بسم الله الرحمن الرحيم
فقه مراتب الأعمال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اتفقت نصوص الكتاب والسنة على أهمية الفقه بالنسبة للمسلم، وحثت على طلبه وإعلاء شأنه، ففي الصحيحين عن معاوية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"
والفقه: الفهم، فهم معاني الكلام ومراميه وإنزاله منازله.
وثبت في نصوص أخرى أن الفقه ليس هو حفظ النصوص واستعراضها، وإدراك ظواهر ألفاظها، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ". [متفق عليه]
فالمستجيبون لما بعث الله به رسوله صنفان:
صنف أول: تلقى الهدى والعلم فأنبت منه (الكلأ والعشب الكثير) علماً وعملاً، إذ فجَّر من ذلك علماً وفقهاً كثيراً نفع الله به..
وصنف ثان: نقل الهدى والعلم كما تلقاه، فهو بمثابة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع به الناس.
فالأولون فقهاء، والآخرون حفظة، ولكل دوره ومكانته.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا عَنِّي فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" [رواه أحمد وصححه الألباني]
وهذا التأكيد نفسه على أن حمل النصوص وحفظها لا يصنف وحده الإنسان في دائرة الفقهاء، بل هو في حاجة إلى شروط زائدة : فطرية ومكتسبة.
ولذلك لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم في مستوى واحد من الفقه أو الحفظ، بل كان منهم فقهاء عرفوا بعمق الاستنباط ودقة الفهم والقدرة على الغوص في عمق التشريع، من أمثال الخلفاء الراشدين وعبد الله بن عباس، وكان منهم قراء حفظوا القرآن وأتقنوا حروفه، وأحكموا آياته من أمثال زيد بن ثابت، وكان منهم المتحدثون الذين انصرفت همتهم إلى حفظ الحديث وإتقانه مثل أبي هريرة ، وكان لكل منهم حظ معين في التخصصات الثلاثة كلها، إلا أن همته كانت مصروفة أكثر إلى الفقه أوالقراءة أو حفظ الحديث.
وهناك من اشتهر في الفقه والحفظ كليهما مثل عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنهم جميعاً).
وعندما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: "اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ" لم يكن المقصود أن يكثر حفظه للنصوص أو أن يدرك ظواهر ألفاظها فقط!
بل المقصود من الدعاء:أن يبارك في فهمه واستنباطه، حتى يستخرج من النصوص كنوزها، ويدرك من الكلام معانيه ومراميه؛ لذلك كانت أرضه من أطيب الأراضي وأخصبها، قبلت الهدى والعلم النبويين، فأنبتت من كل زوج كريم.
يقول ابن تيمية وهو يعقد المقارنة بين حفظ أبي هريرة وفقه ابن عباس:
(وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟! وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق: يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها) اهـ.
وهكذا فإن على شباب الصحوة الإسلامية أن يدركوا أن مجرد قراءة النصوص وحفظها ليس فقها، بل الفقه شيء زائد عن مجرد الألفاظ، وهذا أمر ورد واضحاً في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]،
قال ابن كثير في تفسير الآية: ( { يَسْتَنْبِطُونَهُ} : أي يستخرجونه من معادنه ) ، فالكلام أن معنى يستنبط : يستخرج، يقول:
(ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقه الاستنباط، إذ أن موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال بالعلل والمعاني والأشباه والنظائر من مقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط، من أولي العلم حقيقته ومعناه) اهـ.
لذلك فإن معرفة فنون العلم والفقه الواردين في الشرع، وتتبع تقريرات علماء السلف في ذلك هو وحده العاصم من الخروج عن مراد الشرع نظراً وعملاً، وهو الهادي للسداد والتوفيق لخيري الدنيا والآخرة.
المقصود بفقه مراتب الأعمال:
هو من أنواع الفقه التي يجب أن يتعلمها المسلم ويهتم بها، وهو يعني: العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وأرجحها ومرجوحها، فإن كانت الأعمال طاعة علم أيها أحب إلى الله وأكثرها أجراً وثواباً، وإن كانت معصية علم أيها أبغض إلى الله وأكثرها وزراً وعقوبة، وإن كانت الأعمال وسيلة إلى أهداف معينة (المقاصد الشرعية مثلاً) علم أيها أقدر على تحقيق هذه الأهداف، وأيها أولى بذلك، وإن كان الإنسان أمام بدائل متعددة من خير أو شر، علم خير الخيرين وشر الشرين، وإذا جهل المسلم أي الأعمال أفضل وأولى، لاشك أن ينفق وقته وجهده وماله في أجر أقل ويفوت ما هو أجل وأعظم، وإن اختلطت لديه مراتب الأعمال واختل لديه توازنها قد يصل إلى عكس مقصود الشرع؛ فيأثم من حيث يريد أن يغنم، أو إلى عكس مقصوده في الواقع فيفسد من حيث يريد أن يصلح.
