العلامة المحدث أبو الأشبال "أحمد شاكر"
كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر. لقبه أبوه شمس الأئمة، وكناه بأبي الأشبال. ولد بعد فجر يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر جمادى الآخرة ســ1309ــنـة هـ الموافق 29 يناير 1892م بمنزل والده بالقاهرة بدرب الأُنسية بالدرب الأحمر، وهو من آل أبي علياء بجرجا محافظة سوهاج بصعيد مصر، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- ثم ارتحل وهو في الثامنة من عمره مع والده إلى السودان حيث كان قد عين قاضيا فيها.
درس الشيخ أحمد شاكر في السودان بكلية غوردن، ثم بعد رجوعه إلى مصر درس في المعهد الديني بالإسكندرية، ثم التحق بالأزهر في القاهرة الذي صار والده وكيلا لمشيخته ســ1328ـنــة هـ.
وانتقال الشيخ للأزهر كان بداية عهد جديد في حياته؛ فقد استطاع أن يتصل بكثير من العلماء وطلبة العلم الموجودين في القاهرة، ثم بدأ يتنقل في مكتبات القاهرة ويستفيد من العلماء ويكثر المطالعة. وقد حاز على الشهادة العالمية من الأزهر سـ 1336ــنـة هـ الموافق 1917م، وعمل في التدريس لمدة أربعة أشهر فقط، ثم عمل في سلك القضاء حيث عين عضوا بالمحكمة الشرعية العليا حتى أحيل إلى التقاعد سـ1371ــنـة هـ الموافق 1951م، ولم ينقطع خلال فترة اشتغاله بالقضاء عن المطالعة والتصنيف، بل أثرى المكتبة الإسلامية بأبحاثه القيمة وتحقيقه لأمهات الكتب المفيدة.
طلبه للعلم:
تفقه في بداية طلبه للعلم على مذهب أبي حنيفة، وقرأ على والده كتاب الهداية في الفقه الحنفي، ونال العالمية حنفيا، وكذلك حين كان قاضيا كان يفتي بما يراه من المذهب الحنفي.
وفي ســ1328ــنــة هـ بدأ بقراءة السنة قراءة جادة استفرغت عليه جهده ووقته، وكان من أثر عكوفه على دراسة السنة رفضه التقيد بمذهب معين من غير نظر في الأقوال والأدلة.
قال -رحمه الله-: "فسمعت كثيرا، وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، ولم أتعصب لواحد منهم، ولم أحِدْ عن سنة الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل. أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما أعتقده حقا قبل كل شيء وفوق كل شيء".
ولكنه مع رفضه للتقليد المذهبي المذموم كان يبدي إعجابا بالإمام الشافعي ومذهبه، ويقول: إنه لم يوجد في علماء المسلمين مثله، ولو جاز أن يُقلـَّدَ رجلٌ لقـُلـِّدَ الشافعي.
أما طلبه للحديث فقد كان في سن مبكرة، بدأ في الثامنة عشر من عمره بتوجيه من والده لما رأى نبوغه فيه.
عقيدته السلفية:
كتب الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في 8 شوال سنة 1374هـ قبل موته بثلاث سنوات إلى صديق عمره الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- كتاباً جاء فيه:
"تزاملنا وتآخينا منذ أكثر من خمس وأربعين سنة لله وفي سبيل الله، نصدر عن رأي واحد وعقيدة سليمة صافية في الاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا نحيد عنها ما استطعنا. وفي نصرة العقيدة السلفية والذب عنها ما وسعنا ذلك، لم يصرفنا عما قمنا له وبه، واضطلعنا بالذب عنه ما لقينا، وما نلقى من أذى أو عنت، ولعلنا -فيما قمنا به معا- من أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في بلادنا هذه، وما أريد أن أفخر بعملي ولا بعملك فما كنا نعمل إلا لله، وكان من أعظم المصادر العلمية التي استضأنا بنورها -بعد الكتاب الكريم والسنة المطهرة- كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام الحافظ ابن القيم، ثم كتب شيخ الإسلام (مجدد القرن الثاني عشر) محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-".أ.هـ.
