الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الخلق وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ،،
أعلم أرشدك الله أن جمع القرآن وتدوينه مر بثلاثة عصور:
أولاً: الجمع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
وكان عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاص من سورتها ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرقها بين العُسُب والعظام والحجارة والرقاع ونحو ذلك حسبما تيسرت لهم أدوات الكتابة، وإن كان التعويل أيامئذ على الحفظ والإستظهار.
ثانياً: الجمع على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
كان عبارة عن نقل القرآن وكتابته في صحف مرتباً الآيات أيضاً مقتصراً فيه على ما لم تنسخ تلاوته مستوثقاً له بالتوتر والإجماع، وكان الغرض منه تسجيل القرآن وتقيده بالكتابة مجموعاً مرتباً، خشية ذهاب شئ منه بموت حملته وحُفاظه .
ثالثاً: الجمع على عهد عثمان رضي الله عنه:
لما اتسعت الفتوحات زمن عثمان واستبعد العمران وتفرق المسلمون في الأمصار والأقطار ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة لدراسة القرآن وطال عهد الناس بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والوحي والتنزيل، وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة، بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن، أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، بل كان هذا الشقاق أشد لبعد هؤلاء بالنبوة وعدم وجود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم، يطمئنون إلى حكمه ويصدرون جميعاً عن رأيه، واستفحل الداء وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير، وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى! فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن تحرق ) انتهى.
منهاج عثمان في كتابة المصحف:
أن لا يكتبوا في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن، وعلموا أنه قد استقر في العرضة الأخيرة، وما أيقنوا صحته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما لم ينسخ، وتركوا ما سوى ذلك نحو قراءة : [ فامضوا إلى ذكر الله] بدل كلمة ﴿ فَاسَعَوْا﴾ [الجمعة:9] ونحو: [ وكان ورائهم ملك يأخد كل سفينة صالحة غصب] بزيادة كلمة [ صالحة] … [الكهف:79] إلى غير ذلك ……
أن يكتبوا مصاحف متعددة قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين ،وهي الأخرى متعددة.
وأن تكون متفاوتة في الإثبات والحذف والبدل وغيرها لأنه رضي الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة، وجعلوها خالية من النقط والشكل تحقيقاً لهذا الاحتمال أيضاً، فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو: ﴿ نُنْشِزُهَ﴾من قوله تعالى: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَ﴾…[البقرة:259] فإن تجردها من النقط والشكل يجعلها تُقرأ ﴿ننشره﴾ و﴿ نُنْشِزُهَ﴾ بالراء وبالزاي وبه وردة القراءة، ونحو ﴿ فَتَبَيَّنُو﴾ من قوله تعالى:﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُو﴾ … [الحجرات:6] فإنها تقرأ أيضاً ﴿ فتثبتو﴾ عند خلوها من النقط والشكل وهي قراءة أخرى.
أما الكلمات التي تدل على أكثر من قراءة عند خُلُوِّها من النقط والشكل، مع ورودها بقراءة أخرى أيضاً فإنهم رسموها في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وبعض آخر يدل على القراءة الثانية نحو ﴿ وصَّى﴾ بتضعيف من قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة:132] ﴿ وأوصى﴾ بالهمز في بعض المصاحف وهما قراءتان صحيحتان، ونحو قراءة ﴿ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التوبة:89] من قوله تعالى: ﴿ تجري تحتها الأنهار﴾ بزيادة ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿ الْأَنْهَارُ﴾ وهما قراءتان أيضاً .
وخلاصة القول أن اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات، كانوا يرسمونه بصورة واحدة لا محالة، أما الذي تختلف فه وجوه القراءات فإنه كان لا يمكن رسمه في خط محتمل لتلك الوجوه كلها فأنهم يكتبونه برسم يُوافق بعض الوجوه في مصحف ثم يكتبونه برسم آخر يوافق الوجوه الأخرى في مصحف أخر.
وكانوا يتحاشون أن يكتبوا بالرسمين في مصحف واحد خشية أن يتوهم أن اللفظ نزل مكرراً بالوجهين في قراءة واحدة، بل هما قراءتان نزل اللفظ في إحداهما بوجه واحد الثانية بوجه آخر من غير تكرار، وكانوا أيضاً يتحاشون أن يكتبوا هذا اللفظ في مصحف واحد برسمين أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية، لئلا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول.
والذي دعا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً إلى انتهاج هذه الخطة في رسم المصاحف وكتابتها أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجميع وجوه قراءاته، وبكافة حروفه التي نزل عليها، وحتى لا يقال أنهم أسقطوا شئ من قراءاته، أو منعوا أحداً من القراءة بأي حرف شاء، على أنها كلها منقولة نقل متواتراً عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول عليه السلام ( فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تُمارو) .
وكان منهاجه رضي الله عنه أنه قال لهؤلاء القرشيين: ( إذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ) ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق غلقاً لباب الفتنة.
وإنما فعل ذلك إلا بعد استشار الصحابة، واكتساب موافقتهم، روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة، قال: ( سمعت علي بن أبي طالب ري الله عنه يقول : " يا معشر الناس أتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حَّرقُ مصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملأٍ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ")، وعن عمر بن سعيد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( لو كنت الوالي وقت عثمان، لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان ) رضي الله عن الجميع، وجزاهم أحسن الجزاء على هذا الصنيع.