من أفضل ما قيل فى هذه القضية مقال كتبه العلامة المستشار عبد المقصود شلتوت – حفظه الله – وملخصه :
أن فى الإعتماد على الحساب الفلكى لإثبات دخول الشهر القمرى خطآن جسيمان :
أولهما : إسقاط العلة الشرعية الموجبة للصوم والإفطار وهى الرؤية البصرية .
والثانى : إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله وهو الحساب الفلكى وإضفاء الححجية عليها .
أما الأول : فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم فأقدروا له ثلاثين"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن عم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً"، والأحاديث فى هذا كثيرة، وهى تدل على أن المعتبر فى ذلك هو رؤية الهلال أو كمال العدة .
وليس المقصود من هذه الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه، وإنما المراد بذلك شهادة البينة العادلة، فقد صح عن ابن عمر – رضى الله عنهما – قال : "تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنى رأيته، فصام وأمر الناس بالصيام".
وفى الإعتماد على الحساب الفلكى إهدار للعلة الشرعية، وإسقاط لحجية الرؤية الشرعية والحجية القضائية لحكم المحاكم الشرعية، وإعتبار لما ألغاه الشرع وهو الحساب الفلكى، وشذوذ عن إتفاق من يعتد به من أهل العلم وفقهاء المذاهب الذين حُكى عنهم الإجماع على عدم جواز العمل به.
ويترتب عليه عند معارضته مع الرؤية الشرعية :
1- إعدام صوم أول رمضان إذا كانت المخالفة بدايته .
2- إعدام فطر يوم العيد إذا كانت المخالفة فى نهايته .
وبالتالى : انتهاك حرمة النص القرآنى : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وحرمة نص السنة الشريفة : "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، وانتهاك حرمة الصوم بمنع الناس من صيام أول رمضان، وانتهاك حرمة العيد بمنعهم من إفطار يومه، مما يؤدى إلى تعطيل أحكام الله، وإثارة القلاقل والإضطراب، وزيادة الفرقة والإنقسام بين المسلمين .
وأما بالنسبة للخطأ الثانى : فهو إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله سبحانه وهى الحساب الفلكى وإضفاء الحجية عليها، وبيان ذلك :
أن الله سبحانه وتعالى ربط أحكامه بعلل وأسباب شرعية فإذا وجدت العلة الشرعية وجد حكم الله، وإذا إنتفت إنتفى حكم الله، ولا يملك أحد أن يغير هذه العلل ولأ أن يبدلها . وقد ثبت بالكتاب والسنة أن علة وجوب الصوم والفطر هى المشاهدة ورؤية الهلال بصرياً .
وليست العلة مجرد وجوده علمياً، فى السماء من غير رؤية حسية بالعين، قال تعالى : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، فرتّب وجوب الصوم والفطر على رؤية الهلال بالعين، لا على العلم بوجود الهلال فلكياً دون رؤية بصرية، فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: " صوموا لوجود الهلال أو ثبوته"، حتى يعم الوجود كلاً من الوجودين الفلكى والبصرى، بل قال : "صوموا لرؤيته"، والرؤية أخص من الوجود، فقد يوجد الهلال فلكياً ولكن لا يُرى لأسباب كثيرة، فلا يجب الصوم، أضف إلى هذا أن الشق الأخير من الحديث يدل دلالة قاطعة على أن وجود الهلال ليس هو العلة، وإنما العلة هى تحقق الرؤية الحسية الملموسة، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإن غمّ عليكم"، أو حال بينكم وبينه سحاب"، كما فى بعض الروايات ، يفيد بأنه عند وجود الهلال وراء الغيم أو غيره يجب عدم الصوم، وإكمال الشهر ثلاثين يوماً، مما يقطع بأن العلة ليست هى مجرد وجود الهلال، وإنما هى أخص من ذلك، ألا وهى : تحقق الرؤية البصرية، وبهذا ألغى الشارع الحكيم إعتبار الوجود العلمى للهلال علة للصوم أو الفطر، وأكد على أن الوجود الحسى البصرى هو العلة، وليس ذلك لأن قوة درجة الحساب الفلكى فى الإثبات أقل من درجة الشهادة على الرؤية، أو لعدم صحة مقدمات ونظريات علم الفلك ولكن لأن رحة الله بعباده إقتضت أن يعلق أسباب عبادتهم وعللها بأمور حسية ملموسة لكل المكلفين، دفعاً للحرج والمشقة على الناس، وأن تكون علل الأحكام وأسبابها ثابتة وحسية وعامة يسهل إدراكها لجميع المكلفين دون مشقة، وألا ترتبط هذه العبادات بأمور عقلية علمية معنوية لا يدركها كل الناس، ولا كل من يريد أن يلتمسها حتى يتحقق عموم العلة مع عموم التكليف، ويسر إدراكها مع يسر أدائه .
إن الله سبحانه يعلم ما سيصل إليه علم الفلك من شأن عظيم فى مستقبل الأيام، لكنه سبحانه ألغى إعتباره فى إثبات علل العبادات، وذلك فيما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذى صح عنه قوله: "إنا أمة أمّية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، وأشار بيده"، أى : تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فهذا دليل واضح على رفض الأخذ بالحساب الفلكى فى إثبات الأهلة، إذا كلفنا أن نتعامل فى ذلك وكأننا أميون فى الحساب الفلكى، لا نكتب ولا نحسب، وليس فى ذلك تنقص أو إزراء بعلم الفلك، ولكن المقصود أن لعلماء الفلك مجالاً رحباً فى بعض شئون الحياة، خارج المسائل الشرعية، فإنه ليس لهم أى دور فى إثبات علل وأسباب العبادات التى ربط الله علل أحكامها بأسباب حسية ملموسة.