وتظهر عقيدته السلفية ومنهجه جلية من خلال مقالاته وكتبه التي ألفها، والكتب التي قام بتحقيقها أو تصحيحها أو التعليق عليها، وكلها كتب لأئمة من أئمة أهل السنة والجماعة ليس لمبتدع فيها كتاب.
مكانته في علم الحديث:
قال أخوه العلامة أبو فهر محمود شاكر: "وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى، وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم...".أ.هـ.
حتى قيل: لم يخلف مثله في علم الحديث بمصر. وهذه الشهادة جاءت على ألسنة كثير من العلماء والدعاة المعاصرين، وكان الشيخ الألباني يقول عنه: "إنه إمام وأستاذ محدثي العصر".
من جهوده -رحمه الله-:
عاش الشيخ في فترة امتازت بكثرة الأحداث وتواليها، والدول الإسلامية تئن تحت نير الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما مع ضعف المسلمين، وشعورهم بالانهزامية والصغار أمام هجمات الصليبيين وتلامذتهم من المستشرقين الفكرية، وطعنهم في الدين، واليهود يسيرون كل يوم خطوة لامتلاك فلسطين، وإقامة دولتهم، وأحكام الشريعة أقصيت عن حياة الناس، وصار التدين والتمسك بالإسلام رجعية وتخلفاً، ووصمة عار.
فهيأ اللهُ الشيخَ وأمثالَه ليذود عن حياض الأمة، ويدافع عن شرفها وعزتها، فانبرى للتصدي لكل الأفكار الهدامة متمسكا بكتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ملتزما بعقيدة السلف، يقارع الأعداء وتلامذة الغرب من المستشرقين، دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة في قلة من أمثاله من الرجال في ذلك الزمان وصار يدبج ببراعة مقالات نفيسة، وتعليقات مفيدة على ما حققه من كتب وتعليقاته لا تزال مصدرا هاما لمن جاء بعده.
ومن اطلع على كتاب "كلمة حق" يعلم مدى دفاع الشيخ عن هذا الدين الحنيف، وتصديه للمبتدعين والخرافيين والمستشرقين وغيرهم، وخاصة مقالات: "أيتها الأمم المستعبدة"، و"بيان إلى الأمة المصرية خاصة وإلى الأمم العربية الإسلامية عامة"، و"تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين" يلاحظ مواقفه الحازمة، وبغضه لأعداء الله، وتحريض الأمة على جهاد المستعمر الذي نهب خيرات البلاد، ونشر في الأمة الفساد.
وكان -رحمه الله- من طلائع العلماء الذين انضموا لجماعة أنصار السنة المحمدية مع مؤسسها الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله-.
وكان يكتب بانتظام في مجلة الهدي النبوي (التي صار رئيس تحريرها)، وكوَّن مع إخوانه من أهل العلم أمثال الشيخ الفقي، ومحب الدين الخطيب، وصادق عرنوس وغيرهم جبهة لنشر التوحيد بين أهل مصر وقتها.
وكان ممن تكلم عن تحكيم الشريعة ووجوب تطبيقها في حياة المسلمين. وأثار الشيخ كثيرا من القضايا والمستجدات على الأمة، ووضح أن الحل لها هو تطبيق الشريعة والتمسك بهذا الدين.
وكان مما اعتنى به خصوصية الإسلام، وتميزه عن غيره من الحضارات. وحذر من خطورة التقليد الأعمى للغرب.
وكان -رحمه الله- من أكثر المتصدين لمحاولات العلمانيين لتغريب بلاد المسلمين، وحذر من محاولات الاختراق الغربي لمدارس المسلمين، وكشف حقيقة بعض المؤسسات المشبوهة، وكونها تحارب الإسلام، وكان ممن أثار العديد من القضايا العامة المتعلقة بمصير الأمة، فكان بذلك من العالمين بأدواء الأمة، وفهم مشكلاتها.