القرآن الكريم ومراتب الأعمال:
وقد وردت آيات عديدة في كتاب الله عز وجل تبين أن الأعمال ليست كلها في درجة واحدة، بل تخلف درجاتها في الخير، كما تختلف دركاتها في الشر.
ومن ذلك قوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] . قال ابن كثير: (فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها).
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] ففاضلت الآية بين أمرين كلاهما طاعة وقربة، وبينت أنهما لا يستويان عند الله تعالى.
وفي قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] دليل على أن عبادة وقيام ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر.
كما بين القرآن الكريم في آيات أخرى: أن المحرمات منها الكبائر والصغائر، فقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، وقال سبحانه مادحاً عباده المحسنين: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]. فدلت الآيتان على أن المنهيات قسمان: كبائر، وأخرى دونها سميت في الآية الأولى سيئات، وفي الثانية لمََماً. قال ابن كثير: (لأن اللمَمَ من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال).
السنة النبوية ومراتب الأعمال:
والسنة النبوية زاخرة بالنماذج والأمثلة لتفاضل الأعمال والتكاليف الشرعية التي يجب على المسلم مراعاتها في عبادته وحركته في الحياة.. وربما يكون أجمع حديث في ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ" [مسلم].
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم مراراً عن: أي الإسلام أفضل؟ أو أيه خير؟ فأجاب . وإنما المقصود أي أعمال المسلم أفضل أو أخير؟ ولذلك بوب الإمام النووي لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من ذلك النوع، فقال: (باب بيان تفاضل الإسلام، أو أي أموره أفضل)
وفي المقابل بينت أحاديث عديدة كون الذنوب أنواعاً ومراتب، فعن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ" ثلاثا قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"، وجلس وكان متكئا فقال: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ" ، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. [متفق عليه]
وعن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ"، قلت: إن ذلك لعظيم .ثم أي؟ قال: "وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ.." [البخاري]
أصول الفقه يضع القواعد:
وانطلاقاً مما مر، فقد اتفقت الأمة على أن الأحكام الشرعية التي كلف بها المسلم أنواع ومراتب، وليست على ميزان واحد كما اتفق جمهور العلماء على انقسام مأمورات الشرع إلى واجبات ومستحبات، وانقسام منهياته إلى مكروهات ومحرمات، يقول مجد الدين بن تيمية في المسودة: (اتفق الفقهاء والمتكلمون على أن أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح).
ولأن الواجب على المسلم أن يضع كل أمر شرعي موضعه، ولا يخلط بين أنواع الأحكام أو يتعامل معها كيفما اتفق، فقد بين العلماء - والأصوليون منهم بالخصوص - تعريف كل نوع من الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة، ووضعوا قواعد لكيفية استنباطها وأساليب التفريق بينها، كما قرروا أنه - لذلك - لا يجوز أن يُسوّى بين الواجب والمندوب (لا في القول ولا في الفعل ولا في الاعتقاد)، ولا يُسوّى بين الحرام والمكروه، ولا بين المباح وبين المندوب والمكروه:
يقول الشاطبي: (الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يُسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولا يُسامح في تركها البتة، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تفعل، ولا يسامح في فعلها).
والمصالح الشرعية مقسمة إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وهي مرتبة بهذا الترتيب، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية كما يقول الشاطبي: (ليست كالأوامر الشرعية المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الضروريات ليست في الطلب على وزن واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليست في التأكيد كالنفس، ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات، والحاجيات كذلك..).
إذاً لا يكفي المسلم أن يعلم ما أمر به الشرع أو ما نهى عنه، بل عليه أن يعلم أيضاً درجة الأمر أو النهي، وأن ينزل كل ذلك مرتبته دون إفراط ولا تفريط.
فقه مراتب الأعمال خاصة العلماء بهذا الدين
وقد وصف الإمام ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين.
يقول: (فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر ، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة ، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل ، فإن التميز بين جنس المعروف وجنس المنكر ، وجنس الدليل و غير الدليل يتيسر كثيراً، فأما مراتب المنكر و مراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه ، وتنكر أنكر المنكرين: وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين).
أما تلميذه ابن القيم فقد اعتبر انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عقبات الشيطان التي لا يتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها . إن الشيطان في هذه العقبة يأمر الإنسان ويحسن له الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات ، ويريه ما فيها من الفضل و الربح ؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسبا وربحاً، ( لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب ، طمع في تخسيره كماله وفضله ، ودرجاته العالية ، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه ، وبالمرضي عن الأرضى له )، ثم قال ابن القيم: ( فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ، ومنازلها في الفضل ، ومعرفة مقاديرها، و التميز بين عاليها ، وسافلها ، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها و مرؤوسها ، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا ، ورئيسا ومرؤوسا، وذروة وما دونها... ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه).
خطر غياب حس الأولويات:
لقدكان لعدم الاهتمام بتعليم المسلم هذا الفقه الجليل آثار قد تكون بعيدة المدى وشديدة الضرر دنيا وأخرى . ومن تلك النتائج:
1- ضياع الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر ، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة. وتروي لنا السنة من ذلك أمثلة كثيرة فعن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ، فمنا المفطر ، قال فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب ، فقال رسول الله : "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ" [متفق عليه]
وقد يصل الأمر إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه :
قال رجل يا رسول الله: إن فلانة يذكر مع كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها .قال: "هِيَ فِي النَّارِ"، وفي رواية قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها. قال: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ" [رواه أحمد وصححه الألباني]
كما أن ابن الجوزي قد ذكر أمثلة متعددة لدى العباد بالخصوص ، كلها ناتج عن قلة الفقه بمراتب الأعمال ، قال مثلا: (وقد لبس إبليس على جماعة من المتعبدين ، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلاناً فلا يقدر على الكسب لعائلته).
2- سوء فهم الشريعة: إن الجهل بمراتب الأعمال عندما يكون عاماً يؤدي إلى فوضى فكرية عارمة ، تشوه الشريعة وتخل بتوازنها، لقد أرسى الشرع بين المأمورات والمنهيات توازنا لا يجوز الإخلال به ، تماما كنسب الدواء الواحد، قد يؤدي تغييرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه ،إن لم ينقلب إلى سم قاتل، ومن ذلك أن المسلم اليوم مثلا قد أضحى عنده ترتيب جديد لأوامر الشرع ،يجعل الشعائر التعبدية (فرائض ومستحبات) أعلى مرتبة من سائر الواجبات والفرائض الأخرى ، وأوكد من ترك منهيات الشرع (محرمات ومكروهات).
3- غياب حس الأولويات في الدعوة: فسوء فهم الشريعة واختلاط مراتب أحكامها يؤدي إلى عجز الدعاة عن البدء بما يجب البدء به . فإذا كان في أحكام الدين واجب ومستحب ، وفاضل ومفضول ، فإن الدعوة إلى الواجب والفاضل مقدم على الدعوة إلى ما دونها، لكننا نرى من بين شباب الصحوة الإسلامية ودعاتها من ينشغل بالمسائل المرجوحة والأحكام الخلافية ، تبدد الجهود والطاقات فيها ،والأولى البدء بالدعوة إلى أصول العقيدة والشريعة ،وبذل الجهد في معالجة القضايا المصيرية الكبرى للأمة .
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد من اعتبار درجة المعروف ودرجة المنكر ، حتى لا يفسد الإنسان بدل أن يصلح ، وحتى لا ينفر بدل أن يبشر ، ولذلك اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه:
(إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر بل ينظر؛ فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله ، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه، أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله)
إن هذا النص تطبيق رائع لفقه مراتب الأعمال وتقديم الراجح منها..
وقد صاغ الأصوليون ذلك في قواعد تشريعية هادية مثل :
- دفع أشد المفسدتين بأخفهما..
- والإتيان بأعظم المصلحتين وتفويت أدناهما..
- وتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة..
- وعدم ترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة..
ولا يستقيم عمل دعوي إلا بفقه هذه الأصول والقواعد والالتزام بها ، فعسى أن يوفق أبناء الصحوة الإسلامية وشبابها إلى ذلك،والحمد لله رب العالمين.
الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