وقد أجمع الفقهاء على الإلتزام بالعلة الشرعية للصوم وهى الرؤية البصرية للهلال، وأجمعوا على رفض الأخذ بالحساب الفلكى سواء فى ذلك حالة الصحو أم حالة الغيم:
(1) إلا من شذ من المتأخرين وأحدث سبباً لم يشرعه الله، ولا عبرة بهذا الشذوذ مع إنعقاد الإجماع الفقهى قبله
(2) والإجماع العملى أيضاً : فقد جرى العمل فى كافة العصور الإسلامية الزاهرة، حيث تقدم المسلمون فى علم الفلك، وأنشأوا المراصد الفلكية، ومع ذلك منعوه من الدخول فى مجال العلل الشرعية للأحكام، بل لا يكاد يُعرف قاض – منذ عرف الإسلام القضاء إلى اليوم – قضى بالحساب الفلكى
(3) ولا زال القضاة يلون إستشراف الهلال بأنفسهم، أأو ينتظرون الشهود العدول بالمحاكم حتى يجيئوا لهم، والمحكم الشرعية العليا فى مصر لم تأ×ذ قط فى إثبات الرؤية بالحساب الفلكى منذ أنشئت إلى أن ألغيت، وكذلك دار الإفتاء من بعدها، حتى نبغ مفتى أخر الزمان وأحدث هذه البدعة، ونبذ العلة الشرعية أعنى الرؤية البصرية للهلال – وأحدث علة للصوم لم يشرعها الله وهى العلم الفلكى بوجود الهلال، وشذ عن إجماع الأمة العلمى والعملى من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا، وأضفى على الحساب الفلكى الحجية اليقينية مع أنه مبنى على أمور ظنية وحسابية وجبرية، وأجهزة فلكية، وكلها ظنية تحتمل الخطأ والصواب، وليس أدل على ذلك من تعارض تقاويم الفلكيين أنفسهم فى حساباتهم الفلكية، والذى يبنى على الظن لا يقيم اليقين لقيام شبهة الخطأ ) إنتهى الكلام بتصرف .
لكن يبقى التنبيه إلى ثلاث قضايا :
الأولى : أن ( حقيقة الشهر عند الفلكيين هى المدة بين إجتماع الشمس والقمر مرتين بعد الإستسرار وقبل الإستهلال، ومقداره عندهم هو (29) يوماً، و (12) ساعة و(44) دقيقة . أما حقيقة الشهر الشرعية : فهى الرؤية له عند الغروب، أى : أول ظهور القمر بعد السواد، ومقدار الشهر الشرعى هو لا يزيد عن (30) يوماً، ولا ينقص عن (29) يوماً.
وعليه فأن هناك فروقاً بين الأعتبارات الشرعية والإعتبارات الفلكية فى عدة أمور :
1- أن الشهر يبتدئ عند الفلكيين قبل البدء بالإعتبار الشرعى، ونتيجة لذلك فهو ينتهى قبل .
2- أن الشهر مقدر بوحدة زمنية ثابتة عند الفلكيين تختلف عن مدته بالإعتبار الشرعى كما هو مبين آنفاً .
3- أن الشهر يبتدئ بإعتبار الشرع بطريق الحس، والمشاهدة بالعين الباصرة، أو بالإكمال بخروج الهلال حقيقة، أما بإعتبار الفلكيين فهو : يتقدير خروجه لا بخروجه فعلاً .
4- عند الفلكيين : لا ففرق بين أن يتم الإقتران والإنفصال ليلاً أو نهاراً، فلو حصل الإقتران والإنفصال قبيل الفجر فاليوم عندهم هو بعد الفجر مباشرة، ولو حصل أثناء النهار فإن الشهر يبتدئ فى اللحظة التالية له، أما بإعتبار الشرع : فالمعتبر الرؤية بعد الغروب، فلو رؤى نهاراً بعد الزوال فهو لليلة المقبلة، ولا يصام ذلك النهار الذى رؤى فيه، وهذا بلا نزاع بين أهل العلم) أ هـ . من " فقه النوازل " (2/174 ).
الثانية : أنه يجب التفريق بين أمرين متباينين : أحدهما : الخلاف الفقهى السائغ بين العلماء فى قضية إختلاف المطالع، وثانيهما : عدم جواز الأعتماد على الحساب الفلكى فى تحديد بداية الشهر وإنتهائه لأن الخلاف فيها غير سائغ لشذوذه عن الإجماع، والعلماء مع إختلافهم فى قضية إختلاف المطالع متفقون على أن سبيل تحديد بداية الشهر ونهايته هو الرؤية الشرعية لا الحساب الفلكى، ولقد رأينا من يخلط بين الأمرين، ويستدل بكلام العلماء فى القضية الأولى على القضية الثانية فلزم التنبيه.
الثالثة : وهى نصيحة لمن يخالف المفتى الرسمى فى بلده إذا ثبت أنه يعتمد على الحساب الفلكى : أن لا يستعلن بالمخالفة لعموم المسلمين فى بلده بل يستسر بالمخالفة، ويعمل بالرؤية الشرعية فى خاصة نفسه، ولا يدعو بلسان الحال أو المقال الملاء إليها، سداً لذريعة التهارج بين المسلمين، ودرءاً للفتن، وجمعاً للكلمة ، وتفويتاً لمقاصد العلمانيين والمنافقين من أعداء الدين الذين يعتلون الموجة لتشكيك الناس فى دينهم، ومحاولة النيل من قدسية الصيام فى نفوس العامة، وقانا الله وسائر المسلمين شرهم.
نقلا عن موقع طريق الإسلام