وكان للشيخ منهجه في الحديث أخذت عليه بعض التعليقات، وخالفه بعض أئمة هذا الشأن المعاصرين، وهو كغيره من أهل العلم يؤخذ من قوله ويترك.
وكان له -رحمه الله- مشاريع كثيرة في نشر كتب العلم، وتحقيقها، لكنه لم يتم أكثرها، ولعل ذلك لانشغاله بأكثر من عمل في وقت واحد. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أشهر شيوخه:
تربى الشيخ -رحمه الله- في بيئة علمية فوالده كان وكيلاً للأزهر، وجدّه لأمه العالم الجليل هارون عبد الرزاق، بالإضافة إلى وجود الأزهر الذي كان يستقطب كبار العلماء من شتى بلدان العالم الإسلامي مما أتاح للشيخ الاستفادة منهم.
مِن أشهر من استفاد منهم:
1- والده الشيخ محمد شاكر وكان أعظم الناس أثرا في حياته وقد كان يجمعه وإخوته ويدرس لهم الفقه والأصول والتفسير وغيرها من العلوم، وهو الذي وجه الشيخ إلى علم الحديث لما رأى نبوغه فيه.
2- الشيخ عبد السلام الفقي. تعلم منه الأدب واللغة والشعر.
3- الشيخ محمود أبو دقيقة. تعلم منه الفقه والأصول. بجانب الفروسية والرماية والسباحة إلا أنه لم يُجد السباحة.
4- علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
5- علامة المغرب ومحدثها الشيخ عبد الله بن إدريس السنوسي. وقد أجازه برواية صحيح البخاري وبقية الكتب الستة.
6- الشيخ طاهر الجزائري من كبار علماء الشام.
7- الشيخ محمد رشيد رضا.
8- أخذ على الشيخ محمد الأمين الشنقيطي "بلوغ المرام" وأجازه بالكتب الستة.
9- الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي.
أشهر مصنفاته:
1- تحقيق كتاب الرسالة للإمام الشافعي وهو أول كتاب عرف به الشيخ.
2- تحقيق "الجامع" للإمام الترمذي وصل فيه إلى نهاية الجزء الثالث.
3- تحقيق وشرح مسند الإمام أحمد وصل فيه إلى ثلثه تقريباً، وعدد الأحاديث التي حققها 8099 حديث.
4- تحقيق مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري ومعه معالم السنن للخطابي وتهذيب ابن القيم بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي وطبع في ثمانية مجلدات.
5- تحقيق صحيح ابن حبان حقق الجزء الأول فقط.
6- شرح ألفية السيوطي في علم الحديث.
7- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث.
8- تحقيق كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم.
9- عمدة التفسير اختصار تفسير ابن كثير.
10- تحقيق أحاديث تفسير الطبري، اشترك معه أخوه الشيخ/ محمود شاكر، وصل فيه إلى الجزء الثالث عشر.
11- تحقيق كتاب لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ.
12- تحقيق شرح الطحاوية.
13- كلمة حق وهو عبارة عن كتاب جمعت فيه مقالات كتبها في مجلة الهدي النبوي حينما كان رئيس تحرير لها.
14- تحقيق جزأين من المحلى.
15- تحقيق "العمدة" للحافظ المقدسي.
16- نظام الطلاق في الإسلام.
17- الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين.
18- كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر.
19- واشترك مع الشيخ عبد السلام هارون في تحقيق "المفضليات" و"الأصمعيات" وإصلاح المنطق.
وقد كانت وفاة الشيخ -رحمه الله- في فجر السبت السادس والعشرين من شهر ذي القعدة ســ1377ـنـة هـ الموافق 14يونيه 1958م.
رحم الله الشيخ رحمة واسعة، وحشرنا وإياه في زمرة الصالحين.