤمن بأي ثابت، وتنتهي بالتشكيك في كل الحقائق، في مسيرة أدّت إلى فقدان البوصلة، وأدّت إلى تحطم الأطر التي تحفظ الثقافة وتحمي القيم.
     
     
     
    ولكن ما دور العقل؟
     
     لم يكن للعقل دور في الإيمان الكنسي، ولم يُثبت العقل أنّ الكتب المقدّسة لدى اليهود والمسيحيين ذات صلة بالوحي، بل قامت الأدلة العقلية على بشرية هذه الكتب، ومن هنا كانت الحداثة الغربية في البداية هي إعادة تأويل التعاليم الكاثوليكيّة، وقد انبثق الفكر الحداثي من الأزمة التي عاشها الغرب في عصور التنوير، وهذا يتناقض تماماً مع واقع الإسلام، وواقع المجتمعات الإسلامية، إذ إن القرآن الكريم لم يكلفنا بالإيمان إلا عن طريق القناعات العقليّة، ولا بد أن يُثبت العقل صلة القرآن والسنّة بالرب الخالق، وهذا لا يعني أننا ننكر دور القلب في التوجه الإيماني، ولكن دور العقل لا بد أن يبقى قائماً من البداية وحتى النهاية، وإذا كانت الأزمة قد وجدت في الغرب في مرحلة التنوير، فإنّ الأزمة عندنا وجدت في عصور التخلف، أو نتيجة للتخلف، وبعودة الوعي عادت المصالحة، ولم تعد هناك أزمة إلا لدى دعاة الحداثة الغربيّة، وهؤلاء لديهم أزمة مزدوجة، أزمة نابعة عن فلسفة الحداثة، وأزمة ناتجة عن شعورهم بالغربة، وعلى وجه الخصوص عندما تصالحت الأمّة العربية والإسلامية مع ذاتها الحضارية، وهذا قد يفسر عنف الحداثيين في مواجهة الصحوة الإسلامية.
     
     
    نعم لا بد من العقل، ومن هنا قال علماء الإسلام إنه لا يصح إيمان يقوم على التقليد، بل لا بد أن يقوم على الدليل العقلي حتى يقبل، لكن في المقابل نؤمن بأنّ العقل قاصر، وهذا من البدهيّات، ولكن قصوره لا يعني أنه غير قادر على الوصول إلى الحقيقة، ولنفرض أنّ ما رآه العقل حقيقة في عصر من العصور قد ثبت عدم صحته، فإنّ ذلك لا يطعن في قدرة العقل على الجزم والحسم في كثير من المسائل، بدليل تطور العلوم، وتحقق الإنجازات في عالم التقنيّات. وعلى أية حال فالقاعدة الذهبية يلخصها قول الله تعالى:" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" أمّا أن يتخذ الحداثيّون قصور العقل وسيلة للتحلل من كل شيء، وذريعة لهدم القيم، فإنّ ذلك مما يرفضه الإسلام، فلو كان العقل قادراً على إعطاء الإجابة دائماً لما كان هناك حاجة لنزول الدين والأخذ بيد الإنسان. ولا ننسى أن الدين قد نزل ليعين الإنسان في مجال العلوم الإنسانية، ليس فقط لتنويره، بل أيضاً لتكليفه وإلزامه، أمّا علوم الطبيعة والكونيّات فقد تركت له، لقدرته على التعامل مع المحسوسات، وقد توسل الحداثيون بقدرة العقل في عالم المادة للزعم بأنّ ذلك ينطبق على العلوم الإنسانية، ثم عادوا ليشككوا في كل شيء.
     
