الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كتبه/ سعيد عبد العظيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالمنزلة العليا في الجنة تتطلب أن يكون الإنسان في المنزلة القصوى في الدنيا، وهذه المنزلة هي منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه أشرف وظيفة ومهمة، وهي مهمة جميع الأنبياء والمرسلين، فما من نبي إلا وقال لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(الأعراف:59)، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل:36).
ولقد توجه الخطاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ)(الحج:67)، (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(القصص:87)، والأمة تدخل في التكليف تبعا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طالما لم يرد دليل يخصص الحكم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والدعوة إلى الله هي "سفينة النجاة فمن ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك"، فالمنكرات التي ترتكب تصير معروفا بالسكوت عليها، بل قد يؤمر بالمنكر وينهى عن المعروف كما هو مشاهد، والمنكرات أشبه بثقب في قعر السفينة، و"هذا الثقب يساوي قبرا في قعر المحيط"، و(مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا -أي: بدلا من الصعود والنزول- فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) رواه البخاري، و(تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) رواه مسلم.
لقد ضُيـِّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر أزمان متطاولة بحيث لم يبقَ منه إلا اسمه كما يقول الإمام النووي -رحمه الله-، وقد يقول قائل: كيف ذلك وعندنا شيوخ الأزهر يخطبون في الناس ويعظونهم؟!
والإجابة على ذلك: أن معنى قيام الفرض حصول المأمور به في عالم الواقع بحيث يصير المعروف معروفا والمنكر منكرا، وهذا لم يحدث، ولذلك يجب على كل من تأهل أن يحق الحق ويبطل الباطل، ولا يتعلل بوجود الخريجين من الكليات الشرعية وأصول الدين، فهؤلاء لم تحصل بهم الكفاية من جهة.
ومن جهة أخرى، فالواجب على من رأى معروفا تـُرك أو منكرا ارتـُكِب وكان عنده المقدرة على الإنكار ولم يقم أحد بذلك أن يقوم هو بالإنكار ويلزمه ذلك، ولا يشترط في ذلك حصوله على شهادة شرعية، ومن تتبع السنن والسيرة علم ذلك، بل قال العلماء: "حقا على شاربي الكئوس أن يتناصحوا، وإذا لم يتناصحوا فالذنب ذنبان، والإثم إثمان؛ ذنب شرب الخمر وذنب ترك النصيحة"؛ وهذا لأن العدالة ليست شرطا في الآمر الناهي وإذا اشترطناها لم يأمر أحد بشيء، إذ (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
وقوله -تعالى-: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(البقرة:44)، لا ذم فيها لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ وإنما الذم لمن لم يعمل بعلمه، والدعوة بالسلوك أبلغ من الدعوة بالقول، والإنسان قد ينفر الناس بفعله في الوقت الذي يدعوهم فيه بلسانه، ولذلك قال نبي الله شعيب -عليه السلام-: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)(هود:88)، إلا أن على المدعوين أن يستجيبوا للحق والخير، ولا يلتفتوا لهيئة الناصح وحاله "فالحق مقبول من كل من جاء به والباطل مردود على صاحبه كائنا من كان".
وينبغي على الإنسان أن يكون عالما بما يأمر به، عالما به بما ينهى عنه، رفيقا وحليما فيما يأمر به وينهى عنه، دخل أحد العلماء على أحد الأمراء فأغلظ له، فقال له الأمير: إن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال له: (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)(طه:44)، أي أن الله بعث نبيه موسى -عليه السلام- إلى فرعون، وفرعون من أكفر الخلق برب العالمين، ورغم ذلك أُمر بإلانة القول له.
ولا يـُكتفـَى بالحماسة في الإنكار؛ فلابد من التفقه في دين الله حتى تتحقق المصلحة وتندفع المضرة والمفسدة، ومن أدلة ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل ابن سلول المنافق وقال: (ترعد له آنف كثيرة بيثرب، فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟!) فرغم أن ابن سلول كان يثير الدسائس والفتن، ويكيد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللدعوة، لم يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لأن شرع الله مصلحة كله، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ينكر على أصحابه إذا رآهم يعترضون على شرب التتار الخمر ويقول لهم: "إن الخمر تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء التتار تصدهم الخمر عن قتل المسلمين وانتهاك أعراضهم".
