جهاد نور الدين محمود مع الصليبيين
كتبه/ محمود عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهو نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، تولى إمارة حلب، ثم اتسعت سلطته حتى شملت بلاد الشام والجزيرة ومصر والحجاز واليمن، وكان من أحسن الملوك سيرة، كما أنه اشتهر بالشجاعة وحب الجهاد وقد ظل -رحمه الله- يجاهد الصليبيين حتى أضعفهم وقلص من وجودهم في الشام.
وكان حلمه الكبير أن يفتح بيت المقدس ويطهرها من الصليبيين، ولكن وافته المنية في سنة تسع وستين وخمسمائة قبل أن يتحقق ذلك.
وكان من أول جولاته مع الصليبيين أنهم تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها، فعلم نور الدين فسار إليهم في عسكره سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، فالتقوا بمكان اسمه "يغري" من أرض الشام واقتتلوا قتالا شديدا، وانجلت المعركة عن انهزام الفرنج وقتل منهم كثير، وأسر جماعة من مقدميهم، ولم ينج من ذلك إلا الجمع القليل.
وفي سنة ست وأربعين وخمسمائة استطاع نور الدين أن يأسر "جوسلين" الذي كان أعظم ملوك الفرنج شجاعة ودهاء، وكان قد استولى على قرى وحصون شمالي مدينة حلب لما فقد إمارة "الرها"، وكان نور الدين قد وضع عليه العيون، فلما خرج للصيد أبلغوا أبا بكر بن الداية نائب نور الدين على حلب فجاء بفرقة معه فأسره. وقد فرح المسلمون كثيرا بأسره لشدة أذاه عليهم، وأصيب النصارى به لشدة غنائه فيهم، واستولى نور الدين بعد ذلك على قلاعه وحصونه ومنها "عزاز".
وفي سنة سبع وأربعين وخمسمائة تجمعت الفرنج وحشدوا الفارس والراجل، وساروا نحو نور الدين وهو ببلاد "جوسلين" ليمنعوه من ملكها فوصلوا إليه وهو "بدلوك" فلما قربوا منه رجع إليهم ولقيهم، وجرى المصاف بينهم عند "دلوك" واقتتلوا أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج وقتل وأسر منهم الكثير.
وعاد نور الدين إلى "دلوك" فاستولى عليها، ثم إن نور الدين عزم على فتح قلعة حارم المنيعة وهي قرب أنطاكية، ولها أهمية كبيرة عند النصارى وحاصرها وضيق عليها، وقد اجتمعت الفرنج لترحيله عنها، ولكن أحد عقلائهم في القلعة أشار عليهم بعدم مواجهة نور الدين لعدم مقدرتهم على قتاله؛ ثم حاصرها مرة أخرى فصالحوه على تسليمه لصف أعمال القلعة ثم في المرة الثالثة عزم على فتح القلعة واستنجد بأخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل والجزيرة، وبفخر الدين قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وبنجم الدين ألبي صاحب ماردين.
فأما قطب الدين فإنه سار مجدا وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه، وأما فخر الدين صاحب الحصن فإنه استشار خواصه فقالوا: على أي شيء عزمت؟ فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة، وهو يلقي نفسه في المهالك فكلهم وافقه على هذا الرأي، فلما كان من الغد أمر بالتجهز للغزاة، فقال له أحد خواصه: فارقناك أمس على حالة فنراك اليوم على ضدها، فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي وأخرجوا البلاد عن يدي فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا يذكرهم ما لقي المسلمون من الفرنج، وما نالهم من القتل والأسر، ويستمد مهم الدعاء، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة، فقد قعد كل واحد من هؤلاء ومعه أصحابه وأتباعه وهم يقرأون كتب نور الدين ويبكون ويلعنوني، ويدعون علي؛ فلابد من المسير إليه ثم تجهز وسار بنفسه.
وأما نجم الدين فإنه سيـَّر عسكرا، فلما اجتمعت العساكر سار نور الدين نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق، وتابع الزحف عليها، فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج فجاءوا في حدهم وحديدهم، وملوكهم وفرسانهم، وقسوسهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، وكان المقدم فيهم البرنس "بيمند" صاحب أنطاكية و"قمص" صاحب طرابلس وأعمالها و"ابن جوسلين" وهو من مشاهير الفرنج و"الدوك" وهو مقدم كبير من الروم وجمعوا الفارس والراجل.
فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعا أن يتبعوه فيتمكن منهم ببعدهم عن بلادهم، فساروا فنزلوا على غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه فعادوا إلى حارم؛ فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين، وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن، فانهزم المسلمون فيها وتبعهم الفرنج، فقيل: كانت الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه، وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلا يلجئون إليه ويعود المنهزمون في آثارهم فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
فكان الأمر على ما دبروه، فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلا وأسرا، وعاد خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفا على راجلهم فعاد المنهزمون في آثارهم، فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى فقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدت الحرب وكثر القتل في الفرنج، وتمت فيهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون عن القتل إلى الأسر فأسروا ما لا يحد، وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وكان شيطان الفرنج وأشدهم شكيمة على المسلمين "والدوك" مقدم الروم و"ابن جوسلين" وكان عدد القتلى يزيد على عشرة آلاف.
وفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة سار نور الدين إلى قلعة بانياس وهي بالقرب من دمشق، وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ولما فتح حارم أذِن لعسكر الموصل وديار بكر بالعودة إلى بلادهم، وأظهر أنه يريد طبرية، فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها، فسار نور الدين إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة المانعين عنها، فنازل أهلها وضيق عليهم وقاتلهم.
وكان في جملة عسكره أخوه نصر الدين أمير حيران، فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه فلما رآه نور الدين قال له: لو كشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى.
وجد في حصارها، فاجتمع الفرنج فلم تتكامل عدتهم حتى فتحها، على أن الفرنج قد ضعفوا بقتل رجالهم في حارم وأسرهم، فملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالا، وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرروا له على الأعمال التي لم يشاطرهم عليها مالا في كل سنة، ووصل خبر استيلاء نور الدين على حصن حارم وحصن بانياس إلى الفرنج بمصر فصالحوا شيركوه وعادوا ليدركوا بانياس، فلم يصلوا إلا وقد استولى عليها نور الدين.
وفي سنة إحدى وستين وخمسمائة سار نور الدين إلى حصن المنيطرة -وكان بيد الفرنج- بعدد قليل من جيشه على غرة منهم، وهو يعلم أنه لو جمع عساكره حذروا، فسار إليهم وانتهز فرصة غفلتهم، فحاصره وجدَّ في قتال أصحابه؛ فأخذه عنوة، وقتل بعض رجاله وسبى بعضهم، ولم يجتمع الفرنج للدفاع عنه إلا وقد استولى عليه، فتفرقوا وأيسوا من رده.
ثم في سنة ثلاث وستين وخمسمائة استولى على بعض قلاعهم وحصونهم ومنها "صافيثا وعريمة".
وعلى إثر انتصارات نور الدين المتتالية في الشام واستيلائه على مصر؛ بعث الصليبيون إلى دول أوروبا يطلبون نجدتهم ويخوفونهم من استيلاء نور الدين على بيت المقدس، فأرسلوا لهم حملة وصلت إلى دمياط، ولما علم بهم الصليبيون في الشام أمدوهم بالجيوش، وكان أسد الدين شيركوه قد مات، وخلفه على ولاية مصر ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، فأرسل الجيوش إلى دمياط، واستمد نور الدين فأمده بالجيوش إرسالا، وانتهز فرصة خروج جيوش الصليبيين إلى مصر فأغار على بلادهم في الشام، واستولى على كثير منها وخرب كثيرا من حصونهم، وقاومهم في مصر حتى هزمهم، ورجعت الحملة الصليبية إلى أوربا خاسئة حسيرة، ورجع الصليبيون إلى الشام فوجدوا نور الدين قد استولى على كثير من بلادهم، فخسروا الشام ولم يكسبوا مصر.
ثم حاصر نور الدين حصن الكرك وهو من أمنع المعاقل على طرف البر فحاصره وضيق على أهله، ونصب عليه المنجنيقات، فأتاه الخبر أن الصليبيين قد جمعوا له وساروا إليه وقد جعلوا على مقدمتهم "ابن هنغري" و"فيليب بن الرقيق" وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقدمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتحق بهما باقي الفرنج، فلما قاربهما رجعا القهقرى واجتمعا بباقي الفرنج، وسلك نور الدين وسط بلادهم يفتح القرى، وأقام ينظر حركة الفرنج فلم يبرحوا مكانهم، وكان قد سار نور الدين ومعه مائتا فارس فصادف ثلاثمائة فارس من الصليبيين فاقتتلوا واشتد القتال وصبر الفريقان، وكثر القتلى بين الطائفتين فانهزم الصليبيون، وعمَّهم القتل والأسر، ولم يفلت منهم إلا من لا يعتد به.
ثم حمل نور الدين محمود على الفرنج لتأديبهم لما استولوا على مركبين تجاريين للمسلمين، فحمل حملة واسعة فيما تبقى من أملاكهم حتى خضعوا وسلموا ما أخذوا بذلة وصغار.
وهذا ما كان عليه عز الدولة الإسلامية في زمن نور الدين محمود -رحمه الله-، هذا الملك الذي أعز الله به الدين ورفع الذل عن المسلمين.