     
     
    ماذا عن تفسير القرآن الكريم؟
     
    اليوم وبعد أن أخفقت محاولات العلمانيين والماركسيين في تغريب فكر الأمة، وبعد أن أخفق الفكر الحداثي، وبعد أن أصبح واضحاً أن الأمة تعود إلى فكرها، وثقافتها، وحضارتها، نجد أن كهّان الفكر الحداثي الغربي في بلادنا يسعون إلى الالتفاف على النص القرآني، لزعزعة أسس الفكرة الإسلامية. انظر إلى أقوال كبير من كبرائهم، وهو حسن حنفي، يقول صفحة 388 من كتاب الإسلام والحداثة:" ما لم نقض على هذا التصوّر الثنائي للعالم، ورؤية العالم بين حاكم ومحكوم، وعلى مستوى الديني بين خالق ومخلوق، فلن تستطيع حركات تحرير المرأة أن تفعل شيئا. ولن يستطيع المثقف العلماني أن يؤدي دوره ما لم نقض على هذا التصور.." وانظر إلى قول آخر:" أفضل طريقة للهجوم على الوعي الديني هي جعله كياناً مستقلاً من حيث هو علاقة بين العبد وربّه "، إذا كانت هذه هي الأهداف، فما هي الوسائل لتحقيق ذلك؟
     
     
    يقولون: إنّ النص الديني ليس حكراً على الإسلاميين، وبإمكان كل إنسان أن يفسر القرآن، وأن يجتهد في الدين!! ونحن بدورنا نقول: نعم بإمكان كل إنسان أن يجتهد بشرطين: الأول أن يكون مؤمناً بالأسس، لأن الدين أمانة، وليس بإمكاننا أن نأخذ من إنسانٍ يسعى إلى هدم أسس الدين. والشرط الثاني: أن يكون من أهل الاجتهاد، أي أن تتوافر فيه الشروط المطلوبة، وهذا شرط يطلب في كل علم:في الطب، وفي الصيدلة، والأدب، والفلسفة… ويمكنهم إذا لم تتوافر فيهم هذه الشروط أن يتكلموا كما يشاءون، وهم يعلمون تماماً أن لا أحد يصغي لكلامهم، لأن الناس يسهل أن تميّز بعقولها وقلوبها، والواقع يشهد بذلك.
     
     
     
     يقولون: من يستطيع أن يزعم أنّه يملك الحقيقة؟! ونقول بدورنا، هناك دائماً وفي كل المجالات من يزعم أنه يملك الحقيقة، ولكن الزعم لن يغني من الحق شيئا، فلا بد من الدليل والبرهان، وفي الإسلام لا نكفّر أحداً حتى ينكر ما علم من الدين بالضرورة، أي ما ثبت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، واشتهر بين المسلمين وأجمعوا على فهمه. أمّا في الأحكام الشرعيّة فيكفينا ما ترجحه الأدلة في حدود إمكانات الإنسان، وهذا من بدهيّات الإسلام، لأن الجانب العملي من الدين يكفي فيه غلبة الظن من أجل سير الحياة واستمرارها، ولا يعقل أن نجمد في الحاضر بزعم أنّه قد يظهر لنا الخطأ في المستقبل.
     
     
         
     
     
    ويقولون: إن النص القرآني جاء لزمن معين، فيجب علينا أن نفسره على ضوء الواقع التاريخي، ويقصدون بذلك أن يترك لهم مطلق الحرية لإسقاط آرائهم ووجهات نظرهم على النص، فيكون لهم حرية تأويله بعيداً عن دلالات النصوص القطعيّة والظنيّة. ويقولون: إنّ علماء الإسلام يرفضون إعمال العقل في النص، وهم يعلمون أنّ ذلك غير صحيح، ويعلمون أنّ التاريخ الإسلامي حافل بالاجتهادات، والحوارات، والمناظرات الفكرية، وأنّ ذلك أفرز المذاهب، والمدارس الفكريّة. أمّا موضوع العقل والنص، فقد تم فيه التفصيل على أساس من البراهين العقلية.
     
     
            وحتى لا نطيل الكلام في أقوال فلاسفة الحداثة بالمفهوم الذي بيناه، قد يكون من الأنسب أن نحدد موقفنا من تحديث التفسير بعيداً عن فلسفة الحداثة، وبعيداً عن أهدافهم في مواجهة الدين لنقضه وطمس معالمه.وقد يحسن في البداية أن نلخص موقف العلماء من تفسير القرآن الكريم وتأويله:
     
        1.    من حق كل إنسان أن يُعمل عقله في فهم القرآن الكريم، بشرط أن يُلم باللغة العربية، وأن يكون على معرفة بدلالات الألفاظ في عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكلمة (التأويل) على سبيل  المثال لها في القرآن معنى آخر غير ما اصطلح عليه أهل التفسير فيما بعد.
     
