الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان شهر رمضان، هذا الشهر المبارك ميدانـًا لأحداث هي من أعظم الأحداث التي مرت في تاريخ الأمة، بل في تاريخ البشرية؛ فيه ولد العالم من جديد، وولدت الأرض ولادة جديدة، يوم أن وقع فيها أعظم حدث على ظهرها؛ ففي رمضان قبل الهجرة بثلاثة عشر عامًا سعد هذا الكوكب "الأرض" بأروع لحظة من لحظات حياته، وشهد أعظم حادث وقع على ظهره، فكان هذا الحادث فرقانـًا في تاريخ البشرية كلها، وإيذانـًا بمولد عالم جديد؛ يوم أن تفضل الإله العظيم -سبحانه وتعالى- الجليل، مالك الملك على هذا الكوكب الأرض الصغير، وخصه بإكرامه؛ فاختار من بين الخليقة محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون رسوله إلى أهل الأرض جميعًا، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرجهم من الظلمات إلى النور -بإذن الله تعالى-، ويسلك بهم صراط العزيز الحميد.
في هذا اليوم الأغر المحجل... كان نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185).
وفي السنة الثانية من الهجرة المباركة في السابع عشر من رمضان: كان يوم الفرقان، يوم أول لقاء بين كتيبة الإسلام المؤمنة بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتيبة الكفر بقيادة فرعون الأمة "أبو جهل"، وفيها تنزل نصر الله -تعالى- على الفئة المؤمنة في غزوة بدر، أول الغزوات الكبرى وأعظمها في تاريخ الإسلام، الغزوة التي بعدها تغير التاريخ لصالح المسلمين، وفيها طويت أكبر راية من رايات الجاهلية السود، وهوى أضخم صنم من أصنام الشرك في جزيرة العرب؛ قتل فرعون الأمة وأكبر طاغية عرفته جزيرة العرب "أبو جهل"، وغـُيب مع غيره من صناديد الكفر في جوف "قليب بدر" السحيق.
وفي السنة الثالثة من الهجرة، وفي رمضان: عبأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيشًا في المدينة؛ لصد عدوان المشركين الذين كانوا يستعدون للثأر لقتلاهم في بدر.
وفي السنة الخامسة من الهجرة: كان استعداد النبي -صلى الله عليه وسلم- لغزوة الخندق التي كانت في شوال من هذه السنة على أصح القولين، وكان من الاستعدادات حفر الخندق الذي استغرق شهرًا كما يقول ابن القيم -رحمه الله-.
وفي رمضان من السنة السادسة من الهجرة: كانت سرية غالب بن عبد الله لقتال بني عبد الله بن ثعلبة بعد أن أعلنوا عداوتهم للمسلمين فانتصر وغنم.
وفي العشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة: كان الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته من أيدي المشركين؛ الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا؛ إنه فتح مكة، وفيه حَطمت أيدي المؤمنين الأصنام التي كان يعبدها أهل الجاهلية، بعد أن تحطمت قيمتها ومكانتها في القلوب.
وفي رمضان سنة تسع للهجرة: قرت عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلام "ثقيف" بعد إباء عنيد، ونفور جامح دام عشرين عامًا.
وفي رمضان من نفس السنة: كانت عودة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزة تبوك المظفرة.
وفي رمضان من السنة الثالثة عشر للهجرة: كانت وقعة "البويب" بين المسلمين بقيادة المثنى بن حارثة -رضي الله عنه-، والفرس بقيادة مهران، كانت معركة رهيبة قتل فيها من الفرس قرابة المائة ألف، وقتل أيضًا من سادات المسلمين بشرًا كثيرًا، وذلت لهذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة -رضي الله عنهم- من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، وغنموا شيئًا عظيمًا لا يمكن حصره.
وفي رمضان من العام الثالث والخمسين للهجرة: افتتح المسلمون وعليهم جنادة بن أبي أمية جزيرة "رودس".
ولليلتين بقيتا من رمضان من العام الحادي والتسعين من الهجرة المباركة: كان فتح الأندلس، التي لقبت بعد ذلك بـ"درة التاج الإسلامي" على يد طارق بن زياد -رحمه الله-، بعد أن التقى جيشه الذي قوامه اثنا عشر ألفـًا بجيش "لذريق" ملك إسبانيا، الذي تعداده مائة ألف في وادي "لكه"، واتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال، وهزم الله المشركين، ونصر المسلمين نصرًا مؤزرًا.
وفي العام الثاني بعد المائة الأولى من الهجرة: كانت فتوح المسلمين في فرنسا على يد القائد الفذ "السمح بن مالك الخولاني"، والتي بدأت على يد "عبد العزيز بن موسى بن نصير"، وامتدت بعد السمح بن مالك على يد "عنبسة بن سُحيم الكلبي"، حتى وصل المسلمون إلى مدينة "سانس" عاصمة إقليم "يوند" على بعد ثلاثين كيلو مترًا فقط جنوب باريس.
وفي رمضان سنة مائتين وثلاث وعشرين: اقتحم "المعتصم بن الرشيد" حصون "عَمُّورية" في مائة وخمسين ألفـًا من جنوده، وفتح المدينة التي عزَّت على الفاتحين منذ عهد الإسكندر المقدوني، وتجهز المعتصم جهازًا لم يسبق لخليفة من خلفاء المسلمين أن تجهز مثله، وكانت "عمورية" عند الروم أشرف من "القسطنطينية"، وكانت روح النصرانية، والطريق المؤدية إلى القسطنطينية، وكانت وقعة عمورية غرة في جبين الدهر، ودرة في تاريخ الإسلام، وتاجًا زان مفرق المعتصم، وكان الفتح في نفس يوم بدر في السابع عشر من رمضان.
وفي الرابع عشر من رمضان 264هـ: سقطت سرقوسة من جزيرة صقلية على يد جعفر بن محمد، وكان سقوطها كارثة كبرى لبيزنطة وسياستها الحربية فقد انهارت الجهود الجبارة التي بذلتها لسنوات طويلة؛ لإعادة النفوذ البيزنطي على ساحل البحر الأدرياتي.
وفي 559هـ: كانت وقعة "حارم" بين نور الدين محمود والفرنجة؛ فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر قادتهم، وقتل منهم عشرة آلاف وقيل: عشرين ألفـًا.
وفي 584هـ: كان فتح "الكرم وصفد"، وإنقاذهما من أيدي الفرنجة على يد صلاح الدين.
وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة ستمائة وثمان وخمسين للهجرة النبوية: شهد العالم الإسلامي يومًا من أيام الله -تعالى-، أعز الله فيه المسلمين من هوان، وقواهم من ضعف، وآمنهم من خوف، ونصرهم على عدو يفوقهم في العدة، ويزيد عليهم أضعافـًا مضاعفة في العدد.
وفي هذا اليوم الأعز كانت وقعة "عين جالوت" التي على إثرها اندحر خطر التتار، وزال تهديدهم للمسلمين، وكف الله شرهم عن البلاد والعباد.
وفي الرابع عشر من رمضان سنة ستمائة وست وستين: شهد تاريخ الإسلام يومًا من أعظم أيامه، وفتحًا من أجل فتوحه، وهو اليوم الذي حررت فيه مدينة "أنطاكية" من أيدي الصليبيين، على يد الملك البطل "الظاهر بيبرس" بعد أن كانت تلك المدينة بعد أن استولى عليها الصليبيين منطلقـًا لهم لحرب المسلمين، وطريقـًا إلى بيت المقدس، وشجىً في حلوق المسلمين، وبعد أن خضعت للصليبيين ما يقارب قرنين من الزمان.
وفي رمضان 673هـ: كان فتح "أرمينيا الصغرى"، وتحقيق نصر عظيم على "النصارى الأرمن"؛ الذين كانوا عونـًا للحملات الصليبية، والمغول ضد المسلمين، وكان ذلك على يد الظاهر بيبرس -رحمه الله-.
وفي رمضان 702هـ: كانت معركة "شقحب" أو معركة "مرج الصُّفـَّر"، وكانت مع المغول الذين حاولوا في عهد "قازان حفيد هولاكو" تحطيم سلطة المسلمين في مصر، واسترداد الأرض المقدسة وتسليمها للنصارى، وكان على قيادة المسلمين الخليفة "المستكفي بالله" والسلطان الناصر "محمد بن قلاوون الصالحي"، وهي المعركة التي شارك فيها شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-، وكان له الجهد الكبير في شحذ همم المسلمين بمواعظه وكلماته، وسيفه، ورد الشبهات التي كانت عند بعض المسلمين، وكانت الغلبة في البداية للمغول، وما جاء الليل حتى كان الظفر والنصر للمسلمين.
وفي عام 829هـ: كان فتح جزيرة "قبرص" واستردادها من أيدي الصليبيين على يد "المماليك".
وفي عام 791هـ: كان فتح "البوسنة والهرسك"، ومعركة "قوص أوه" أو "قوصرة"، وكانت معركة حاسمة بين المسلمين والصرب؛ انتصر المسلمين فيها انتصارًا عظيمًا بقيادة السلطان "مراد الأول العثماني"، وأخذ الإسلام ينتشر بعدها في تلك البقاع حتى تحولت مناطق كاملة إلى الإسلام كما هو الحال في البوسنة والهرسك، وكوسوفا، وغيرها.
وفي الخامس والعشرين من رمضان لعام تسعمائة وسبع وعشرين من الهجرة: كان فتح "بلجراد" عاصمة "المجر" على يد السلطان العثماني "سليمان القانوني".
وفي العاشر من رمضان 1393هـ:
أفاق المسلمون من وهم الولاء والمحاربة في سبيل دعاوى باطلة لأفكار وضعية، وعنصرية وطنية مقيتة، ورفعوا راية العبودية بتكبير الله، وتمجيده، وتوحيده؛ فتنزلت منـَّة الله على عباده وجنده الموحدين في مصر بهزيمة اليهود، وعبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف، وأذل أولياء الله المسلمون أعداء الله اليهود في هذه الحرب؛ فالنصر حليف الإيمان والطاعة.
دارت على سيناء معركة الوغى فوق السهول وفي ربى وبـطاح
وكــتـائـب الإيـمـان تـهتـف كـلهـا "الـلـه أكـبـر" فـوق كـل سلاح
"الـلـه أكـبـر" زلـزلـت أركـانهم وكـأنـمـا يـشــدو بـها ابن ربـاح
ويا ليت الأمر استمر على ذلك ولم تعكر صفو هذا النصر محاولات؛ حثيثة لتشويه صورته، وتحويله في حس الناس إلى نصر قطري وطني ضيق، يغرس في النفوس المعاني الجاهلية، ويفصل الناس عن الأسباب الحقيقية للنصر.
فاللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وصلِ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.