أعمال التشريق
ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى . فإقامة الحجاج بمنى يوم النحر وأيام التشريق مشروعة إجماعا، وكذلك المبيت معظم ليلتي الحادي عشر والثاني عشر وهو واجب- على غير السقاة والرعاة ومن في حكمهم- عند أحمد وغيره، لما في السنن وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في البيتوتة عند منى، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته . وكان عمر رضي الله عنه يقول: لا يبيتن أحد من الحجاج ليالي منى وراء العقبة. فدلت هذه الآثار على أن المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشرو الثالث عشر لمن غربت الشمس بها واجب يتعرض تاركه للإثم ويلزمه فدية إلا من عذر ولهذا رخصه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الأعذار
ويرمون الجمرات الثلاث يومي الحادي عشر ويسمى يوم القر- وذلك لاستقرار الناس فيه في منى- وكذلك يرمون الجمرات يوم الثاني عشر كل ذلك بعد الزوال- ويمتد وقته إلى غروب الشمس- كل جمرة بسبع حصيات، ففي كل يوم يرمون إحدى وعشرين حصاة. ودليل ذلك ما في صحيح مسلم عن جابر- رضي الله عنه- قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد- يعني في أيام التشريق- فإذا زالت الشمس . وفي البخاري عنه قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال . وفيه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: كنا نتحين - ننتظر- فإذا زالت الشمس رمينا .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: لا ترموا الجمار في الأيام الثلاثة يعني أيام التشريق- حتى تزول الشمس رواه مالك وغيره. فدلت هذه النصوص الصحيحة على أن ابتداء الرمي بعد الزوال هذه الأيام من النسك الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه عنه أصحابه.
ويجب الترتيب في رمي الجمرات أيام التشريق، فيبدأ بالجمرة الأولى وهي الصغرى أقرب الجمرات لمسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات- وتقدم أن الحصاة بحجم الأنملة وهي رأس أصبع اليد الذي فيه الظفر- ، يكبر مع كل حصاة، ثم يقف فيدعو طويلا، ثم ينصرف إلى الجمرة التي تليها وهي الوسطى فيرميها كالتي قبلها، ثم يقف ويدعو طويلا، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة أبعد الجمرات من منى فيرميها كذلك ولا يقف عندها بل ينصرف إذا رمى، فهذا فعله صلى الله عليه وسلم . ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا الصغرى بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة أي: يقول: بسم الله والله أكبر- وإن قال: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا فحسن، ثم يتقدم يعني أمامها ويجعلها عن يساره حتى يسهل- يعني في الوادي- فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل- يعني الوادي- ويجعل الجمرة عن يمينه ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .
كيفية التعجل والتأخر :
ثم بعد الرمي يوم الثاني عشر بعد الزوال، من أحب أن يتعجل جاز له ذلك، ويخرج من منى قبل غروب الشمس ويسمى النفر الأول، ومن تأخر وبات بمنى ليلة الثالث عشر ورمى الجمرات يوم الثالث عشر بعد الزوال فهو أفضل وأعظم أجرا، سمى النفر الثاني لقوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون . فالتعجل إنما يكون يوم الثاني عشر وأما الحادي عشر فهو يوم قر لا نفير فيه، لان النبي صلى الله عليه وسلم رخص في التعجل يوم الثاني عشر وأما هو صلى الله عليه وسلم فلم يتعجل، بل أقام بمنى حتى رمى الجمرات يوم الثالث عشر بعد الزوال، ثم ارتحل قبل أن يصلي الظهر فعلى الحجاج أن يتقوا الله في جميع مناسكهم والتقوى إنما تكون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وترك مخالفته، فمن اتقى الله فلا إثم عليه سواء تعجل أو تأخر ومن لم يتق الله لحقه الإثم وتعرض للخطر.
