هل يلزمني إحضار شهود إذا قذفني شخص ما وأردت أن أشتكي عليه ؟ . وهل لي أن أتنازل عن حد القذف مقابل تعويض مالي ؟
الحمد لله
أولاً :
جاء الشرع بحماية الضرورات الخمس وهي : الدين ، والعقل ، والعِرْض ، والنسب ، والمال.
والقذف : هو تعرضٌ للعرض برميه بزنى أو لواط ، وقد كُلِّفَ القاذف أن يأتي بما يثبت قوله بأربعة شهداء ، فإن لم يفعل أقيم عليه حد القذف ، وهو ثمانون جلدة ، ولا تُقبل له شهادة ، وهو من الفاسقين إلا أن يتوب أو يقام عليه الحد فإنه يرتفع عنه لقب " الفسق " وتقبل شهادته ، ولا فرق بين أن يكون القاذف أو المقذوف رجلا أو امرأة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء" انتهى .
" فتح الباري " ( 12 / 188 ) .
وأما إذا قذفه بغير الزنا ، كما لو اتهمه بأنه سارق أو آكل للحرام ... فلا يُحد حد القذف ، وإنما يعزره الحاكم بما يردعه عن هذا العدوان .
وقذف الأعراض محرَّم في الكتاب والسنة والإجماع ، وهو من كبائر الذنوب ، وقد أوجب الله على القاذف عقوبات مغلظة في الدنيا والآخرة :
1. قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ) النور/4 .
قال ابن كثير رحمه الله :
فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام : أحدها : أن يُجلد ثمانين جلدة ، الثاني : أنه ترد شهادته أبداً ، الثالث : أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ، ولا عند الناس .
" تفسير القرآن العظيم " ( 3 / 292 ) .
2. وقال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النور/23 .
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله ، وما هنَّ ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) رواه البخاري ( 2615 ) ومسلم ( 89 ) .
ولا يثبت حد القذف على القاذف ، إلا بإقراره بالقذف ، أو شهادة رجلين عدلين بأنه قاذف ، وأما مجرد الدعوى فلا يثبت بها القذف أو غيره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (البينة على المدعي) رواه الترمذي (1341) وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1938) .
وانظر : "المغني" (14/126) .
ثانياً :
أما التنازل عن حد القذف مقابل مبلغ مالي : فهو غير جائز ؛ لأن العِرْض لا تجوز المعاوضة عليه بالمال .
قال الحطاب المالكي رحمه الله :
"ومن صالح من قذفٍ على مال : لم يجز ، ورُدَّ ، بلغ الإمام أو لا ... لأنه من باب الأخذ على العرض مالاً" انتهى بتصرف .
" مواهب الجليل " ( 6 / 305 ) .
وقال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله :
"وإن صالحه عن حد القذف : لم يصح الصلح ؛ لأنه إن كان لله تعالى : لم يكن له أن يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له ، فأشبه حد الزنا والسرقة ، وإن كان حقّاً له : لم يجز الاعتياض عنه ؛ لكونه حقّاً ليس بمالي ، ولهذا لا يسقط إلى بدل ، بخلاف القصاص ؛ ولأنه شرع لتنزيه العرض فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال" انتهى .
" المغني " ( 5 / 33 ) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
ما حكم تقويم عقوبة ثابتة بنصوص القرآن والسنَّة بقيمة ( مبلغ ) معينة ، كأن يُقوَّم قطع يد السارق ، فبدلاً من أن تُقطع يده يطالِب هو بقيمة ( مبلغ ) ، وكأن يقوَّم الرجم أو الجلد ، فلا يُرجم أو يُجلد الزاني ، بل يطالِب هو بدفع قيمة معينة ( مبلغ معين ) ؟ .
فأجابوا :
"لا يجوز تقويم عقوبات الحدود بمبالغ نقدية ؛ لأن الحدود توقيفية ، ولا يجوز تغييرها عما حدَّه الشارع" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 22 / 17 ) .
كما لا يجوز بعد إقامة الحد على القاذف أن يطالب المقذوف بتعويض مالي ؛ إذ عامة العلماء على عدم جواز أخذ تعويض مالي مقابل ضرر معنوي – ويسمى كذلك " الضرر الأدبي " .
وقد جاء في قرار " مجمع الفقه الإسلامي " رقم 109 ( 3 / 12 ) بشأن موضوع " الشرط الجزائي " ما نصه :
"الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي ... ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي" انتهى .
وجاء في " الموسوعة الفقهية " ( 13 / 40 ) تحت عنوان " التعويض عن الأضرار المعنوية:
"لم نجد أحداً من الفقهاء عبَّر بـهذا ، وإنما هو تعبير حادث ، ولم نجد في الكتب الفقهية أن أحداً من الفقهاء تكلم عن التعويض المالي في شيء من الأضرار المعنوية" انتهى .
فتبين بهذا أنه لا يجوز استبدال حد القذف بمال ، ولا يجوز المطالبة بتعويض بعد إقامة الحد على القاذف ، ولك أن تعفو عمن قذفك ولا تطالب بإقامة الحد عليه .
والله أعلم