       2.    الأصل بقاء النصوص على ظاهرها، والأصل أن تدل على معانيها كما وُضعت في اللغة، ويمكن صرف المعنى من الظاهر والحقيقة إلى المجاز أو الكناية إذا قام الدليل الذي يدعونا إلى ذلك.
     
       3.        التأويل والذي هو صرف المعنى عن حقيقته مقبول إذا دل عليه دليل صحيح من اللغة، أو الشرع، أو العقل.
     
     
       4.   إذا تم صرف اللفظ عن معناه الظاهر (الراجح) إلى معنى (مرجوح) وقام الدليل على صحة ذلك، يصبح المعنى المرجوح راجحاً.
     
       5.   الأصل بقاء العام على عمومه حتى يأتي ما يخصصه، والأصل بقاء المطلق على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده، ونقصد بـ (يأتي) هنا، أن يقوم الدليل على ذلك.
     
       6.   لا يكفي الإلمام باللغة العربية للتصدي لتفسير القرآن الكريم، فلا بد من الإلمام بعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، وعلم الكلام، ولا ننسى أن أسس علم الأصول تستمد من القرآن، والسنة، واللغة العربية، والعقل، وكذلك علم الكلام.
     
       7.   أهل السنة والجماعة يعترفون بقصور العقل البشري، لذلك نجدهم يقدّمون الوحي، وهذا لا يقدح في مكانة العقل، بل هو اعتراف بقصوره،   وهذه مسألة خاض فيها العلماء، واختلفت فيها المدارس الفكرية التي لم تخرج على أسس الإسلام وروحه. ولا ننسى أن الوحي لا يثبت إلا بالعقل.
     
        8.             قول العلماء :"لا اجتهاد في معرض النص" يقصد به النص القطعي في ثبوته القطعي في دلالته كقوله تعالى :"إنما إلهكم اله واحد".
     
     من يرجع إلى تاريخ تفسير القرآن الكريم يجد أن هناك عدة مدارس منها المدرسة التي تقتصر على التفسير بالمأثور، وتنكر التفسير بالرأي، وهذا أدى فيما بعد إلى وضع قواعد وضوابط للتفسير بالرأي، ويندر أن نجد اليوم من ينكر التفسير بالرأي القائم على أسس علمية سليمة، أما الرأي الذي لا يقوم على أسس، وإنما هو الأوهام والأهواء، فهو ما يسمى عندهم بالرأي المذموم، والمتدبر لكتب التفسير القديمة والحديثة يجد الكثير من المفسرين يعكسون خبراتهم وخبرات عصورهم في تفاسيرهم، ويلحظ بجلاء تجليات العقل، الذي يغلب أن يكون محكوماً لمعطيات العصر، وتجليات البيئة. فماذا يقصد الحداثيّون عندما يطالبون بعقلنة التفسير، فهل غاب العقل يوماً؟! وكيف يمكن أن نبدع في التفسير بعيداً عن العقل والعلم؟! إن الكثير من المفسرين يغلب أن يكونوا من أهل الإبداع.
     
     
    مدارس التفسير في القرن العشرين 
     
    تميّز القرن العشرون بظهور مدارس عملت على تحقيق انطلاقة في منهج التفسير، رغبة في الإصلاح والتحديث، ومن أشهر هذه المدارس حسب ظهورها تاريخياً:
     
     
       1.   المدرسة العقلية: وهي مدرسة تُعلي من شأن العقل، وتسعى إلى الإصلاح الاجتماعي من أجل معالجة أسباب التخلف في العالم الإسلامي. وعلى رأس هذه المدرسة الإمام محمد عبده، وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا.
     
       2.   المدرسة العلميّة: وهي مدرسة تعمل على تفسير القرآن الكريم على ضوء المعارف العلميّة المعاصرة، ويعتبر طنطاوي جوهري من الرواد الأوائل لهذه المدرسة.
     
       3.   المدرسة الأدبيّة: وهي مدرسة تنطلق من كون القرآن معجزة بيانيّة، لذلك يعتبر البيان هو المسلك السوي لتجلية معاني القرآن الكريم ومراميه.وكان الشيخ أمين الخولي من أبرز روّاد هذه المدرسة، وسار على خطاه تلميذته وزوجته عائشة عبد الرحمن(بنت الشاطئ).
     
      4 .   المدرسة الحركيّة: وهي تلتقي مع المدرسة العقليّة، وعلى وجه الخصوص في نزعتها الإصلاحية، والاجتماعيّة، ورغبتها في ربط تفسير القرآن الكريم بواقع الأمّة، وتشخيص هذا الواقع، ومحاولة وضع الحلول لمشاكلها. إلا أنّ هذه المدرسة تجنّبت المزالق التي وقعت فيها المدرسة العقلية في الموقف من النصوص، فهي أكثر نضوجا، وهذا أمر مفهوم نظراً للفارق الزمني.
     
      5.   هناك من يرى أنّ هناك إشكالاً في مفهوم التفسير ومناهجه، ويرى في التفسير الموضوعي بديلاً ينبغي أن تتوجه إليه عناية المفسرين.
     
     
    الموقف من تحديث التفسير 
     
    يمكن أن نلخص الموقف من التحديث في النقاط الآتية:
     
     
    1. القواعد والضوابط والشروط التي وضعها العلماء، والتي يجب توافرها في المفسر أو المجتهد، هي من تجلّيات عقول المفسرين والمجتهدين، وهذا لا يعني أن نتوقف عندها، بل يمكن أن نبدع في ضوابط أكثر دقة، وأصوب منهجية.
     
    2. يتناسب فهمنا لمعاني القرآن الكريم تناسباً طردياً مع وعينا، وخبراتنا، ومنهجيتنا في التفكير، فنحن نأخذ من القرآن بقدر وسعنا، وهذا يعني أن الأخذ من القرآن الكريم يتصاعد بتصاعد الوعي البشري.
     
     
    3. فَهمُ العلماء عبر العصور هو تراث، ولا يتسم بالقداسة، ويمكن مراجعة كل قول من أقوالهم. وإذا قام الدليل على خطئهم تعين علينا أن نتبنّى ما قام عليه الدليل.
     
     
    4. يمكن الاستفادة من التطورات التي حدثت في مناهج البحث والاستنباط والتدليل، ويبقى العقل حكماً عدلاً على الرغم من قصوره.
     
     
    5. التحديث في الوسائل، والطرائق، والمناهج، يُجلّي إعجاز القرآن الكريم، كما هو الحال في التطور عند علماء الطبيعة والكونيات، كيف لا، والذي خلق هو الذي أنزل، سبحانه وتعالى؟!
     
     
    6. تبشر العلوم الحديثة بتجليات قرآنية، وقد أصبح هذا واضحاً على ضوء ما حصل في القرن العشرين، فإن الكثير من وجوه الإعجاز ظهرت وتجلت بعد أن تقدم الناس في العلوم المختلفة، سواء أكانت علوماً إنسانية، أم كانت علوماً كونية.
     
     
    7. الحركة الفكرية التي أحدثها القرآن الكريم، ونتج عنها المدارس، والمذاهب، والفرق، لم تكن ظاهرة تاريخية انقضت، بل هي حركة مستمرة باستمرار العلاقة السوية بالقرآن الكريم، ومن هنا يتوقع أن نشهد قفزات واسعة تتعلق بعلوم القرآن الكريم، على ضوء التطورات المعاصرة.
     
