فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب التاريخ قصته بماء العيون، حق على كل شاب من شباب المسلمين أن يطالع سيرته، ويتأمل مواقفه.
نشأ مترفاً مدللا منعماً، لأبوين غنيين، حسيبين، نسيبين، قريشيين، عرفته نوادى مكة بلياليها المقمرة، وسيماً متأنقا، مختالاً متألقاً، ضاحكاً متبختراً، منعماً متعطراً، يأكل ويشرب، ويلهو ويلعب، يبحث عن مواطن اللذة، وأسباب النعيم، يدفعه إلى ذلك دفعا بيئة لاهية عابثة، وعادات ماجنة، وأعراف واهية، وأبوان يتصديان لكل ما يعكر لذته، ويعوق شهوته.
وبينما هو على ذلك، سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كانت تمثل محضن المسلمين في أول البعثة، ومنطلق الدعوة، ومراكز التربية، ووجد هناك أخلاطا عجيبة! لم تجمعهم عصبية معينة، ولا ألفت بينهم مصلحة من مصالح الدنيا، ولا جاءت بهم شهوة أو لذة من لذاتها، ما الذي جمع أبا بكر وعثمان وطلحة، مع بلال وعمار وصهيب ؟! لاشك أن لهؤلاء طموحات أخرى، وأهدافا مغايرة، وآمالاً مختلفة، وتطلعات بعيدة بحيث يصعب عليه إدراكها، لقد أخذته روعة الإيمان حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلم سراً خوفاً من أمه وقومه فصدق منذ اللحظة الأولى، وتنكر لطموحاته القديمة التي ما كانت تتعدى حياة البهائم السائمة، ونذر نفسه لخدمة الدين، ومصالح المسلمين، ووضع نفسه رهن إشارة إمام المتقين صلى الله عليه وسلم فهاجر إلى الحبشة، وترك الترفه والنعيم، وانقلب حاله تماماً، واختلفت سيرته وصار الشباب من أصحابه يعجبون من مظاهر الجد التي ظهرت عليه، والوقار الذي بدأ يكسو حياته كلها، وحاولت أمه المشفقة أن تصل إلى ما في نفسه فلم تتمكن، غير أنها لمحت في وجهه آثار تفكير عميق، وعزم صارم، وطمأنينة غريبة، حولت عبثه ومجونه إلى حكمة وتعقل ووقار.
لقد أضحى في عالم غير عالمهم، وفي حياة غير تلك التي تعودوها، ولقد ودعهم إلى الأبد! فليس منهم اليوم، وليسوا منه، لقد أسلم، وعرف طريقه، وأنهى قصة الصراع المحتدم في نفسه بين فطرته التي تفتحت للحق،ورأت فيه روحها وأملها وطمأنينتها، ومصيرها، وبين الجاهلية الصاخبة المتناقضة الهابطة، التي تخيم على المجتمع بأسره، وهاجر إلى الحبشة، ثم عاد لينتدبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعظم مهمة جلبت له شرف الدنيا والآخرة، لقد طلب الأنصار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا يفقههم في الدين ويُقرئهم القرآن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشاب الذي صار يعرف كيف يحمل الأمانة، ويتحمل المسئولية، ويعمل من أجل الدين وهناك نزل على أسعد بن زرارة، وعرف بينهم بالمقرئ، وأقام في بيته يدعوا الناس إلى الإسلام حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، ولقد كان يأتيه الرجل من أشراف يثرب وزعمائها، كأسيد بن الحضير، وسعد بن معاذ، وغيرهما، فيقول له أسعد بن زرارة، هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، فيقف الرجل عليهما ويغلظ لهما القول، فيقول له: أتجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهت كف عنك ما تكره ؟ فيقول له: أنصفت! فما هي إلا لحظات يكلمه فيها بالإسلام ويتلو عليه القرآن إلا ويعرف الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، ثم يذهب فيأتي بمن وراءه!.