التعصب وخطره على الصحوة الإسلامية
كتبه/ محمد القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالناظر والمتأمل في واقع الدعوة المعاصر يرى بعض الآفات السلوكية الخطيرة، والتي تؤثر تأثيراً بالغاً على تآلف القلوب، وبالتالي على وحدة الصف وقوة الصحوة، ولعل من أبرز هذه الآفات السلوكية هي آفة التعصب، وهذا التعصب يأخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة في الواقع، ولكن هذه الأنماط مردها في النهاية إلى التعصب الجاهلي ودعوى الجاهلية التي نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اتباعها والانزواء تحت رايتها -كما سنبين إن شاء الله-.
فالتعصب هو التشدد وأخذ الأمر بشدة وعنف، وعدم قبول المخالف ورفضه، والأنفة من أن يتبع غيره، ولو كان على صواب. وكذلك التعصب هو نصرة قومه أو جماعته أو من يؤمن بمبادئه سواء كانوا محقين أم مبطلين، وسواء كانوا ظالمين أو مظلومين.
هذا النوع من التعصب المذموم شرعاً الذي ورد الشرع بذمه، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما رأى لمحة التعصب تطل برأسها في المجتمع المدني كما في الحديث: عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- يَقُولُ: (كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) متفق عليه..
وهكذا ينبغي أن نتعامل مع دعاوى الجاهلية أن نضعها تحت الأقدام؛ لأنها منتنة، سواء كانت هذه الدعوى للتعصب الحزبي أو التعصب المذهبي أو القومي أو الوطني أو لفرد من الأفراد أو أَيٍّ من أنواع التعصب التي أصبحت تهدد وحدة المسلمين وقوة كيانهم.
1- فالتعصب الحزبي مثلاً هو:
التعصب للفئة أو الحزب أو الجماعة التي ينتسب إليها الفرد والانتصار لها بالحق والباطل، وإضفاء صفة العصمة والقداسة عليها، وذكر مزاياها ومحاسنها، ومهاجمة غيرها بذكر عيوبها وسيئاتها، فيعظـِّم حزبه ويحتقر غيره، وقد تكون هذه العصبية المقيتة للجماعة ذريعة للوقوع في الجماعات الأخرى، أو لاستباحة أعراضهم بالغيبة والبهتان، وكذا تتبع العورات، واشتغال كل جماعة بعيوب الأخرى، فيكون التنازع والفشل وتضيع الجهود، وتمرض القلوب.
وقد ظهرت هذه الآفات للأسف الشديد في داخل العمل الإسلامي، بل بين أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة، مما أدى إلى حدوث تصدع شديد بين أبناء الصحوة، وفساد عريض لذات البين، وانتشار لأمراض خطيرة في الساحة الإسلامية من تعظيم أبناء الجماعة للأعمال الدعوية التي تهتم بها جماعتهم، واحتقار الأعمال الدعوية التي يقوم بها الآخرون، كما سبق أن بينا.
ومن ذلك ظهور آفة من الآفات الخطيرة ألا وهي عقد الولاء والبراء على الأسماء والأشخاص، فمن كان ينتسب إلى جماعتنا أو إلى شيخنا فهو معنا وإلا فهو علينا من دون النظر إلى عقيدة الرجل وفكره وزنة ذلك بالكتاب والسنة، فما كان موافقاً لهما كان مقبولاً، وما كان مخالفاً لهما فمردود على صاحبه كائناً من كان.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم تخلص الساحة الإسلامية من الأخلاق الجاهلية التي تحول بين العاملين بها وبين الوصول إلى الغاية المنشودة والهدف المقصود.
والذين كانوا يعيبون على الجماعات الإسلامية المعاصرة أنها مزقت الصف الواحد بهذه الأسماء هم الذين يتعصبون اليوم للمشايخ أكثر من تعصب أفراد الجماعات لأسماء الجماعات المختلفة.
والذي ينبغي أن يربى عليه أبناء الصحوة الإسلامية أنه لا قداسة لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن كلاً يؤخذ من قوله ويرد كائنا من كان، ومهما كانت درجة الشيخ العلمية ومكانته الدعوية فإنه غير معصوم، ولا يمكن تنزيل كلامه منزلة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فكل داعية وكل عالم، بل كل عالم بلغ درجة الاجتهاد المطلق له زلَلَـه وخطؤه، ولم يكتب الله العصمة لأحد بعد نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فالتعصب لأسماء الجماعات والأحزاب -ومن نفس الجنس التعصب للأفراد- هو من الشر العظيم الذي ينبغي أن نتخلص منه.
2- أما التعصب القومي:
فهو الانتصار للقومية التي ينتسب إليها لمجرد القومية، كما تعصب الأتراك لقوميتهم في آخر الخلافة العثمانية، وكما تعصب العرب لقوميتهم مقابل هذا التعصب، وحروب القوميات لا تخطئ الناظر، وقد تقع في البلد الواحد، وما زال البعض يتغنى بالقومية العربية على ما جرته هذه النعرات الجاهلية من هزائم وويلات على ديار المسلمين، فنحن نرد على من يتمسك بمثل هذا الهراء بما ذكرناه آنفا، وبقولنا:
أبي الإسلام لا أبا لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم
3- وأما التعصب المذهبي:
فما أدراك ما التعصب المذهبي! هذا التعصب الذي فرّق المسلمين وجعل لهم أربعة منابر في الحرم المكي حول بيت الله، ومنع الشافعي يصلي خلف الحنبلي، والحنبلي خلف المالكيومنع الشافعيَّ أن يصلي خلف الحنبليِّ ، والحنبليَّ خلف المالكيِّ، وهلمّ جرا، وأغلق باب الاجتهاد في وجه الأمة، ولقد كان لعلماء الأمة وقفة عظيمة مع هذا التعصب المذهبي، فالإمام مالك -رحمه الله- كان غاية في الإنصاف والتواضع والورع، عميق الفقه، بعيداً عن الإعنات والأنا والتكلف، وما قصته في رفضه أمر المنصور تعميمَ مُوَطَّئِهِ إلا صفحة من تلك الصور.
يقول مالك: "لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعت -يعني الموطأ- فتنسخ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث؛ فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.
قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به، ودانوا به من اختــلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وإنّ ردَّهم عما اعتقدوه شديد، فدَعِ الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم". الموطأ، رواية محمد بن الحسن1/5.
فهذا نموذج من أعظم صور التعلق بالحق والتجرد له، والبعد عن التعصب والأنا، بل كان -رحمه الله- شديد النكير على المتعصبين، كامل التعلق بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، نابذاً لمن عارض ذلك.
ومن المأثور عنه في هذا المضمار قوله: "ليس كل ما يقول الرجل -وإن كان فاضلاً- يُتَّبع، ويُجعَل سنة، ويذهب به إلى الأمصار، قال -تعالى-: (فَبِشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(الزمر:٧١-٨١)" ترتيب المدارك:1/182.
وكان يحذِّر أصحابه من التعصب لقوله، أو التعلق برأيه في مواجهة النص؛ حيث قال: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". الاعتصام:2/301، ذلك أنه كان يرى أن صلاحَ خَلَفِ الأمة لا يكون إلا بانتهاج ما كان عليه سلَفها من التمسك بالكتاب والسنة، ولذلك قال: "لا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" الرد على الجهمية 12.
ولقد كانت محبة السنة النبوية والذود عنها والسعي إلى حفظها؛ أحد أهم الأسباب التي دفعت مالكاً إلى تصنيف موطئه الذي توخى فيه اختيار أقوى أحاديث أهل الحجاز ممزوجة بأوثق ما نُقِل من أقوال الصحابة، محشوّة بأصوب فتاوى التابعين، من غير انتصار لرأي، أو نبذ لحقيقة، أو رفض لحجة، وقد ورث عن مالك كبراء علماء المالكية هذا المنهج، فذموا التعصب ووسموه بكل نعوت القبح.
