الجواب :
الحمد لله
الواجب على المسلم حاكماً أو محكوماً أن يكون تحاكمه إلى الله ورسوله ، لا إلى غيرهما ، فقد أمرنا الله تعالى بطاعة أولياء أمورنا ، ثم أمر الجميع الحكام والمحكومين ، إن تنازعوا في شيء أن يردوه إلى كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعل ذلك شرطاً في الإيمان ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59 .
قال السعدي رحمه الله :
"أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله ؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما ؛ أو إيماء ، أو تنبيه ، أو مفهوم ، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه ، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين ، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما .
فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة ، بل مؤمن بالطاغوت ، كما ذكر في الآية بعدها (ذَلِكَ) أي : الرد إلى الله ورسوله (خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم" انتهى .
وقال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/65 .
فالتحاكم إلى غير الله ورسوله وإلزام الناس بذلك أمر خطير ، قد يخرج صاحبه من الإيمان بالكلية .
ولذلك فإننا نتوجه بالنصيحة أولاً إلى هؤلاء الحكام الذين غَيَّروا وبَدَّلوا أحكام الله ، فقد أباح الله تعالى للرجل أن يتزوج بأربع نساء ، وأوجب عليه العدل بينهن ، فقال تعالى : (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) النساء/3 .
ولم يشترط الله تعالى موافقة الزوجة الأولى ، ولا جعل من حقها طلب الطلاق إذا تزوج زوجها عليها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (أَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) رواه البخاري (2563) ومسلم (1504) .
فكل ما خالف كتاب الله فهو باطل ، لا يجوز العمل به .
ثم لا ينقضي العجب من التضييق على الرجل فيما أحلَّ الله له ، ومنعه منه ، ثم فتح باب الحرام أمامه على مصراعيه .
فكثير من تلك القوانين الجاهلية التي تمنع تعدد الزوجات أو تضيقه لا تمنع أن يتخذ الرجل عشيقة ، بل عشيقات ، وهذا تحريم للحلال ، وتحليل للحرام ، وقد وصف الله كل حكم خالف حكمه بأنه حكم جاهلي ، فقال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50 .
قال ابن كثير رحمه الله :
"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات ، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان ، الذي وضع لهم اليَساق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا ، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير ، قال الله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي : يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون . (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه ، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء .
قال الحسن : من حكم بغير حكم الله ، فحكم الجاهلية هو .
وروى البخاري (6882) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ : مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ)" انتهى بتصرف يسير .
"تفسير ابن كثير" (2/94) .
فالنصيحة للحكام أن يعودوا إلى شرع الله تعالى ، فلا يحكموا غيره في قليل ولا كثير ، ولن يجنوا من وراء ذلك هم وشعوبهم إلا الخير والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة ، بينما لم تجن الشعوب من الإعراض عن حكم الله واستبداله إلا انتشار الظلم والفسق والمجون والتخلف والانحلال الخلقي وتفكك المجتمع وكثرة الجرائم واختلال الأمن .
ثم نتوجه بالنصيحة ثانياً إلى الزوجة التي يريد زوجها أن يتزوج عليها ، بأن الواجب عليها أن ترضى بحكم الله وتسلم وتنقاد له ، وما تجده في نفسها من الغيرة أو الكراهية لذلك ، فهذا أمر فطري لا تلام المرأة عليه ، بشرط أن لا تعترض على حكم الله ، وأن لا تطلب الطلاق أو تسيء عشرة زوجها وتمنعه حقوقه بسبب ذلك .
ولا يجوز لها طلب الطلاق من أجل أن زوجها تزوج عليها ، بل ذلك من كبائر الذنوب ، ويدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : (أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ) رواه ابن ماجه (2055) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه .
ولتضع نفسها مكان أختها التي يريد زوجها أن يتزوجها ، فهل كانت سترضى من زوجته الأولى أن تمنع هذا الزواج ، وتهدد الزوج بطلب الطلاق إن هو فعل ذلك ! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري (13) ومسلم (45) .
ثم نتوجه بالنصيحة إلى الزوج الذي يريد أن يعدد ، بأن الواجب عليه أن يعدل بين زوجتيه ، فإن الله تعالى إنما أباح التعدد للرجل بشرط أن يعدل ، فإن لم يعدل أو خاف على نفسه أن لا يعدل فالواجب عليه الاقتصار على زوجة واحدة ، قال الله تعالى : (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) النساء/3 .
وأخبرنا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن : (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ) رواه أبو داود (2133) والترمذي (1141) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود .
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً .
والله أعلم