     
    8.القرآن الكريم كتاب في العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والتاريخ …………وهو أيضاً كتاب في منهجيّة التفكير، بشرط أن يتم التعامل معه مباشرة، والدارس للتاريخ يلحظ أن البشرية قد قفزت قفزات واسعة في منهجية التفكير بعد نزول القرآن الكريم، ويلحظ أن أول ما ظهر من العلوم بعد نزول القرآن هي العلوم المنهجية مثل: علم أصول الفقه، و علم أصول الحديث، علم النحو والصرف. وليس من قبيل الصدفة أن يظهر الفقهاء قبل ظهور علماء الفيزياء والكيمياء والجبر…..واليوم يمكن أن نستمد المنهجية بالتعامل المباشر مع القرآن الكريم، وإذا تكونت المنهجية السليمة نكون قد وصلنا إلى مفاتيح الحل لمشكلات الحياة، وليس مفاتيح فهم القرآن فقط. ولا شك أن الكثير من الاشكالات الفكرية والعلمية التي نشأت في التاريخ كانت ترجع إلى الخلل في منهجية التفكير، ومنهجية البحث، ومنهجية الاستنباط والاستقراء….
     
     
    9. إن أي نص بشري يمكن أن يحمل من المعاني ما لا يقصده الكاتب، وهذا غير متصور في نص هو من وحي الله سبحانه وتعالى، بل إن كل ما يحتمله النص هو من مراد الخالق، ونعني بذلك الاحتمال الذي يقوم عليه الدليل، ولا يتصور أن يتضمن القرآن الكريم من المعاني ما لا يريده الله تعالى، وعليه لا يجوز أن نتوقف عند حد في الفهم والاستنباط، لأن علم الله مطلق، وعلم البشر محدود مقيد.
     
     
     تجربة مركز نون :
     
     مركز نون للدراسات والأبحاث القرآنية، مركز يعنى بالدراسات الإعجازية، وعلى وجه الخصوص ما نسميه الإعجاز الرياضي (العددي)، وقد وجدنا أن لهذه المنهجية الجديدة في التعامل مع القرآن الكريم انعكاسات إيجابية على علوم القرآن الكريم، ومنها علم التفسير، ويمكننا اليوم أن نحسم الكثير من الخلافات المتعلقة بتاريخ القرآن الكريم عن طريق الاستعانة بالإعجاز العددي، ويسهل عن طريق هذا الوجه من وجوه الإعجاز أن نفند مزاعم الحداثيين، الذين يقولون بأن القرآن يعبر عن مرحلة تاريخية محددة، أو أنه وحي يخاطب الناس في عصر من العصور. نعم إنّ التحديث في المنهج هنا سهّل علينا الرد على مزاعم الحداثيين بالمفهوم الغربي للمصطلح. لقد أصبحنا اليوم أكثر استشعاراً لبعض معاني قوله تعالى في حق القرآن الكريم :"تبياناً لكل شئ".
     
     
    إنّ اكتشاف بعض البنى الرياضية القرآنية في عصرنا هذا، يدل على أن القرآن الكريم يخاطب عصرنا هذا، مما يفند مزاعم من يرى أنه خطاب لفترة تاريخية مضت وانقضت، كيف بنا وقد وجدنا أن هذه البنى تُجلّي بعض المعاني والأسرار، وتلفت الانتباه إلى دلالات جديدة لا تتعارض مع الدلالات الظاهرة للألفاظ والتراكيب، بل تعززها وتثريها، وتضيف إليها.
     
    وأخيراً فلتأت الحداثة بما تشاء، وليدلِ الحداثيون وغيرهم بما شاءوا، فتاريخنا زاخر بأمثالهم، ولا يخشى طروحاتهم إلا من فقد ثقته بعقيدته، وثقافته، وحضارته. أما القرآن الكريم فيبقى كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد، وأما نحن البشر فبحاجة دائمة إلى التحدي، ليتحصل لنا التعلم المجدي، "فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". ومن لم يكتف بالقرون دليلا، ومن لم يتعظ بما حصل في القرن العشرين، فما أظنه سيعيش عمر نوح عليه السلام، وسيبقى هناك من يجادل، لتتحقق حكمة الله. "…وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال…"   13 الرعد 

    كلمات مفتاحية  :
    التفسير الحداثة

    تعليقات الزوار ()