يقول أبو العباس المقري، وهو من كبراء علماء المالكية:
"قد ضل بعض الناس، فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملة" نفح الطيب:2/521، بل عد المقري معارضة النصوص بأقوال الرجال من أشنع أنواع التعصب وأبشع صنوف التنكيب عن مَهْيَع الحق، فذكر جملة من القواعد الفقهية تعد جواهر في هذا الخضم، حيث يقول: "قاعدة: لا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها؛ فإن ذلك إفساد لها وغضٌّ من منزلتها، لا أصلح الله المذاهب بفسادها، ولا رفعها بخفض درجاتها، فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". قواعد المقري:2/396.
ولتصويب التصور وردع الغلو المذهبي؛ يطالعنا بقاعدة أخرى نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الزمان الذي استشرى فيه التعصب المذهبي والتعلق بآراء الرجال بعيداً عن أي مستند من الوحي، فيقول: "قاعدة: لا يجوز التعصب للمذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحِجَاج وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ والمرجوحية عند المجيب كما يفعله أهل الخلاف، إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة والتعلم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق؛ فالحق أعلى من أن يُعلَى عليه وأغلب من أن يُغلَب". قواعد المقري 2/397.
وهكذا نجد النظرة نفسها عند الإمام "القرافي" حين يبين مسلكه في كتابه الذخيرة قائلاً: "وقد آثرت التنبيه على مذهب المخالفين لنا من أئمة المذاهب الثلاثة ومآخذهم في كثير من المسائل؛ تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع؛ فإن الحق ليس محصوراً في جهة؛ فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى وأعلق بالسبب الأقوى". الذخيرة:1/135.
وهذا الإمام الشاطبي يبين أسباب التعصب المذهبي ومضاره، وأنه خروج على منهج السلف بقوله: "ولقد زلّ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال؛ أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فضلّوا عن سواء السبيل" الاعتصام 2/302.
وخلاصة القول: إن الإمام مالكاً -رحمه الله- من أعلم علماء الأمة، وأكثرهم تعلقاً بالدليل، وأوضحهم مسلكاً، وأنصعهم عقيدة، وأبعدهم عن التعصب لرأيه أو رأي غيره، ولم يكن يترك الدليل ليعارضه بآراء الرجال، وكذلك كان كبار علماء المالكية وليس هذا عند علماء المالكية وحدهم، بل هذا منهج جميع الأئمة في كل الأعصار، وفي كل الأمصار، فها هو الإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: "إن صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بكتابي هذا عرض الحائط"، وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: "حرام على من لم يعرف دليلنا أن يتبع مذهبنا".
وقد جمع الإمام ابن القيم -رحمه الله- كلام العلماء في ذم التقليد في كل الأعصار في فصول ماتعة من كتابه العظيم "إعلام الموقعين" فليراجعها من أراد الاستزادة من العلم في هذا الباب فعلاج التعصب المذهبي أن تربى الأجيال على التعصب للدليل من الكتاب والسنة، وترك العمل بكل قول جاء حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلافه.
4- وأما التعصب الطائفي :
فهو الذي أشعل نار الفتنة والقتال بين طوائف الأمة كتعصب الخوارج ضد الصحابة وقتالهم، وما نراه الآن من طوفان التعصب الشيعي الذي لا يشك الناظر في حال القوم أنهم من أعظم أسباب تسلط الكفار على ديار المسلمين في واقعنا المعاصر، وما فعله الشيعة اليوم في العراق، وبالأمس في لبنان، ومعسكرات اللاجئين الفلسطينيين، وكلما تسلطوا على مكان أذاقوا أهل السنة فيه ألوان العذاب بطريقة وحشية يندى لها الجبين، وما يحاولونه الآن من اختراق الدول السنية ومد جذور التشيع داخل هذه الدول، ما هو إلا حلقة من حلقات الصراع الطائفي الذي يتحمل جرمه عند الله من خرج عن منهج أهل السنة والجماعة؛ منهج الطائفة المنصورة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن كل من خالفها فهو من الفرق النارية كما في الحديث، وأنها هي الطائفة الظاهرة على الحق إلى قيام الساعة؛ ظهور حجة وبيان، وظهور سيف وسنان.
