إن تأصيل هذه المحبة في نفوس الأبناء يحتاج من المربي إلى اهتمام وحرص على بلوغ هذا الهدف، وسعي حثيث لتنشئة الولد على حب النبي صلى الله عليه وسلم والترقي في متابعته إلى أن يكون هو نبراسه الذي يقتدي به ولا يرضى عنه بديلاً.
وللمربى في ذلك وسائل يستعين بها وخطوات يخطوها، نحاول أن نلقى عليها الضوء كالآتي:
إن من أحسن ما نغرس به هذه المحبة في نفوس الأبناء، هو أن نقص عليهم المواقف الواقعية التي تزخر بها كتب السيرة النبوية، خاصةً تلك التي دارت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أطفال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ونستعرض هنا طرفاً من هذه المواقف التي تجلت فيها محبة أطفال الصحابة للنبي .
سرعة الأطفال في الاستجابة لندائه وتنفيذ أوامره:
وما هذه السرعة إلا دليل محبة عظيمة، فهذا على بن أبى طالب رضي الله عنه يسارع في تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدخول في الإسلام، دون استشارة أحد من الناس، وكذلك يعايش رضي الله عنه وهو في الثامنة من عمره الدعوة الإسلامية في مرحلتيها السرية والعلنية دون خوفٍ أو وجل،ويصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة رضي الله عنها في شعاب مكة سراً، فيراه أبوه أبو طالب فإذا بعلي لا يخاف ولا يتلجلج، بل نراه لا يتردد في فداء النبي بنفسه وروحه فيمتثل أمره وينام في فراشه ليلة الهجرة إلى المدينة مع علمه التام أنه يعرض نفسه بذلك لموتٍ محقق، لكنها المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ويقدمون حاجته على لعبهم ويحفظون سرّه صلى الله عليه وسلم:
فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو الطفل الصغير الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، يترك أحب شيء للأطفال امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال:" أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجته، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت:إنها سر، قالت: لا تخبرن بسرّ رسول الله أحداً. "فيسرع أنس رضي الله عنه لتلبية أمر النبي ويكتم سرّه حتى عن أقرب الناس إليه.. عن أمه، ولا عجب بعد سماع رد الأم الصالحة أم سليم بنت ملحان والدة أنس بن مالك رضي الله عنه وعن أمه، إذ قالت: "لا تخبرنَّ بسرّ رسول الله أحداً" مؤيدةً ومؤكدةً هذه المحبة وما أثمرته من طاعة وولاء كبيرين عند ابنها الصحابي الجليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ويعرفون حاجته قبل أن يطلبها:
فنجد الأمر يتعدى انتظار الأوامر، وينتقل أطفال الصحابة لمرحلة أعلى من الحب الصادق، فيترقبوا حاجيات نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، ليسارعوا إلى تجهيزها ووضعها أمامه قبل أن يتلفظ بطلبها، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء قال فوضعت له وضوءاً، فقال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقهه في الدين."
- ويحبون ما يحب النبي صلى الله عليه وسلم:
فقد أخرج الأئمة الخمسة واللفظ للبخاري عن أنس رضي الله عنه قال:" دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على غلام خيّاط، فقدم إليه قصعة فيها ثريد وعليه دُبَّاء، قال: وأقبل على عمله - يعنى الغلام- قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُبَّاء - القرع- قال أنس: فجعلت أتتبعه وأضعه بين يديه، قال: وما زلت بعد أحب الدُبَّاء."
- ويقاتلون من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم :
فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف وهو في قلب معركة بدر يقول:"وقف غلام على يميني يسألني: يا عم دلني على أبى جهل، فبقول له: ومالك يا بني من أبى جهل؟ فيقول له: والله إن رأيته لن أفلته، لقد كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم غلام على يساري فسألني مسألة الأول، ثم تحتدم المعركة، ويشتد بأسها، فيلتفت عبد الرحمن بن عوف إلى الغلامين ويقول لهما: ذاك الذي تبغيان أبو جهل، فينطلقان مسرعين بسيوفهما الصغيرة، كل منهما يريد أن ينال شرف السبق في طعن عدو الله ورسوله، فيضربانه ضربة قوية، فيسقط أبو جهل على الأرض، فيتسابقان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهما يقول: أنا الذي قتله يا رسول الله! فيقول لهما: أرياني سيوفكما!فيرى عليها آثار الدماء ، فيقول لهما: كلاكما قتله.
ولم يقتصر الأمر على أطفال الصحابة فقط، بل سار أطفال السلف على نفس المنهاج،- وعليه يسير أبناؤنا إن شاء الله تعالى- لا يتوانون في الدفاع عن نبيهم، ومقاتلة من يؤذيه ولو بالإشارة أو العبارة.
فقد روى شهاب الدين الأبشيهي في كتابه- المستطرف في كل فن مستظرف- قصة رائعة في هذا الباب، وهى أن غلماناً من أهل البحرين خرجوا يلعبون بالصوالجة وأسقف البحرين قاعد، فوقعت الكرة على صدره فأخذها، فجعلوا يطلبونها منه، فأبى، فقال غلامهم: سألتك بحق محمد صلى الله عليه وسلم -إلا رددتها علينا، فأبى لعنه الله وسبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا عليه بصواليجهم فما زالوا يخبطونه حتى مات لعنه الله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوالله ما فرح بفتح ولا غنيمة كفرحته بقتل الغلمان لذلك الأسقف، وقال: الآن عزّ الإسلام.
وهكذا بتكرار هذه القصص والمواقف العظيمة على أسماع الأبناء،وأنها حدثت من أطفال في مثل أعمارهم، تتفجر بداخل قلوبهم الخضراء ينابيع الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم، والاستعداد التام لنصرته.