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة شرفه النبي صلى الله عليه وسلم بحمل لواء المسلمين يوم بدر، وأعز الله المسلمين، ثم عاد فشرفه يوم أحد بحمل اللواء، ولما انكشف المسلمون ثبت رضى الله وأبلى بلاء حسناً، وقاتل قتال الأبطال دفاعاً عن عقيدته وحميت المعركة وتدافع المشركون نحو اللواء، يريدون أن يسقطوه ليرفعوا لواءهم، وليثبتوا أن الدائرة لهم، لكنه استبسل وظل ينافح بسيفه وجسده، وأشاع المشركون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فلم يفتَّ ذلك من عضده، فأقبل عليه ابن أبي قمئة فضرب يده اليمنى فقطعها، فجعل يهتف { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ }[آل عمران: 144] ثم أخذ اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع ، فضرب اللعين يده اليسرى فقطعها ، فحنا على اللواء وضمه إلى صدره بعضديه ليبقى اللواء مرتفعا رغم الدماء والأشلاء وهو يقول ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ثم حمل عليه ابن أبي قمئة للمرة الثالثة بالرمح فأنفذه ليصدق قول الشاعر:
صابر الصبر فاستجار به الصبر وقال الصبور للصبرصبرا
وإذا كانت النفــوس كبـــارا تعبت في مرادها الأجسـام
ويمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من القتال فيجده مقتولا، فيقرأ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }[الأحزاب:23] فهذا نموذج للشخصية المسلمة المتميزة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الإيمان والوفاء، والتضحية والفداء، والبذل والعطاء، ولم يكن هذا النموذج غريباً في جيله، وحيداً في زمانه، ما هو إلا رجل بين رجال عرفوا معنى الرجولة الحقة، وعرفوا كيف تكون الهمم، وكيف تكون الطموحات.
وإذا كان أعظم ما يملكه الإنسان عمره وأوقاته، وأنفاسه ولحظاته، لأنها مطيته إلى الجنة أو النار ، فإن هؤلاء الميامن قد عرفوا كيف يتاجرون، وكيف يربحون، فأسسوا ملكاً، وبنوا مجداً، وحققوا عزاً دام لهم في الدنيا والآخرة، نالوه بطموحات صحيحة، وآمال مشرقة، فأين من هؤلاء شباب أمله الذي يعيش من أجله أن ينتصر فريق الكرة الذي يشجعه، أو تصعد بلاده إلى كأس العالم، أو يصبح هدافاً للمنتخب ؟! وأين من هؤلاء شباب يتطلع أن يكون كالمطرب المعروف، أو الممثل المشهور، نجماً تلاحقه الأضواء، وتكتب عنه الصحف، وتجري الأموال بين يديه، وأين هؤلاء من رجال قصارى همة أحدهم في قطعة أرض يبنيها، وسيارة يقتنيها، ومشروع يدر أرباحاً يأكل منها ويشرب، ويلهو بها ويلعب، وليس له همة وراء هذا!.
إذا كان هؤلاء يعيشون لأنفسهم، ويعملون لحساب ذواتهم، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد عاشوا للإسلام، ونذروا أنفسهم للدفاع عن قضاياه، وإذا كان هؤلاء يتطلعون لبناء أمجاد ذاتية، وتحقيق طموحات شخصية، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حملوا أمانة الدعوة، وبذلوا دمائهم وأرواحهم كيلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وإذا كان هؤلاء شعارهم: نفسي ثم نفسي ثم نفسي فإن أصحاب محمد كان شعارهم:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا
وإذا كان هؤلاء قد جهلوا سبب وجودهم، ونسوا أو تناسوا الهدف من خلقهم، فتدنت طموحاتهم، وتقاصرت هممهم، وتقزمت أهدافهم، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد عرفوا سر وجودهم، والحكمة من خلقهم { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]
من أجل ذلك سمت أهدافهم، وعظمت هممهم، وتشامخت طموحاتهم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح