كانت غزوة أحد غزوة الدروس والعبر، كانت درساً عملياً للصحابة الكرام، دفعوا ثمنه غالياً جراحاً وأرواحاً، آلاما وأتراحاً، إلا أن الدرس ظل باقياً على مر العصور يتعلم منه المسلمون أسباب النصر، وأسباب الهزيمة، وثمار التوكل على الله والثقة به، وعاقبة التطلع إلى الدنيا، والرغبة في أعراضها وشهواتها.
كانت قريش قد امتلأت قلوبها حقداً وغيظاً بعد قتل أئمة الكفر وصناديد الشرك يوم بدر، فعبأت قوتها، واستعانت بحلفائها، وخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل تريد أن تثأر من المسلمين، ولما أرسل العباس رضي الله عنه من مكة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر قريش، جمع النبي أصحابه ليشاورهم، فكان رأى الشباب والمتشوقين إلى ملاقاة العدو ممن لم يتح له هذا الشرف، ولم يشهد بدراً أن يخرجوا للقاء قريش خارج المدينة، وكان رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الشيوخ من أصحابه أن يبقوا في المدينة ليقاتلوا قريشا في الأزقة ومن أسطح البيوت لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمضى ما أشار به أغلب الصحابة ترسيخا لمبدأ الشورى . وظاهر يومئذ بين درعين ليُعلم أصحابه والمسلمين من بعدهم ضرورة الأخذ بالأسباب، وأن هذا لا ينافي التوكل على الله عز وجل.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في جيش على الثلث من جيش المشركين، حيث كانوا ألفاً والمشركون ثلاثة آلاف.
وفي الطريق فاجأهم عبد الله بن أبيّ بانسحابه بثلث جيش المسلمين، فكانت هذه أول فوائد الغزوة، حيث تميز صف المنافقين عن المؤمنين تحقيقاً لقوله تعالى:{ مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }[آل عمران: 179] ولقوله: { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ }[ آل عمران:166-167] وبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون الصادقون الذين صار عددهم سبعمائة مقاتل واصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم السير نحو أحد، حيث جعلوا ظهورهم للجبل، ووجوههم نحو المدينة، ثم عبأ جيشه، وقسمه كتائب ثلاثاً، وهيأهم صفوفاً للقتال، واختار فصيلة من الرماة الماهرين، وعين لهم قائداً ماهراً، وأمرهم أن يكونوا فوق جبل عيْنين المقابل لأحد والذي عرف فيما بعد بجبل الرماة، ووضع خطة محكمة ضمنت لهم أفضل موقع في ميدان المعركة رغم أن المشركين سبقوا إلى ميدانها، فأصبح عسكر المسلمين في موضع مرتفع، وألجئ المشركون إلى موضع منخفض يجعلهم منكشفين أمام المسلمين وسهامهم، ثم شرح النبي صلى الله عليه وسلم خطته للرماة، وأكد لهم خطورة دورهم حتى قال لهم: أن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
ثم تدانت الفئتان، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يجالدوا أعدائهم، وبدأت مراحل القتال الأولى تثير الغرابة، كأن ثلاثة آلاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم! لا بضع مئات قلائل! وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين كما وصفهم الله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ }[آل عمران:152] والحس هو القتل أي تستأصلونهم قتلا.
وللتاريخ صوراً بطولية لجماعات من الصحابة رضي الله عنهم يصعب أن تتكرر كحمزة رضي الله عنه والزبير وأبي دجانة وأنس بن النضر ومصعب بن عمير وعبد الله بن حرام وغيرهم كثير ممن وصفهم الله بقوله: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ }[الأحزاب:23]. وقد بذلت قريش أقصى جهدها لتحطيم عنفوان المسلمين، لكنها أحست بالعجز وانكسرت همتها أمام ثبات المسلمين وإقدامهم، كما لم تفلح محاولات نسوة قريش اللاتى جئن لاستنهاض الرجال وتحريضهم على القتال كيلا يفروا، ولم تفلح هذه المحاولات من ضرب الدفوف وإنشاد الأشعار وتحريك المشاعر، فما هو إلا أن لذن بالفرار خلف رجالهن وفرسانهن !!.
وفي لحظة ضعف بشرى عرضت لفريق الرماة الذي كان الدرع الواقي للجيش، في لحظة صورها الله بقوله: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ }[آل عمران:152]، وفي لحظة التفاتة إلى الدنيا ونسيان لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى الرماة الهزيمة حلت بالمشركين، ورأوا رجالهم يولون الأدبار، ونسائهم يهمن في الجبال، الغنائم تزحم الوادي، قال أكثر الرماة: ما لنا في الوقوف حاجة! الغنيمة الغنيمة، انتصر أصحابكم، فماذا تنتظرون! فذكرهم رئيسهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن أكثرهم لم يلتفت إليه، وكانت الكارثة! حيث رأى خالد بن الوليد انكشاف مؤخرة المسلمين فاستدار بسرعة خاطفة مع بعض فرسان المشركين، وانقضوا على المسلمين من خلفهم، وعجز قائد الرماة والتسعة الباقون معه من أصحابه الخمسين أن يصدوا خالد ومن معه، ثم صاح خالد ومن معه بالمشركين الفارين، وأسرعت امرأة من المشركين برفع لواء المشركين الذي كان مطروحاً في التراب فالتف حوله المشركون ونادى بعضهم بعضا، وانقلبت الصورة وعظمت الفتنة، وفر كثير من المسلمين، والله يغفر لهم بفضله ومنه { وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }[آل عمران:155]، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر قليل من أصحابه كتبوا بدمائهم مواقف من نور، وأبلوا بلاء حسناً لانظير له، وقتل يومئذ سبعون من الصحابة رضي الله عنهم، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وشج في رأسه، وكسرت أنيابه ودخلت حلقتا المغفر في وجنته الشريفة، حتى قال كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الإسلام، ثم لم يلبث أن قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون!) وتنتهي الغزوة ويبقى الدرس ماثلاً أمام أعين التاريخ، درس عميق يتعلم منه المسلمون وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطورة مخالفة أمره.
قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[النور:63]، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، ولم تلن له قناة، ولم تزعزعه الأحداث كما هو شأنه بأبي هو وأمي في سائر المواقف الصعبة، وخلص بعض المشركين إليه يريد قتله، وكان في سبعة من الأنصار، ورجلين من المهاجرين، فقال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فقاتلوا عنه واحداً واحداً حتى استشهد الأنصار السبعة دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتل عنه طلحة حتى شلت يده بسهم أصابها، وقاتل سعد بين يديه، والنبي صلى الله عليه وسلم يناوله السهام ويقول: ارم سعد فداك أبي وأمي! ودافع أبو طلحة الأنصارى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان النبي يقول إعجاباً من قتاله: (لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على الكافرين من فئة) وحمى أبو دجانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره حتى كثر النبل فيه وقاتل مصعب بن عمير دون لواء المسلمين حتى قتل، وقاتل حمزة قتال الأبطال حتى رماه وحشي بحربته فقتله، وتأتى صفية لتشاهد أخاها حمزة وقد مثل به، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها كيلا ترى ما بأخيها فتقول: ولم ؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله !!.
وقد كان منظر الشهداء السبعين فظيعاً يفتت الأكباد، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم ليدفنهم وقال: (أنا شهيد على هؤلاء)، إنه ما من مجروح في سبيل الله، إلا ويبعثه الله يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
ولم يخسر من هؤلاء القتلى والجرحى ـ ممن قاتل يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إلا رجل يسمى قزمان، قاتل قتال الأبطال، ورآه الصحابة يحصد المشركين، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بحسن بلائه في المعركة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هو في النار،فتعجب الصحابة من ذلك، فتتبع الناس بطولاته، حتى إذا أصابته جراحه احتملوه، وسألوه عن حسن بلائه، فقال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي! ولولا ذلك ما قاتلت! فلما اشتد به الجرح تحامل على السيف حتى قتل نفسه! وهكذا كل مقاتل في سبيل الوطنية أو القومية، وإن قاتل تحت لواء الإسلام، بل وفي جيش الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، ومن قاتل لغير ذلك من الأهداف مهما سمت في نظر الناس، فليس بشهيد، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.