5- التمييز العنصري:
فيكون بسبب الجنس كتمييز الذكور ضد الإناث بغير دليل شرعي، أو اللون كتمييز الأبيض ضد الأسود، أو الأرض والوطن كالتمييز الحاصل ضد المهاجرين واللاجئين، أو القبيلة كالتمييز ضد أبناء القبائل الأخرى واحتقارهم، فهذه النعرات الجاهلية تظهر عندما يخفت ضوء الحق في تلك المجتمعات؛ فإن الإسلام لم يدَع لتلك النعرات مكانًا في حياة المسلمين والمؤمنين الكُمَّل، حتى من وقع منه ذلك على سبيل الخطأ وجد التوجيه من رسول البشرية -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان بين بعض الصحابة -رضي الله عنهم- ورجل من العبيد كلام، فتسابّا وكانت أم هذا الرجل أمة أعجمية سوداء فعيّره أبو ذر بها، فغضب الرجل من ذلك، وذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وشكا إليه أبا ذر وأخبره بما قاله له، فلما لقي أبو ذر النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله فقال: يا أبا ذر أساببت فلاناً؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: أعيّرته بأمه؟ قال: نعم يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه. قال: يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية.
ووقعت هذه الكلمة من أبي ذر موقعاً شديداً فهو أبعد الناس عهداً بالجاهلية فقد كان رابع أربعة كانوا أول الناس إسلاماً فكيف تبقى فيه جاهلية بعد ذلك؟! فقال: يا رسول الله، فيّ جاهلية وأنا على حين ساعتي هذه من كبر السن؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نعم على حين ساعتك هذه من كبر السن، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه عليه.
وتشرّبت نفس أبي ذر كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقي نصب عيناه حتى آخر عمره، فقد نزل في آخر حياته بالربذة وهي بادية قريبة من المدينة، فمر به المعرور بن سويد فرآه ومعه غلامه، وقد قسم أبو ذر حلة بينه وبين غلامه، لبس أبو ذر منها ثوباً ولبس غلامه ثوباً -والحلة كساء من قطعتين يكونان من جنس واحد- فعجب المعرور من حال أبي ذر مع غلامه؛ إذ لم يكن من عادة الناس مساواة خدمهم في الملبس فقال: يا أبا ذر، لو كنت أخذت الذي على غلامك فجعلته مع هذا الذي عليك لكانت لك حلة كاملة، وكسوت غلامك ثوبا غيره فقال أبو ذر: سأخبرك عن ذلك، إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإني ساببته، وكانت أمه أعجمية فعيّرته بها..، ثم ذكر قصته تلك(1)، وما قاله له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعرف المعرور سبب صنيع أبي ذر، وزال عجبه وحفظ القصة ووعاها ورواها لتبقى لنا فيها عبر ودروس.
فالحمد الله الذي هدانا للإسلام وعلمنا القرآن وبعث لنا خير الأنام، ونسأل الله أن يجعلنا ممن يتمسكون بهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- حتى نلقاه، وأن يعيذنا من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يقينا شر الشقاق والتعصب والمحن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: (رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ عَلَيْهِ بُرْدًا وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْدًا فَقُلْتُ لَوْ أَخَذْتَ هَذَا فَلَبِسْتَهُ كَانَتْ حُلَّةً، وَأَعْطَيْتَهُ ثَوْبًا آخَرَ. فَقَالَ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِي: أَسَابَبْتَ فُلاَنًا. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ. قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ: عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ؟! قَالَ: نَعَمْ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ) رواه البخاري.
وعند مسلم عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قال: (مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً. فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَلَقِيتُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ. قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ).