ومن حديث القرآن عن القرآن ما جاء في قوله تعالى : ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ( سورة البقرة : 252 )
والإشارة في قوله ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ﴾ إلى قصة أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، وقصة طالوت وجالوت وما وقع فيها من عبر وعظات، وبيان سنة الله في دفعه النّاس بعضهم ببعض، ونصر من يستحق النصر وإن قل عدده، وخذلان من يستحق الخذلان وإن كثر جنده، وكل ذلك بإذن الله وفضله ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) ﴾ ( سورة البقرة : 250 ـ 252 )
﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ أي باليقين الثابت الذي لا يعتريه شك ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ بحيث تخبر بهذا القصص من غير أن تعرفه بقراءة كتب ولا استماع أخبار، فدّل ذلك على رسالتك ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ أي بشهادة إخبارك عن الأمم من غير مطالعة كتاب أو اجتماع يخبرك بذلك .
ولا أدل على رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن الحكيم : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( العنكبوت : 48 ) والمناسبة بين قوله ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ وقوله ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ بينة واضحة . فإن الآيات دالة على صدقه، وأنه مرسل من ربه.
ومثله ما جاء في قوله تعالى : ﴿ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4) ﴾ ( سورة يس : 1ـ4 )
فإن المقسم به ﴿ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴾ دليل على صدق المقسم عليه، كافٍ في الدلالة على نبوته، وأنه مرسل من ربه ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ ( العنكبوت : 51 ) ووصف القرآن بالحكيم في القسم على رسالة مَنْ أُرسِل ليعلِّم الناس الكتاب والحكمة فيه اتساق بين المقسم به والمقسم عليه .
إن هذا الكتاب الذي نزل بالحق يشهد بنفسه على نفسه بأنه خطاب رب العالمين للناس أجمعين، ويتحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بسورة منه، ويقطع بأنهم لن يأتوا بمثله وإن اجتمعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؛ لأنه من عند الله الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت . وما كان من عند الله فهو الحق بلا شك أو امتراء . ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾
وهذه الحقيقة تحدد لطالب الحق مصدر المعرفة والتمسك بما هو حق، وبالحق يعرف الباطل لأنه ضده، وبه لا بغيره يكون الإصلاح ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ ( المؤمنون : 71 )
والناس مأمورون بأن يصلحوا في الأرض ولا يفسدوا، منهيون عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها . فلا بد من منهج وشرعة تُتّبع، يكون مصدرها الحق لا الهوى، والله هو الحق وقوله الحق، وقد أنزل الكتاب بالحق .
فإذا أراد الناس صلاحا لدنياهم وفلاحا في أخراهم فلا سبيل لذلك إلا باتباع ما نزل من الحق
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ .
وهذا ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعمل به، وأن يبلغه الناس ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ( سورة الجاثية : 18 )
﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) ﴾ ( سورة الشورى : 15 )
وسيظل القرآن الكريم في ثباته وعزته ـ وهو الحق ـ يدعو إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يطفأ نوره ولا يتوقف مده . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وعن الكتاب المنزل عليه في آية واحدة بلا تفرقة تبصرة وذكرى للمؤمنين ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) ﴾