تنبيهات تتعلق برمي الجمرات
الأول: شرع رمي الجمرات لإقامة ذكر الله واتباع إبراهيم خليل الله، روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله . وروى البيهقي في سننه عن ابن عباس- رضي الله عنهما- رفعه قال: لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض . قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون . رواه الحاكم في المستدرك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصححه وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
الثاني: ينبغي لزوم السكينة والوقار و الخشوع، وهو في الطريق إلى الجمرات وحال رميها، وأن يتجنب إيذاء الخلق، لما في المسند وغيره عن قدامة بن عبد الله بن عمار- رضي الله عنه- قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقة له صهباء، لا ضرب، ولا لطم، ولا إليك إليك . وفي صحيح مسلم من حديث الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عشية عرفة وغداة جمع يعني يوم النحر حين دفعوا: عليكم بالسكينة . وروي عنه صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا .
الثالث: بعض العوام يعتقد أنه لا بد من لقط حصى الجمار من مزدلفة، وليس لذلك- فيما أعلم- أصل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، فعلى الحاج إذا أراد رمي الجمرة أن يلتقط حصى كل يوم من موضع إقامته بمنى، أو من طريقه إذا ذهب لرمي الجمرة.
الرابع: كثير من الناس يظنون أنه لا بد من رمي العمود القائم على الجمرة، وهذا وهم فإن المتعين أن ترمى الحصى فى الحوض، وإنما جعل العمود علامة على الحوض فقط، ولا يشترط استقرار الحصى في الحوض، فلو تدحرجت منه أجزأ عند جمع من أهل العلم وهو الصحيح إن شاء الله.
الخامس: على الحاج أن يتقي الله في نسكه بأن يباشره بنفسه، ويأتي به على الوجه المأمور به شرعا ، إخلاصا لله تعالى، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يستعين بالله على ذلك، وأن يصبر لله ويحتسب عند الله ما يصيبه من مشقة أو أذى، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : الحج جهاد كل ضعيف رواه أحمد وابن ماجة . فإن شق عليه لكبر سن أو مرض أو خاف على نفسه، أو كون المرأة حاملا، جاز أن يوكل من يرمي عنه، لقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم . ولقوله سبحانه: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . ولما ثبت في المسند وغيره عن جابر رضي الله عنه في صفة حجهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم .
السادس: يجوز للإنسان أن يرمي كل جمرة عن نفسه، ثم يرمي عن موكله في موقف واحد.
السابع: بعض الناس يخطئون في رمي الجمرات أيام التشريق، حيث يرمونها قبل الزوال، وهذا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يرم إلا بعد الزوال، وكان يقول: خذوا عني مناسككم . وكان الصحابة- رضي الله عنهم- يتحينون الزوال- أي ينتظرونه- فإذا زالت الشمس رموا، وكثير من أهل العلم يرون أن من رمى قبل الزوال، فعليه أن يعيد بعده وإلا لزمه دم.
ومما يتعلق بأيام التشريق أيضا:
أ- السنة أن يكون الحاج أيام التشريق مفطرا لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى لكن لو عجز القارن والمتمتع عن الهدي لضياع نفقة أو نحوها و لزمه الصيام فلا بأس بصيام الثلاثة الأيام التي في الحج في أيام التشريق فإنه مخير في صيامها إن شاء صامها قبل يوم النحر، وإن شاء صامها أيام التشريق لحديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري .
ب- اذا غربت الشمس على الحاج يوم الثاني عشر وهو بمنى لم ينفر و لم يتهيأ للنفير تعين عليه أن يبيت بمنى ليلة الثالث عشر وأن يرمي الجمرات يوم الثالث عشر بعد زوال الشمس لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن، حتى يرمي الجمار من الغد أخرجه مالك وغيره. أما لو تأخر عن النفير بسبب زحام السيارات ونحو ذلك فينفر ولا حرج.
ج- إذا تيسر للحاج أن ينزل بالمحصب- وهو الأبطح- بعد فراغه من رمي الجمرات يوم الثالث عشر و يبيت به ليلة الرابع عشر فذلك سنة لقوله صلى الله عليه وسلم : نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر يعني بالمحصب. رواه البخاري .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون بالأبطح وكان ابن عمر يرى أن التحصيب سنة وقال نافع رحمه الله: قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده . روى هذه الآثار مسلم رحمه الله .