لماذا حزن يعقوب على يوسف -عليهما السلام-
كتبه/ ياسر برهامي
عدد سيدنا يعقوب أنواعًا من العبودية: عبادة الصبر، عبادة الرجاء، عبادة شهود آثار العلم والحكمة، الابتعاد عن الجاهلين، والتولي عنهم، والشكوى إلى الله -تعالى-، وتذكر صــفات الرحمـة، وتذكـر صفـات القدرة، وصفـات الحكمة (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (يوسف/86)، (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية96)
ولو سئل أحد: هل الله عليم حكيم؟ لأقر أن الله عليم حكيم، ولكن الأمر ليس بالمعرفة وحدها، ولكن بالشهود والحضور في القلب، وهذا هو المفيد في طريقة القرآن في عرض هذه المواقف، حتى نتعظ بها، فكم في هذا الألم الذي قدره الله على يعقوب -عليه السلام- من الحكم البالغة والمصالح العظيمة وعبادته -تعالى-، وقدوة وأسوة، وصبر وحلم، ورجاء وحسن ظن بالله، ومعرفة بأسمائه وصفاته، وشهود آثارها في هذا الكون وكم ارتفعت درجات يعقوب -عليه السلام- عند الله، وكم من ثناء حسن ولسان صدقٍ في الآخرين بسبب موقفه الرائع: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)(يوسف: من الآية18)
فاللهم لك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت به وأوليت، فانظر إلى تعامل يعقوب -عليه السلام- مع هذه المواقف:
موقف اتهام ابنه بالسرقة لم يغضب ولكن قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) شيء رائع بالفعل، ارتفع به درجات، لذلك هو يحمد ربه عليه، ونحن بعدما شهدنا نهاية القصة علمنا أن هذا الألم كان في مصلحة يعقوب -عليه السلام-، فارتفعت درجاته وصار قدوة لكل مربٍّ وقدوة لكل مؤمن ومؤمنة في الحقيقة، لأنه كيف واجه أبناءه حينما ارتكبوا هذه الجريمة في ظنه، وهم مرتكبون للجرائم قبل ذلك، من خيانة وكذب وغدر.
فقوله -تعالى-: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف:84)، يدل على أنه أعرض عن أبنائه، وهذا الإعراض دواء وعلاج لهذا الداء، وهو عظيم الفائدة في أن يتنحى الإنسان عمن يسبب له ضيقًا، وعمن يفكر كثيرًا في تقصيره ناحيته، أعرض يعقوب -عليه السلام- عنهم وتولى عنهم، وقال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)(يوسف: من الآية84) تذكر حزنه القديم على يوسف -عليه السلام-، فقد جدد له فَقْدُ ابنِه حُزنَ فقْدِ يوسف، وهذا الحزن موجود في قلبه، ولكن الصبر الجميل منع من ظهوره أمامهم، وقد يتعجب المرء لأن فقد بنيامين كان يناسبه أن يقول: يا أسفا على بنيامين، ولكنه يقول: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) سبحان الله هذه نقطة عجيبة الشأن، فلا يشك أحد أن يوسف أحب إليه، ثم إن هذا الموقف ذكّره بقيمة يوسف -عليه السلام- وقدره وصفاته الجميلة، لما وجدهم أحد عشر رجلا ولم يقدروا على أن يحفظوا واحدًا، ولا يقدرون أن يرجعوا سالمين من هذه الرحلة، وكان منهم بنيامين، فما قدرهم بالنسبة إلى قدر يوسف -عليه السلام-؟
إن هذه البلايا إنما يقوم لها يوسف -عليه السلام- مقامهم مجتمعين، بل خيرًا منهم بلا شك، فقد قام سيدنا يوسف أمة كاملة وما حولها من الشعوب في فترة المحنة في مصر، إخوته أحد عشر رجلا ولم يقدروا أن يحفظوا واحدًا، وحفظ الله بيوسف الأرض التي حولهم إلى أن رجعوا من أرض كنعان إلى أرض مصر، لتدبير يوسف -عليه السلام- ولحكمته التي يعلّمه الله إياها، بعد أن كان هذا الأمر مُهلكًا مدمرًا ويكاد يموت كل من حولهم، وهو خير منهم بلا شك، ووالله لقد كان، فيوسف هو الذي فرج الله به كرب يعقوب في بنيه، ووالله لو تعرض إنسان لمثل هذا لكان من أشد الكرب، فلو كان غريب يفعل فيه هذه الأفعال ما تحمل، فكيف بأبنائه أنهم هم الذين يفعلون به ذلك، فضيعوا أخاهم الأول والثاني والثالث، لقد كان يوسف هو الذي يفرج الله به كرب يعقوب -عليه السلام- في بنيه، ولكنه يفتقده حينما قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)
إن فقْد الرجال، وغياب الكرماء، وانعدام الثقات هو الذي يؤلم رعاة البشر الأنبياء وأتباعهم.
فلم يجد يعقوب أحدًا في المحنة إلا يوسف -عليه السلام- يقوم لها لذا قــال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف ) إن هذا المعنى هو الذي جعل عمر -رضي الله عنه- عندما صلى بالناس فقرأ هذه السورة حتى إذا وصل إلى قوله تعالى عن يعقوب في هذا الموضع(إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) سمع نحيبه ونشيجه من آخر المسجد، فعمر -رضي الله عنه- فتح الله عليه الفتوحات، فما الذي جعله يبكي هذا البكاء الشديد حتى يسمع من آخر المسجد حينما يـمر على سورة يوسف وخــاصةً هـذا الموقـف (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)؟ ونحن نعلم أنه هو الذي يقول: (اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة)، وهو الذي يقول لجلسائه: «تمنوا» فيتمنى أحدهم مالاً ينفقه في سبيل الله، ويتمنى الآخر خيلا يجاهد عليها في سبيل الله، وغير ذلك، فقال: «لكني أتمنى دارًا مثل هذه فيها رجال مثل أبي عبيدة بن الجراح أستعملهم في أمور المسلمين» لم ير أحدًا مثل أبي عبيدة، لذلك يشتكي إلى الله -تعالى- أو كما قال -رضي الله عنه-.
إنه والله لهمّ عظيم وشدة شديدة أن يُفقد الرجال، وإذا كان في زمان عمر والصحابة حوله متوفرون -رضي الله عنهم- يشكو إلى الله -تعالى-، بل أعظم من ذلك إذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يقول: (النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لاَ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) رواه مسلم.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- وحوله خير من صحب الأنبياء على الإطلاق يقول ذلك، والراحلة هي التي تسافر السفر الطويل وتحمل الأعباء هي أقل من واحد بالمائة في الإبل، كذلك من يتحمل أعباء الأمة أقل من واحد بالمائة في الناس، وهذا في زمن الصحابة، وعمر يشتكي رجالاً، ويبكي عند سماع هذه الآية (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(يوسف/84‑86) فكيف بأزمنة انعدمت فيها الثقات؟ وما بالنا بزماننا؟ فإذا كان عمر يبكي ويشكو إلى الله، فماذا نصنع فيما عندنا؟!!
والمصيبة الأعظم أن كثيرًا منا لا يفكر في المسلمين أو يبحث عنهم، فلا تجد أحدًا ينظر ويبحث عن أحد إلا من رحم الله.
انظر إلى عمر -رضي الله عنه- الذي تضرب به الأمثلة في كل مكان، ورغم ذلك لم يجد أناسًا مثل أبي عبيدة بن الجراح، لذلك يشكو إلى الله، فماذا نشكو إلى الله؟ إما أن الأمر ليس في بالنا، من صلاح المسلمين، وعلاج أمراضهم، وكشف كرباتهم.
اللهـم إليـك المشتكى، فيا أسفـا على أصحـاب رســول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمثالهم وأشباههم وأتباعهم.