لابد من نظر في عواقب الأمور ولا ينبغي أن ننكر المنكر بمنكر أكبر، ولا أن نثبت المنكر ونأتي بمنكر آخر، ولا أن نتلف النفس في غير مصلحة شرعية، ولا أن نستجلب بالإنكار الأذى على الأهل، والإخوان، والأصدقاء، وهكذا.. فالإنكار يجب في مواطن ويحرم في أخرى، وقد يستحب كما لو غلب على الظن حصول الأذى للآمر الناهي و(سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه الحاكم، وصححه الألباني.
إن خير الأمور أوسطها؛ فلا التهور والاندفاع في غير موضعه يصح، ولا الجبن والتراجع في موطن الإقدام يحمد، وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول لأصحابه: "أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمر، وسيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف المتثبت لكثرة الشبهات".
ومع استحكام الغربة وقلة التقوى كان لابد من رد المسائل لعالمها -وخصوصا فيما تعم فيه البلوى- فنحن نتعرض لمسائل لو عرضت على عمر -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدر، والمتتبع لأحوال الخوارج سيجد أن الحماسة وقلة الفقه كانت السبب فيما ذهبوا إليه من فظائع، حكى ابن كثير -رحمه الله- أن الراسبي خطبهم خطبة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، رغبهم فيها في الآخرة، وزهدهم فيها في الدنيا، وحثهم فيها على الجهاد، ثم خرجوا يقاتلون الصحابة المشهود لهم بالجنة.
ولذلك يقول ابن كثير -رحمه الله-: "ما أعجب جنس الخوارج ولم يكن فيهم صحابي واحد، قرأوا القرآن ولم يجاوز حناجرهم".
وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شُرِع حتى وإن غلب على الظن عدم حدوث الاستجابة، فكيف يكون الأمر مع مشاهدة هذه الثمار الناضجة وطوفان التدين الذي يولد ويترعرع؟! وأنت لا تؤّذن في مالطة، ولا في خرابة، ولا تحرث في البحر، قال -تعالى-: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)(الأعلى:9)، قال العلماء: "معناها أو لم تنفع فذكر" مثل: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)(النحل:81)، وهذه السرابيل تقي البرد من باب أولى.
ينبغي علينا إعمام الخلق بالدعوة والبلاغ، وإيصال هذا الدين إلى ربوع العالمين (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(الفرقان:1)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ . وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(ص:87-88)، فالانشغال بالمسجد ومهماته لا يتعارض مع الاهتمام بأمر المسلمين في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والاهتمام بالشباب وتربيته لا تشغلنا عن دعوة النساء، والأطفال، والعجائز، لابد من شمولية النظرة؛ فربنا يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها.
إن السير في طريق الدعوة يتطلب معرفة بالأصدقاء والخصوم، والسنن الشرعية، والسنن الكونية، كما يتطلب معرفة بأحوال المخاطبين، وإن تقديم الأهم على المهم أمر واجب في العلم والعمل والدعوة إلى الله، ولابد في ذلك من التركيز على معاني العقيدة والإيمان "فالتوحيد أولا لو كانوا يعلمون".
إن الدعوة إلى الله تحتاج لقدر من البصيرة لا يتحقق إلا بسلوك منهج الأنبياء والمرسلين، ولذلك قال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(يوسف:108)، وجاءت هذه الآية في خواتيم سورة يوسف، وهي سورة وقصة تستوقف كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
لا يجوز لنا أن نستدعي البلاء دون وجه حق، ثم نتذرع بأن البلاء سنة الأنبياء والمرسلين، وعلى من فعل ذلك أن يستغفر ربه ويتوب إليه، ويخرج من الواقع السيء ما وسعه الأمر، فإذا كان الإنسان على طريق الحق وسلك مسلك من تقدمه بإحسان وأصيب؛ فما عليه إلا أن يصبر ويحتسب الأجر عند الله (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(العصر)، وهذه السورة حَـرِيَّة بالتدبر فقد جمعت فأوعت، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.